نظرات في سورة الأحزاب

محمد الغزالي

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات: السيرة النبوية
عناصر الخطبة
1/ معاناة المسلمين من الكفار والمنافقين 2/ ضرورة الاستفادة من كتب المعاصرين والقدماء 3/ حديث سورة الأحزاب عن المنافقين وطريقتهم في الإغواء 4/ حديث السورة عن الكفار والمنافقين 5/ تحذير المؤمنين من السير في ركابهم 6/ بعض مواقف من غزوة الخندق 7/ السورة تنظم البيت النبوي 8/ فقر البيت النبوي والحكمة منه 9/ من علامات المجتمع المسلم

اقتباس

ما السبب في هذه المعيشة؟! السبب أن الأمة الإسلامية كانت تواجه مصاعب هائلة، ففي مكة حُصر المسلمون في شِعْب بني هاشم نحو ثلاث سنين كانوا يأكلون التراب من الفقر، فكيف يتوسع؟! ثم بعد الهجرة وجدنا المدينة المنورة تتعرض للهجوم والحصار والضوائق، أكان البيت النبوي...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن محمدًا رسول الله، الرحمة المهدأة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.

 

أما بعد:

 

فإن الجماعة الإسلامية الأولى، والدولة الإسلامية الناشئة في المدينة المنورة عانتا ضغوطًا شديدة من الكفار والمنافقين؛ فأما الكفار فإن أحزابهم على اختلاف مللهم جمعتهم غاية واحدة هي تقويض الإسلام ونسف دعائمه والإتيان عليه من القواعد، يستوي في ذلك الوثنيون وأهل الكتاب. ذاك عمل الأعداء في الخارج، أما عمل المنافقين في الداخل فكان إثارة الفتن والبلبلة الفكرية والعاطفية.

 

ولقد رأيت من تجاربي الكثيرة ومن دراساتي الكثيرة أن عمل المنافقين في الداخل قد يكون أنكى وأقسى من عمل الكفار الصرحاء الذين يهاجمون الدولة من الخارج، قد يكون عمل المنافقين مستورًا تحت أغشية من الخداع والمرونة والمراوغة، وقد يكون مخبوءًا تحت استغفال أصحاب النيات الحسنة وإن كانت عقولهم ضيقة وفقههم قليلاً؛ ذلك لأن الصديق الجاهل قد يكون أشد على صاحبه من العدو العاقل. 

 

وأمس ترامى إليَّ نقاش غريب في جامعة القاهرة، فإن واحدًا من هيئة التدريس في كلية الطب وعددًا من التلامذة له أشاع تفسيرًا غريبًا لقوله تعالى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ). قال: إن الآية صريحة في أن لكل إنسان أن يعمل بالدين وأن يتركه.

 

تفسير الآية في نظره غير تفسيرها عند جمهور الفقهاء والمفسرين على امتداد أربعة عشر قرنًا، هؤلاء جميعًا قالوا: المقصود بالآية أننا لا نكره أحدًا على الدخول في الإسلام، وأن القوة في أيدينا ليست أداة ضغط أو فتنة أو هيمنة على العقل والضمير، فالإسلام غني بحججه، ثري ببراهينه، فهو يسوق قضيته بين أشعة غامرة من البينات والهدى، فمن رد ذلك كله فلا علينا منه، ومن قبل فهو أخونا، أما أن نحتاج إلى سلاح لتأسيس إيمان في قلب أو يقين في فؤاد فلا.

 

لكن مفسر القرن الخامس عشر في كلية الطب قال لنا: إن المقصود بالآية أن الإنسان حر في أن يصلى أو لا يصلى، أن الإنسان حر في أن يزكي أو لا يزكي، أن الإنسان حر في أن يحسن أو لا يحسن، أن الإنسان حر في أن يقارف ما يشاء من مطالب الهوى ومنازع الشهوة دون أن نكلف بإكراهه على شيء من الهدى والخير.

 

ونحن -في هذه الدائرة- لا نكلَّف بإكراه أحد على شيء من الهدى والخير، ولكن الكلام بهذا الأسلوب معناه إبطال قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما دام كل إنسان حرًّا في أن يصلي أو لا يصلي، ومعناه أيضًا إبطال أن تتحول الدعوة الإسلامية إلى دولة إسلامية تحارب الشر وتقيم الخير وتأمر بالصلاة وتعلمها في برامج التدريس، وتنشئ عليها الأجيال، وتكلف الآباء في الأسر أن يربوا الأولاد على أدائها، وتكلف الإذاعة أن تنادي للصلاة في كل وقت من الأوقات الخمسة.

 

ومن هنا فالتفسير بهذه الطريقة تقويض للمجتمع المسلم، وبلبلة لقواعده، فضلاً على أنه جهل مركب وصفاقة غربية في فرض الضلال على الإسلام، فإن شبانًا أغرارًا مساكين تبعوا الذي قال لهم هذا ومشوا وراءه، وما أشك في أن الاستعمار العالمي بشقيه الصهيوني والصليبي وراء هذا الفكر.

 

فكر آخر: جاءني طالب من الزقازيق أمس وقال لي: إن بعض المنتسبين إلى السلفية -وما هم بسلفيين في الحقيقة- رموا بالكتب المعاصرة ورفضوا أن تعرض في معرض للكتاب الإسلامي. والكتب المعاصرة بعضها ألفها أخونا الأستاذ سيد قطب، والأستاذ محمد قطب، والأستاذ أبو الحسن الندوي، والأستاذ أبو الأعلى المودودي، والأستاذ عبد القادر عودة، وكثيرون.

 

قلت: ما أشك أن وراء هؤلاء البله فكرًا خبيثًا يريد تمزيق الكيان الإسلامي والوسوسة لهؤلاء بأن الكتابات المعاصرة رديئة، وأن الكتابات القديمة لابن تيمية وابن القيم هي وحدها التي يؤخذ الإسلام منها.

 

وشيخ الإسلام ابن تيمية رجل كبير وتلميذه ابن القيم رجل كبير، والغريب أن ابن تيمية بُلي في عهده بقوم تناولوا الأئمة العظام بلسان حاد وولغوا في أعراضهم، وحاولوا مناوشة القمم الشماء في تراثنا الإسلامي وفقهنا الضخم، فتصدى لهم شيخ الإسلام ابن تيمية وألف كتابه المشهور "رفع الملام عن الأئمة الأعلام".

 

والواقع أن الذين يتظاهرون بالحماس لابن تيمية وابن القيم جهال؛ لأن الإسلام لم يكن عقيمًا قبل ميلاد ابن تيمية وابن القيم في القرن السابع للهجرة، سبعة قرون قبل ميلاد ابن تيمية وابن القيم، وسبعة قرون بعد ميلاد ابن القيم وشيخه ابن تيمية امتلأت برجالات الإسلام من ذوي الفكر الثاقب والقلب النابض والحرارة التي تصبغ عواطفهم نحو ربهم ونحو نبيهم.

 

ولا بد في عصرنا هذا من أن نقرأ كتب المعاصرين؛ لأن الغزو الاستعماري الذي هجم بجحافله على العالم الإسلامي -في عصرنا- جديد في أساليبه، مزود بخطط غريبة لسرقة العقائد واختلاس القيم، وهو يجر وراءه خلفية عريضة من الحضارة الغربية التي ازدهرت في ميدان العلم والتطبيق، واستطاعت أن تستغل تقصيرنا وغفلتنا وتراخينا في خدمة ديننا خلال القرون الأخيرة، وهجمت علينا هجومًا منوعًا يحتاج إلى أفكار جديدة، وكما قال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- في القرن الثاني: "تَحْدُثُ للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من فجور".

 

فكيف يقال: إن الثقافة الإسلامية انتهت بكتابات ابن تيمية وابن القيم؟! إنني أحد الذين تتلمذوا على ابن تيمية وابن القيم وابن رشد والغزالي وابن الجوزي وابن حزم، وطبعًا تلميذ تافه للأئمة الأربعة الكبار الذين شمخت قممهم في تراثنا العقلي والفقهي، ويعتبرون نماذج رائقة لتقوى الله ونفع الناس.

 

ما أشك في أن الذين يضمرون التعصب لفلان أو لفلان من الأئمة والعلماء ويريدون تمزيق مجتمعنا بمثل هذا التفكير ما أشك في أن وراء هذا الغلو أصابع خبيثة من الصهيونيين أو الصليبيين ممن يعملون لحساب الاستعمار العالمي.

 

الفتنة في الداخل أقسى على الأمة من الهجوم الصريح من الخارج، ولذلك فإن المسلمين في عصرنا هذا ينبغي أن ينظروا بقلق إلى النزعات المغالية التي تنتشر الآن؛ فإن من العجيب أن يدخل اليهود كنيستهم فتلتقي القلوب على أكلنا والهجوم علينا، ويخرج المسلمون من المسجد ممزقي الصفوف بأفكار تافهة وقضايا حقيرة.

 

هذا الكلام استطراد منى أُلجئت إليه، وأنا أريد في الحقيقة إلقاء نظرة على سورة الأحزاب.

 

وسورة الأحزاب -كما نفهم من عنوانها- تناولت الكلام عن غزوة الخندق، وعن تجمع أحزاب الكفر وثنية وكتابية لحصار المدينة المنورة والضغط عليها بكل ما أوتيت من قوة، حتى تخنق الإسلام وتبرز أمعاءه وتجعله أثرًا بعد عين.

 

وتناولت السورة شيئًا آخر وهو عمل المنافقين داخل المدينة، لجعل المجتمع الإسلامي يتلوى ويتعب، كان عمل المنافقين في أثناء الحرب أن ينشروا الإشاعات والأراجيف، وأن يثبطوا جند الله ويلقوا الفزع في أفئدة الجماهير، وكان عملهم أيضًا السخرية أو التنديد، كان يؤثر عن رسول الله وصحابته الكرام من أن المستقبل للإسلام، وأن الدعوة الناشئة سوف يطلع صبحها على الروم والفرس، وسوف تدخل الأمم في هذا الدين.

 

كانوا يستهزئون ويسخرون ويتضاحكون وهم يرون المؤمنين من وراء الخندق يقاتلون ببأس شديد وعنف رهيب كي يستبقوا حياتهم ويستنقذوا دعوتهم ويجعلوا علم الإسلام باقيًا في وجه الريح الهوجاء التي تريد أن تطويه.

 

هذا عمل المنافقين في الحروب، أما في أيام السلام فعملهم تتبع الشهوات وإثارة أسبابها والوقوف على أفواه السكك لإلقاء النظرات النهمة على أعراض المؤمنين وتتبعها.

 

فكان لابد من علاج هذا كله، وجاءت سورة الأحزاب فوصفت في صفحتين تقريبًا ما وقع في غزوة الخندق، ووقفت في بقية الآيات -وهي نحو خمس صفحات- تنظر المجتمع الإسلامي وفي قمته الأسرة النبوية.

 

هذا هو المحور الذي دارت عليه سورة الأحزاب، وبدأ الكلام تنبيهًا للمؤمنين أن يوحدوا صفهم وأن يجمعوا شملهم وأن يركزوا قواهم في مواجهة التيارات المنبعثة من تلك الجبهتين: "الكفر والنفاق".

 

بدأت بقوله -جل شأنه-: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا * وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً).

 

الكلام عن الكافرين والمنافقين تكرر عدة مرات في السورة: ففي وسط السورة يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا * وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا * وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا). 

 

وفي ختام السورة يقول الله تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا * لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا).

 

ومع هذا التوجيه في الوقوف ضد الكفار والمنافقين والتصدي للجبهتين على السواء نلحظ أيضًا خلال السورة أن الصبر على أذى هؤلاء وأولئك مطلوب، وأن تحذير المؤذين من المضي في طريقهم واضح، ونجد هذا في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا *وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا).

 

وقبل ذلك قال: (وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا).

 

وفي آخر السورة قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا).

 

وفي جلوس الناس في بيت الرسول -صلى الله عليه وسلم- دون سبب واضح بيّن أن ذلك كان يؤذى النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ...).

 

ذاك كلام هامشي على جانب السورة، أما الكلام في السورة نفسها فنحن نتناوله أيضًا هامشيًّا لنقول: إن السورة بينت أن صاحب الهدف الواحد لا يشغله عن هدفه شيء آخر؛ لأن ما ارتكز في القلب من إيمان يربط صاحبه برب الأرض والسماء لا يجعله صاحب قلب آخر يلتفت إلى الناس ويرجوهم أو يخشاهم: (مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ).

 

وعرض لشيء من القضايا التي تناولتها السورة وهي قضية تزوج النبي بامرأة متبناه -زيد بن حارثة- فقال: (وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ * ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آَبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ...).

 

تبيّن الآية هنا أن من لا نعرف أباه فهو أخ لنا في الدين، وينبغي أن لا يضيع في مجتمعنا، لكن الذي حدث -للأسف- أنه ضاع، وقد رأيت -وأنا قادم من أسيوط من حوالي أسبوعين- مؤسسة على نحو ثلاثة عشر فدانًا جمعت اللقطاء من المدينة خلال ثلاثين سنة وتبنت هذه المؤسسة تربيتهما على البروتوستانتية، وهي الآن تأخذ معوناتها من مجلس الكنائس العالمي.

 

أين المسلمون؟! يتقاتلون على التوافه من قضاياهم، بينما يشب الألوف على غير دينهم وهم لا يدرون.

 

هذا استطراد آخر نتركه لنقول: إن الآية تحدثت بعد ذلك عن موقعة الأحزاب، وبينت أولاً: أن الدولة الإسلامية وقعت في مأزق خطير وأنها -حقيقةً- امتحنت امتحانًا شديدًا، وأن النبي والصحابة من مهاجرين وأنصار كانوا حوله يتطلعون إلى الأفق في لهفة واضحة إلى عون الله، وأن المستقبل تلبّد بالغيوم؛ لأن أعداءهم أحاطوا بهم إحاطة لا منجاة منها إلا بفضل الله، وتلمح هذا في التصوير الذي بدأت به هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا).

 

ظل المسلمون قرابة شهر ومواقعهم بين حين وآخر مهددة بأن تقتحم، صحيح أنهم حفروا الخندق، وأنهم باتوا ساهرين حوله، وأنهم منعوا خيل الكفار من أن تقتحم المدينة، ولكن هذا كله ما هوّن من شدة الحصار؛ لأن الحصار جمع قريشًا التي أقبلت من مكة -عاصمة الوثنية يومئذٍ- ثم بدو الجزيرة، ثم أهل الكتاب بما يمثلون من حقد على عقيدة التوحيد، ومن بغض على صاحب الرسالة الخاتمة، ومن خبث وكدر في دمهم ضد كل من يريد بالإنسانية خيرًا ويبغي لها شرفًا، اتفق هؤلاء كلهم على أن يدخلوا مع الإسلام في معركة حياة أو موت، وكان كل شيء يشير إلى أنهم منتصرون حتمًا، فالمسلمون داخل مصيدة لا يجدون منفذًا، حتى إن النبي -صلى الله عليه وسلم- أراد أن يتحايل على إنقاذ الدعوة فأرسل إلى البدو -وهم قوم تجمعهم الأموال وتفرقهم المنافع- وعرض عليهم أن يرجعوا، لتحدث ثغرة في هذا الحصار، وعرض عليهم نصف ثمار المدينة ليعودوا، وفعلاً كادوا يقبلون لولا أن الفدائية والتضحية والاستماتة ملأت قلوب رؤساء الأنصار سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، وقال سعد بن معاذ: "والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم". فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فأنت وذاك".

 

وشاء الله أن تزداد الظلمة عندما انضمت بنو قريظة إلى المشركين، ولكن النبي كان موقنًا بأن النصر له لأنه موقن بكلام الله، والله أنزل عليه بمكة في سورة الصافات: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ). وأنزل عليه في سورة غافر: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ).

 

كان واثقًا من صدق الوحي ومن أن الله لن يخذله، فصابر حتى تدخَّل القدر وعصفت الرياح بخيام المشركين وأكفأت قدورهم وألقت الفزع في أنفسهم، فانفضوا ما هزمهم إلا الله، ولذلك كان -عليه الصلاة والسلام- فيما استقبل بعد ذلك من معارك يقول: "اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم". وكان يقول: "لا إله إلا الله وحده، أعز جنده، ونصر عبده، وغلب الأحزاب وحده، فلا شيء بعده".

 

لكن من الذي يستحق النصر؟! قلوب أخرى، في الحقيقة عندما أقارن بين قلبي وقلوب أولئك الناس أشعر بشيء كبير من البعد؛ لأنه في يوم من الأيام ضاقت قريش بالحصار وقررت أن تهجم هجومًا تنتهي فيه إلى نتيجة حاسمة، وفعلاً وجهت قواها في ضربة شديدة لقلب المدينة، وتجمع المسلمون من الظهيرة إلى صلاة العصر إلى أن غربت الشمس وهم يقاومون حتى ردوا المهاجمين على أعقابهم خاسئين، تدرون ماذا كان تعقيب صاحب الرسالة الخاتمة على المعركة؟! يقول: "ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارًا؛ شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس".

 

هذا كل ما أحزنه، أحزنه أنه لم يسعد بلقاء الله في صلاة العصر، أحزنه أنه لم يشعر بحلاوة الوحي وهو يتلوه بين يدي رب العالمين. هذا قلب وحوله قلوب على شاكلته أو تعلمت منه، ما أساءها أن بذلت جهدًا أو فقدت مالاً أو روعها الأعداء، بل "شغلونا عن الصلاة الوسطى".

 

ليس ببعيد أن تنزل الأمطار، وأن تعصف الرعود، وأن تقصف قواصف الجو على الكافرين فترغمهم على أن يفكوا الحصار ويذهبوا بددًا من حيث جاؤوا: (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا * وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا). 

 

هذا ما تضمنته سورة الأحزاب عن غزوة الأحزاب، وبداهة ما قلته يعد إشارات خاطفة، أما المعركة وما وقع فيها وتفاصيلها فلها مجال آخر.

 

بعد ذلك جاء كلام في تنظيم البيت النبوي، أساس هذا التنظيم يجعلنا نتحدث عن فلسفة الغنى والفقر في الإسلام.

 

أيها الإخوة: الإسلام دين يكره الفقر ويراه نكبة تنزل بالإنسان فتزلزل مروءته وتكسر رجولته، ولذلك كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يسويه بالكفر في الاستعاذة بالله من وطئتهما: "اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر، اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، لا إله إلا أنت". وكان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع، وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة". وكان يقول: "نعما بالمال الصالح للرجل الصالح". والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة.

 

لكن هل كان النبي غنيًّا؟! لقد أغناه الله فعلاً بنص القرآن الكريم: (وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى)، عائلاً: فقيرًا، فأغناه، أغناه في شبابه ورجولته بكدحه في الأرض وتجارته التي كسب منها الكثير، وأغناه بعد الرسالة بنصيبه في الفيء والغنائم، كان غنيًا ولكنه كان إمامًا للبذل والعطاء، قال لأبي ذر -رضي الله عنه- يومًا وكان يمشي معه: "يا أبا ذر: ما يسرني أن عندي مثل أحد هذا ذهبًا تمضى عليَّ ثالثة وعندي منه دينار إلا شيئًا أرصده لدين، إلا أن أقول به عباد الله هكذا وهكذا وهكذا عن يمينه وعن شماله ومن خلفه". 

 

هذا عطاؤه، ومع ذاك بلغ به العطاء أن ينسى حاجات بيته، وربما سأل أهله الإدامَ فقالوا: ما عندنا إلا خل، فدعا به فجعل يأكل به ويقول: "نعم الإدام الخل، نعم الإدام الخل".

 

ما السبب في هذه المعيشة؟! السبب أن الأمة الإسلامية كانت تواجه مصاعب هائلة، ففي مكة حُصر المسلمون في شِعْب بني هاشم نحو ثلاث سنين كانوا يأكلون التراب من الفقر، فكيف يتوسع؟! ثم بعد الهجرة وجدنا المدينة المنورة تتعرض للهجوم والحصار والضوائق، أكان البيت النبوي يستمتع بالخير الكثير والزاد الوفير والناس يجيئون من كل ناحية فاقدين لأموالهم ولأملاكهم؟! كان لابد أن يعيش البيت النبوي عيشة فيها شدة، كان لابد أن يتحمل، لكن النسوة اللاتي تزوجهن -وقد جئن من بيوتات كان فيها شيء من الخير والثراء- تألمن وضقن، وعلى ما بين الضرائر من خلاف اتفقن جميعًا على إعلان رفضهن لهذه المعيشة القاسية. فماذا يفعل الرسول؟!

 

جاء الوحي الإلهي يقول: ليس إلا هذا، وقل لمن عندك في البيت: هذه معيشة بيت يصدر للناس العفة والقناعة، يصدر للناس السهر في طاعة الله والتهجد وجعل الليل أبيض من طول القراءة والعبادة: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآَخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا). 

 

وانتهت الآيات بقول الله لنساء النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا). هذا بدء لتنظيم البيت النبوي ثم اتصل التنظيم بعد ذلك بقضايا كثيرة، ربما طال الوقت قبل أن ننهيها، لعل لها مجالاً آخر.

 

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. 

 

 

الخطبة الثانية:

 

 

الحمد لله (الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ).

 

وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين. وأشهد أن محمدًا رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.

 

أما بعد:

 

أيها الإخوة: من علامات المجتمع المسلم ما قاله الله -جل جلاله- في وصف أبنائه: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ)، (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ).

 

نحن بحاجة إلى أن يكون المسلم ذليلاً لأخيه، ومعنى أن يكون المؤمن ذليلاً لأخيه أن يكون سهلاً معه، وأن لا يكون شرسًا أو صعب القياد، ومعنى أن يكون المؤمن رحيمًا بأخيه أن يرق له، إذا عثر أنهضه وأزال عنه القذى الذي قد يضنيه في سقطته، وأن لا يكون عونًا للشيطان عليه.

 

وأنا أرحب، بل أنا مسرور، بالنهضة الإسلامية التي انتشرت في عواصم الإسلام كلها، بديهي أن تلحق هذه النهضة شوائب، ونحن لسنا معصومين، بديهي أن يكون هناك طلاب فيهم قصور فقهي، بديهي أن يستغل أعداء الإسلام هذا، وأن تتحول المخابرات العالمية بأساليبها الدنسة الخبيثة إلى صفوف هؤلاء الطلاب لتمزقهم أو لتجعل قوى بعضهم ضد الآخر.

 

إن الصحوة الإسلامية موجودة الآن في كل بلد، وأنا أخشى على الصحوة الإسلامية لا من الأعداء التقليديين المعروفين، وإنما أخشى أن يأكل بعضنا بعضًا بسبب خلافات تافهة وأفكار ضيقة، ستجدون كما ذكرت لكم في صدر خطبتي الأولى من يفسر القرآن بخطأ، ومن يدخل في السنة وهو لا يدري رأسًا من ذَنَب، ولا يعرف صحيحًا من ضعيف، وإذا عرف الصحيح لم يعرف كيف فهمه فقهاء الإسلام.

 

لا بأس أبدًا أن مجيء واحد من ألف الناس يقول لك: الرسول قال: "نعم الإدام الخل"، فلنجعل طعامنا كله خلاً. أي تفكير هذا؟! هذا إنسان كبير يرضي نفسه بواقع عابر.

 

هناك ناس خبراء بالأحوال العلمية في القاهرة وفي دمشق وفي بغداد وفي غيرها يريدون إساءة هذه الأمة ونكبتها في حاضرها، فلنكن بصراء بديننا وبمن يعملون في هذه الميادين المشبوهة.

 

"اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر".

 

(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ).

 

عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).

 

أقم الصلاة.

 

 

 

 

المرفقات

في سورة الأحزاب

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات