حياتك قاعة امتحان

فواز بن لافي الرحيمي

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: التربية
عناصر الخطبة
1/ الدنيا دار ابتلاء 2/ تنوع الابتلاء بتنوع الأقدار 3/ امتحان المرء بالخير والشر وأحوال الآخرين4/ مشابهة أخذ الكتب يوم القيامة باستلام النتائج

اقتباس

الإنسان في هذه الدنيا في قاعة امتحان، فهو في كل موقف من مواقف الحياة يُمْتَحَن ويُبتلَى، كما... عباد الله: الجمال الذي منحك الله إياه إنما هو امتحان وابتلاء، فلا تظنن أنك نلته بقدراتك الخارقة، أو كسبته بذكائك المفرط، إنما هو من فضل الله -تعالى- القادر على أن يجعل أنفك مشروما، وفمك مشدوقا، وعينك عوراء؛ لكنه...

 

 

 

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره..

 

عباد الله: الإنسان في هذه الدنيا في قاعة امتحان، فهو في كل موقف من مواقف الحياة يُمْتَحَن وَيُبْتلَى، كما قال -تعالى-: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) [الملك:2]،  وقال -تعالى-: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [الأنبياء:35].

 

ومع تنوع الأقدار يتنوع الابتلاء، وفي كل حدث أو موقف؛ بل في كل لحظة من لحظات الحياة يتجلى نوع الاختبار وقوته.

 

فتارة يمتحن الإنسان بالغنى والرفاهية فيبسط له في رزقه ويفتح له في تجارته، أو يتبوّأ مكانة عالية في وظيفته، فمن الناس من يغتر ويتبختر ويتعالى ويتكبر وينسى حق الله في هذا المال، لسان حاله: إنما أوتيته على علم عندي! فتراه ينفق على شهواته ولذاته بسخاء، فلا تسل عن تكاليف رحلاته الصيفية، وأجهزته التقنية؛ لا يبالي بأي سعر كانت، مادام أنها ستكون في حوزته.

 

يسكن في أفخم الفنادق، ويأكل من ألذ المطاعم، ويركب أرفه المراكب، ويحجز في الدرجات الأولى التي تميزه عن غيره من المسافرين.

 

وإذا دعي إلى باب من أبواب الخير ولو بشيء قليل استكثره واستثقله، واختلق الأعذار التي تبرر شحه وبخله، وربما شكك في مصداقية ما دعي إليه!.

 

فكانت نتيجة امتحانه كما قال الله: (هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ) [محمد:38].

 

ومن الناس من أدرك أنه ممتحن في ماله، وأن هذا المال إنما هو عارية لا تدوم، وأيقن أن إنفاقه هو سر بركته وسبب حفظه، وأن إنفاقه محفوظ له في حساب يضاعف فيه أضعافا كثيرة، فقدم لنفسه ما يكون سببا في نجاته، قبل أن يقول: (رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) [المنافقون:10].

 

ومع إنفاقه وبذله لم يحرم نفسه وأهله حظهم من هذا المال والتمتع به بما أحل الله؛ لكنه لم ينس حق الله فيه، فكانت نتيجة امتحانه: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة:274].

 

وحينما تنزل بك الشدائد وتحيط بك اللأواء فأنت ممتحن: هل تجزع وتسخط فتكون نتيجة امتحانك: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) [الحج:11]، أم تصبر وتحتسب وتسترجع وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك؛ فتكون نتيجة امتحانك  (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [البقرة:157].

 

عباد الله: في لحظات الصحة والعافية والقوة والنشاط يمتحن العبد: هل يمشي في الأرض بمرح وخيلاء أم يعترف بفضل الله ونعمته؟ لأن الراسبين في هذا الامتحان هم الذين صرفوا قوتهم ونشاطهم في إيذاء الآخرين، والاستعلاء عليهم؛ أو جعلوا من القوة سلما لإشباع غرائزهم بالحرام، وربما تفاخروا بذلك؛ فكانت نتيجة امتحانهم: (يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) [الفجر:24].

 

وأما الذين عرفوا أن الصحة عارية هم مسؤولون عنها جعلوها في اغتنام الأوقات بالباقيات الصالحات والاستكثار من الخيرات، وبنوا بها أعمالا صالحات، وتقووا بها على سائر القربات.

 

عباد الله: فكما أن أقدار الله عليك من خير وشر امتحان لك، كذلك أقداره على غيرك امتحان لك.

 

فحينما ترى نعمة على غيرك: هل تكون ممن قال الله فيهم: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) [النساء:54]، أم تدعو لهم بالبركة؛ عملا بوصية محمد -صلى الله عليه وسلم- لمن رأى ما يعجبه في غيره!.

 

وحينما تسمع بمصيبة وقعت على غيرك هل تفرح وتشمت، أم تدعو له بالفرج، وتسعى له في المخرج؟.

 

وهكذا عباد الله المنصب والجاه امتحان من الله تمتحن به في أمانتك، وهل أنت ممن استغل نفوذه في تحصيل مصالحه على حساب أصحاب الحقوق والحاجات وزاده منصبه بعدا عن الله؛ فكانت نتيجته: (مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ) [الحاقة:28-29].

 

أم أنت ممن أقام العدل بالقسط وعامل نفسه قبل غيره بإنصاف، وجعل من منصبه طريقا لإيصال الحقوق لأصحابها، ولم يغش نفسه ولا أمته ولا وطنه، وأرعى سمعه للمظلومين فنصرهم، وللمحرومين فأعطاهم.

 

عباد الله: الجمال الذي منحك الله إياه إنما هو امتحان وابتلاء، فلا تظنن أنك نلته بقدراتك الخارقة، أو كسبته بذكائك المفرط، إنما هو من فضل الله -تعالى- القادر على أن يجعل أنفك مشروما، وفمك مشدوقا، وعينك عوراء؛ لكنه أحسن خلقك، وأتم عافيتك.

 

فبعض الناس سيكون هذا الجمال وبالاً عليهم وحسرة؛ لأنه جعله أداة لإسقاط الفتيات في حبائله، وربما كان شاذا والعياذ بالله، فجعل جماله ورقة يبيع بها عرضه وشرفه.

 

 (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ) [الانفطار:6-8].

 

والبعض الآخر جعل من جماله طريقا لحمد الله وشكره، ففر من الحرام كما فر يوسف من الحرام إلى السجن فـــــ (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) [يوسف:33].

 

عباد الله: أقارب المرء ضرب من ضروب الامتحان، فقد تبتلى بأقارب محبين مخلصين يحبون لك الخير ويتمنون لك السعادة ويفتقدونك إذا غبت؛ فهل تجازيهم بالإحسان أم تقابلهم بالجحود والنكران؟.

 

وتارة يكون الامتحان بأن تصلهم ويقطعونك، وتحسن إليهم ويسيئون إليك، فهل تجازي السيئة بالسيئة، أم تجازيها بالإحسان؟.

 

ولقد أوصى النبي -صلى الله عليه وسلم- من هذا حاله بأن يستمر على إحسانه؛ ليكون له ظهير من الله.

 

فعلينا -عباد الله- أن نستشعر أننا في دار امتحان وابتلاء، وأننا ممتحنون في كل لحظة من لحظات حياتنا، وفي كل موقف يمر علينا.

 

حتى في معاملاتنا مع من حولنا، فقد تمتحن بجار يؤذيك وقد تمتحن بجار يحبك ويواسيك، وقد تمتحن بسفيه يتطاول عليك كما تمتحن بصاحب وصديق يفديك.

 

حتى الضيف الذي يطرق بابك إنما هو امتحان لك به يبين كرمك من بخلك، ولقد علق الإيمان باليوم الآخر بإكرام الضيف، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه".

 

وصاحب الحاجة الذي قصدك أو استقرضك إنما هو امتحان لبذلك وإحسانك، "اتقوا النار ولو بشق تمرة"، فـــ "مَن لم يجد فبكلمة طيبة".

 

عباد الله: الأمثلة في هذا كثيرة، والموفق من استعمل نعم الله في طاعته، واستكثر من الخيرات وقت حياته؛ ليوافي أعماله الصالحة أحوج ما يكون إليها، فتكون أنيسا له في قبره، ونورا له في حشره، وثقلا مرجحا في ميزانه.

 

 

الخطبة الثانية:

 

عباد الله: إن ما تشهده الأمة من محن وكربات، وما يقع عليها من مصائب ونكبات، إنما هو امتحان لنا في نصرتهم: هل نقف مكتوفي الأيدي ونحن نسمع آهاتهم ونرى جراحاتهم؛ فيطيب لنا العيش ودماؤهم تنزف وأشلاؤهم تمزق وأعراضهم تنتهك؟ والله يقول: (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ) [الأنفال:72].  

 

وقد عاتب الله خيرة خلقه من الصحابة الصادقين بقوله: (وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا) [النساء:75].

 

أم نقدم ما نستطيعه من عون بمال أو جاه أو نفس؛ فإن عجزنا فلا أقل من أن نعيش مع قضاياهم بمشاعرنا ودعواتنا.

 

وهكذا عبد الله، استشعارك أنك في هذه الدنيا في قاعة امتحان يجعلك تسعى لأن تكون من الفائزين، وقد صور الله لنا الموقف في يوم القيامة وحال الخلق عند أخذ كتبهم التي أودعوا فيها أعمالهم تصويرا أشبه ما يكون بتوزيع النتائج بعد انتهاء الامتحانات، يقول الله -تعالى-: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ) [الحاقة:19-21].

 

وفي المقابل: (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ) [الحاقة:25-27].

 

 

 

 

المرفقات

قاعة امتحان

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات