عاقبة الظالمين

صالح بن مبارك بن أحمد دعكيك

2022-10-07 - 1444/03/11
عناصر الخطبة
1/ تحريم الله الظلم على نفسه وعلى عباده 2/ عاقبة الظالمين 3/ العبرة في أنباء ما قد سبق 4/ نماذج من عاقبة الظلم في السابقين 5/ أهمية العدل في استقرار الدول 6/ وسائل إزالة الظلم

اقتباس

وإنَّ الطواغيت والبغاة والطغاة وأهل الاستبداد كلما اشتدت وطأتهم وتعاظم خطرهم وتفاقم أمرهم واستفحل شرهم وزاد طغيانهم، كان ذلك إيذانًا بانحسار أمرهم، وآخر نهايتهم ونهاية طريقهم وأوان ذلهم وهوانهم ووقت خذلانهم وانكسارهم، فهذه سنة الله في أرضه التي تجري على الدول والممالك، وإن لكل...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

عباد الله: اتقوا الله حق تقواه، وأنيبوا إليه من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال.

 

أيها المسلمون: إن من تمام عدله سبحانه، وكمال رحمته وجميل برِّه وإحسانه، أن حرم الظلم على نفسه وجعله محرمًا بين عباده، كما جاء في الحديث القدسي الشريف: "قال الله -عز وجل-: يا عبادي: إني حرمتُ الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا". مسلم.

 

وإن للظلم ألوانًا وصورًا تربو على الحصر، غير أن أبشع أنواع الظلم وأعظمها خطرًا البغي في الأرض بغير الحق، والاستطالة على الخلق في دينهم وأنفسهم وأموالهم وأعراضهم وعقولهم وحرياتهم بمختلف سبل العدوان والبغي التي يتفق أولو الألباب على استعظامها والنفرة منها والحذر من التردي في رجسها؛ لذا جاء تحريم البغي في الأرض منصوصًا عليه في سياق جملة من أصول المحرمات، إعلامًا بشدة الوزر وثقل التبعية وسوء المصير، وذلك في قوله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ).

 

كما توعد الرب -جل جلاله- كل مَنْ سلك البغي والإثم بالعذاب الأليم، فقال سبحانه: (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ).

 

وهذا العذاب الأليم إنما هو الجزاء المؤجل من العقوبة، ولكن للبغي عقوبات يعجلها الله للباغي في حياته في الدنيا كما جاء في السنن بإسناد صحيح عن أبي بكر عن النبي –صلى الله عليه وسلم-: "ما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم".

 

وعاجل هذه العقوبة أن على الباغي والظالم والمجرم تدور الدوائر، فإذا هو يبوء بالخزي والعار، ويتجرع مرارة الهزيمة، وينقلب خاسئًا لم يبلغ ما أراد، ولم يظفر بما رجا، كما قال تعالى: (فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم).

 

عباد الله: كم لنا في سير الماضي وأنباء ما قد سبق من الذين بغوا في الأرض فأكثروا فيها الفساد!! كم لنا في قصصهم من عبرة!! وكم فيها من دلالة وحجة واضحة على عاقبة الظلم ونهاية البغي والبغاة!! ماذا كانت عاقبة بغي فرعون وتجبره حين علا في الأرض وجعل أهلها شيعًا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم، حتى نسي أنه بشر، فاستعظم نفسه وادعى الربوبية!! ألم تكن نهايته: (فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِين)، (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً).

 

وماذا كانت عاقبة قارون الذي بغى على قومه حين أتاه الله الكنوز التي يثقل حمل مفاتيحها على العصبة أولي القوة!! ألم تكن نهايته: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ).

 

وماذا كانت عاقبة عاد التي لم يخلق مثلها في البلاد؟! كيف كانت عاقبة ثمود الذين ينحتون الجبال بيوتًا حتى قالوا: (مَنْ أشد منَّا قوة)؟!

 

وأين صار بغي نمرود القياصرة والأكاسرة؟! (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ).

 

وإلى أي منتهى صار أمر أبي جهل بن هشام وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط، والملأ المستكبرون الذين بغوا في الأرض واشتدت وطأتهم على المستضعفين من المؤمنين فساموهم سوء العذاب وأليم النكال.

 

فلما بلغ سيلهم الزبى، وبطشهم وطغيانهم كل مدى، رفع النبي -صلى الله عليه وسلم- يديه إلى السماء قرب كعبة العلي الأعلى فقال: "اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بأبي جهل، اللهم عليك بعقبة ابن أبي معيط، اللهم عليك بفلان وفلان". ويعد سبعة من صناديد قريش كما في الصحيحين، فجاء نصر السماء، مدد الذي لا يخفى عليه خافية، فأخذوا على مهانة، وألقوا على غير ملامة، قال ابن مسعود: "فوالله لقد رأيتهم صرعى يوم بدر، ثم سحبوا إلى قليب بدر، فألقوا فيها بعدما انتفخت جثثهم، وأُتبِعَ أصحاب القليب لعنة".

 

لا تظلمنَّ إذا ما كنت مقتدرًا *** فالظلم ترجع عقباه إلى الندمِ

 

تنـام عينـاك والمظلوم منتبه *** يدعو عليك وعين الله لم تنمِ

 

فيا أسفًا على الظلمة الفجار!! يخطئون على أنفسهم بالليل والنهار والشهوات تفنى وتبقى الحسرات والأوزار.

 

عباد الله: لا تهولنكم قوة الظالمين، ولا كثرة عتادهم، ولا طول طغيانهم؛ فإنَّ عاقبتهم حسرة، ونهايتهم بور.

 

وإنَّ الطواغيت والبغاة والطغاة وأهل الاستبداد كلما اشتدت وطأتهم وتعاظم خطرهم وتفاقم أمرهم واستفحل شرهم وزاد طغيانهم، كان ذلك إيذانًا بانحسار أمرهم، وآخر نهايتهم ونهاية طريقهم وأوان ذلهم وهوانهم ووقت خذلانهم وانكسارهم، فهذه سنة الله في أرضه التي تجري على الدول والممالك، وإن لكل شيء نهاية، ونهاية الظالم مسطورة في ذاكرة التاريخ.

 

اللهم اكفنا شر الظالمين، وعجَّل بزوالهم يا رب العالمين، وقرّ أعيننا بنصرة المظلومين وظهور الحق المبين.

 

أقول ما تسمعون...

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

عباد الله: إن الظلم مشين، لا يبقى معه ملك ولا تجري معه حضارة، والعدل زين يدوم الملك، ويأمن معه الحاكم والمحكوم، وتطمئن به النفوس ويدوم معه الملك، ولو كان الملِك كافرًا قال تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ).

 

قال الإمام ابن تيمية -رضي الله عنه-: "إنَّ الله يقيم الدولة العادلة ولو كانت كافرة، ولا يقيم الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة". وصدق -رحمه الله-؛ فها هو التاريخ يسطر هذه الحقيقة، وها هي أعيننا ترى هذه المقولة، فها هي عروش الظلم والطغيان تتهاوى، وهاهي أنظمة القمع والاستبداد تتوارى، لكن هناك معلم بارز؛ أن جثثًا لأولئك الأكاسرة تبقى حية ليذيقهم الله الهوان والذل كما أذاقوا شعوبهم من المهانة والإجرام كؤوسًا، فيلقى بهم إلى مزابل التاريخ وإلى لعنة الدنيا والآخرة.

 

عباد الله: إذا علمنا جرم الظلم وعاقبة الظالمين، وأن الزوال طريقهم، والنكال عذابهم، فلابد من إزالة الظلم والتقليل منه.

 

ولعل من أعظم وسائل إزالة الظلم:

 

أولاً: صلاح الفرد وصلاح قلبه وعمله، فبصلاحه تصلح الأسرة ويصلح المجتمع، وهنا يتحقق الصلاح في سائر البلاد؛ قال تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ).

 

فقبل أن تنكر على الظلم والظالمين انظر لنفسك، هل أنت من الصالحين المصلحين، وكما قيل: "كما تكونون يولى عليكم".

 

ثانيًا: عدم الركون إلى الظلم والظالم والميل إليه، لا بقول ولا بفعل؛ لأن ذلك سبب في انتشار الظلم وهيمنة أهله؛ قال تعالى: (وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ). والركون إلى الظالم سكوت عن ظلمه وجبروته.

 

ثالثًا: هجر الظالم وعدم إعانته على ظلمه؛ قال تعالى: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)، والنصيحة للظالم والأخذ بيده والإنكار عليه سرًا وجهرًا من أسباب زواله وإصلاح فساده.

 

رابعًا: الدعاء على الظالم والظلم بالزوال؛ وفي الحديث: "واتّقِ دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب"، لهذا كان الأنبياء -عليهم السلام- إذا يئسوا من الإصلاح ومن ظلم الظالمين، ودعوا الله تعالى بزوالهم، جاء في الكتاب الكريم على لسان نوح -عليه السلام-: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَاراً).

 

وهذا موسى يدعو الله على فرعون؛ قال تعالى عنه: (رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ).

 

وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعو على المشركين في صلاته: "اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش"، ويذكر صناديدهم بأسمائهم.

 

وأخيرًا: الدعوة إلى العدل بالحكمة والموعظة الحسنة واللين في القول والفعل ومشاركة الصالحين والمصلحين في أداء وظيفتهم الشريفة، قال تعالى: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ).

 

فلابد لكل إنسان من التوبة من المظالم ومن جميع أنواع الظلم لنفسه أو لإخوانه؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، ولا تسقط المظالم إلا بتوبة وإرجاع الحقوق إلى أهلها.

 

نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يجعل لنا من أمرنا رشدًا، وأن يصلح شأننا كله ظاهره وباطنه، وأن يأخذ بأيدينا لما يحبه ويرضاه.

 

وصلوا وسلموا...

 

 

 

 

المرفقات

الظالمين

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات