صلة الرحم

خالد بن عبدالله الشايع

2022-10-09 - 1444/03/13
عناصر الخطبة
1/ الإحسان إلى الناس مما حثت عليه الشريعة 2/ فضل صلة الرحم 3/ قطيعة الرحم من كبائر الذنوب 4/ عاقبة قطيعة الرحم 5/ معنى صلة الأرحام 6/ مراتب ذوي الأرحام 7/ ليس الواصل بالمكافئ

اقتباس

أيها المؤمنون: إن قطيعة الرحم كبيرة من كبائر الذنوب التي توعد الله مرتكبها بألوان من الوعيد والعقوبات العاجلة والآجلة في الدنيا والآخرة، فقاطع الرحم مقطوع من الله تعالى، ومن قطعه الله -جل وعلا- فأي خير يرجوه، وأي...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله...

 

أما بعد:

 

أيها المؤمنون: لقد منّ الله سبحانه على هذه الأمة بأن فرض عليها أفضل شرائع دينه، فهي شريعة كاملة، صالحة لكل زمان ومكان، من تمسّك بها أفلح ونجح في الدنيا والآخرة، ومن أعرض عنها خاب وخسر في الدنيا والآخرة.

 

وإن مما حثت عليه الشريعة الغراء: الإحسان إلى الناس، وحفظ الود لهم، ولين الجانب فيما بينهم، فلن يستطيع الإنسان أن يملك قلوب الناس ولا يسعهم بماله، ولكن بحسن الخلق وكريم الطباع.

 

ولهذا وردت النصوص الشرعية في الكتاب والسنة وعن سلف الأمة، التي تحث على صلة الأرحام التي ما من مسلم إلا وله رحم بأخيه المسلم، ابتداءً بالرحم الأول، من حواء -عليها السلام-، فالناس كلهم يرجعون إلى أصل واحد، وإن اختلفت اللهجات واللغات والدماء والألوان.

 

قال -جل ذكره-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا) [النساء: 1]، فذكر سبحانه أن أصل الخلق أب واحد وأم واحدة، وذكر به ليعطف بعضهم على بعض ويحثهم على البر بضعفائهم، وأخبر أنه سبحانه مراقب لجميع أحوالهم وأعمالهم.

 

وكلما اقترب عمود النسب فيك؛ ازدادت حقوق هذا القريب زيادة على حق الإسلام، حتى تصل إلى أصل رحمك، أولاهما الأب والأم.

 

أيها المسلمون: إن صلة الرحم هي من أول ما دعا إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- كما أخرج البخاري من حديث ابن عباس عن أبي سفيان -رضي الله عنه- حين سأله هرقل قائلاً: فماذا يأمركم؟! يعني النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال أبو سفيان: قلت: يقول: اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والصدقة والعفاف والصلة.

 

بل إن النبي -صلى الله عليه وسلم- جعل صلة الرحم من علامات الإيمان وواجباته، أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه".

 

أيها المؤمنون: إن قطيعة الرحم كبيرة من كبائر الذنوب التي توعد الله مرتكبها بألوان من الوعيد والعقوبات العاجلة والآجلة في الدنيا والآخرة، فقاطع الرحم مقطوع من الله تعالى، ومن قطعه الله -جل وعلا- فأي خير يرجوه، وأي شر وسوء يأمن منه في عاجل أمره وآجله!!

 

أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال الله: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟! قالت: بلى! قال: فإن ذلك لك".

 

وإن قطيعة الرحم من الذنوب التي تعجل عقوبتها في الدنيا، زيادة على ما يدخر لصاحبها يوم القيامة، أخرج أبو داود والترمذي من حديث أبي بكرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من ذنب أحرى أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم".

 

ولقد توعد الله سبحانه القاطع لرحمه باللعنة وبسوء الدار في الآخرة، (وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) [الرعد: 25].

 

عباد الله: إن قطيعة الرحم من أسباب طمس القلوب، وعمى البصائر، والحرمان من العلم النافع، بل ومن كل خير لأنها من الفساد في الأرض: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) [محمد: 22، 23].

 

ومن عقوبة قاطع الرحم أنه قد عرّض نفسه لعدم استجابة دعائه، فقد روي أن ابن مسعود -رضي الله عنه- كان جالسًا بعد الصبح في حلقته فقال: "أنشد الله قاطع رحم لما قام عنا، فإنا نريد أن ندعو ربنا، وإن أبواب السماء مرتجة دون قاطع الرحم".

 

بل إن قاطع الرحم ليعم سوؤه على من حوله، أخرج مسلم من حديث عبد الله بن أبي أوفى قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تنزل الرحمة على قوم فيهم قاطع رحم"، بل أعظم من ذا وذاك، أن قاطع الرحم مهدد بعدم دخول الجنة، والعياذ بالله.

 

أخرج البخاري ومسلم من حديث جبير بن مطعم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يدخل الجنة قاطع".

 

أيها المسلمون: تلك جملة من عقوبات قاطع الرحم، أسأل الله تعالى أن يعافينا وإخواننا المسلمين، إنه سميع مجيب الدعاء.

 

 

الخطبة الثانية:

 

أمة الإسلام: إن صلة الرحم حاجة فطرية، وضرورة اجتماعية تقتضيها الفطرة الصحيحة، وتميل إليها الطباع السليمة، فبها يتم الأنس وتنشر المحبة وتسود المودة.

 

فإذا علم هذا وجب على المسلم أن يتعرف من نسبة ما يصل به رحمه، أخرج الإمام أحمد من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فإن صلة الرحم محبة في الأهل، مثراة في المال، منسأة في الأثر".

 

ما معنى صلة الأرحام؟!

 

إن الأرحام جمع رحم، وهو في الأصل مكان تكوين الجنين في بطن أمه، ثم استعير لقبًا للقرابة مطلقًا لكونهم خارجين من رحم واحدة، فصار اسمًا لكافة أقارب الشخص كأبيه وأمه وأخته وأخيه وابنه وبنته وكل من بينه وبينهم صلة من هذه الجهات كالأجداد والجدات وإن علوا، والأبناء والبنات وإن نزلوا، والإخوان والأخوات، والأعمام والعمات، والأخوال والخالات، وأبناء الجميع، سواء أكان الواحد منهم قريبًا مباشرًا أو غير مباشر، محرمًا أو غير محرم، كل من هؤلاء له من الصلة بحسب منزلته وحاله وحاجته.

 

أيها المؤمنون: إن بعض المسلمين لا يعرف معنى صلة الرحم، ومتى يكون الإنسان واصلاً لرحمه، قال النووي -رحمه الله-: "هي الإحسان إلى الأقارب على حسب حال الواصل والموصول، فتارة تكون بالمال وتارة تكون بالخدمة، وتارة تكون بالزيارات والسلام وغير ذلك".

 

وقال ابن أبي حمزة -رحمه الله-: "تكون صلة الرحم بالمال وبالعون على الحاجة، وبدفع الضرر، وبطلاقة الوجه، وبالدعاء".

 

وقال القرطبي -رحمه الله-: "تجب مواصلة الرحم بالتودد والتناصح، والعدل والإنصاف والقيام بالحقوق الواجبة والمستحبة، والنفقة على القريب وتفقد أحوالهم والتغافل عن زلاتهم"، وتكون الصلة كذلك بإتيانهم بالإحسان والصدقة والهدية على من سواهم ودعوتهم وتوجيههم إلى الخير قبل جميع الناس؛ تحقيقًا لقوله سبحانه: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) [الشعراء: 214].

 

والمعنى الجامع لصلة الرحم هو: إيصال ما أمكن من الخير إليهم، ودفع ما أمكن من الشر عنهم بحسب الوسع والطاقة.

 

ولنعلم أن لذوي الأرحام مراتب في الصلة، قال النووي -رحمه الله-: "يستحب أن تقدم الأم في البر ثم الأب، ثم الأولاد، ثم الأجداد والجدات، ثم الإخوان والأخوات، ثم سائر المحارم من ذوي الأرحام".

 

أخرج أبو داود من حديث أبي رقية قال: انتهيت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسمعته يقول: "أمك وأباك، ثم أختك وأخاك، ثم أدناك أدناك".

 

وصلة الرحم لا تقتصر على القريب فقط، بل حتى الرحم البعيدة، فينبغي للمسلم أن يعطيها حقها من الصلة، أخرج مسلم من حديث أبي ذر -رضي الله عنه- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنكم ستفتحون أرضًا يذكر فيها القيراط"، وفي رواية: "ستفتحون مصر، وهي أرض يذكر فيها القيراط، فاستوصوا بأهلها خيرًا"، وفي رواية: "فأحسنوا إلى أهلها؛ فإن لهم ذمة ورحمًا". أو قال: "صهرًا".

 

قال النووي -رحمه الله-: "قال العلماء:" الرحم التي لهم كون هاجر أم إسماعيل -صلى الله عليه وسلم- منهم، والصهر كون مارية أم إبراهيم ابن النبي -صلى الله عليه وسلم- منهم".

 

عباد الله: ليس الواصل بالمكافئ، بل إن الواصل الذي إذا انقطعت رحمه وصلها، فإنه وللأسف نسمع من يقول: إنما أذهب إلى من يأتي إليّ، والذي لا يزور لا يزار. وهذا خلاف الهدي النبوي، فإن الصلة من لفظها يتبين أنها في الأصل لمن انقطعت بينه وبينهم فيصلهم.

 

أيها المسلمون: إن قاطع الرحم -إضافة إلى ما أعد له من العقوبة- قد فوت على نفسه أجورًا كثيرة، فمن ذلك: أنها سبب لصلة الله تعالى لهذا العبد كما سبق ذكره، كما أنها سعة في الرزق وزيادة في العمر، أخرج البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من سرّه أن يبسط له في رزقه، وأن ينسأ له في أثره، فليصل رحمه".

 

وذلك بأن يبارك الله له في حاله وعمره، فيعمل فيها ما لا يعمله الغني المعمر، وإن صلة الرحمن أفضل من إعتاق الرقاب، أخرج البخاري ومسلم من حديث ميمونة -رضي الله عنها- قالت: يا رسول الله: أشعرت أني أعتقت وليدتي، قال: "أوَفعلتي؟!"، قالت: نعم، قال: أما إنك لو أعطيتيها أخوالك كان أعظم لأجرك.

 

أيها المؤمنون: إن من أعظم صلة الرحم: صلة الوالدين بالعطف عليهما ولين الجانب لهما، وتقديم حقهما على كل حق سوى حق الله تعالى، فويل لمن يهين أمه ويكرم امرأته، ويل لمن يبعد أباه ويقرب صديقه، فمن فعل ذلك فإنه المحروم حقًّا. أعاذنا الله وإياكم من ذلك.

 

اللهم أعنّا على صلة أرحامنا على الوجه الذي يرضيك عنا. اللهم وفقنا لهداك واجعل عملنا في رضاك.

 

 

 

المرفقات

الرحم6

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات