موعظة في آخر العام

عبد الرحمن بن علي النهابي

2022-10-08 - 1444/03/12
التصنيفات: التربية
عناصر الخطبة
1/ الاعتبار بالأيام 2/ المبادرة بالأعمال 3/ انصرام العام 4/ دعوة للمحاسبة 5/ تجديد العهد

اقتباس

ألا وإن الأيام تمر بكم سراعاً تباعاً، وتقدم عليكم باعاً باعاً، وأنتم مع الدنيا عراكاً صراعاً، فما تستعجلونه من الأيام، يمر عليكم وأنتم في غفلة وهيام، وما تستبطئونه يأتي عليكم وأنتم نيام، وتظنونه من ..

 

 

 

الحمد لله الذي بيده تصاريف الأمور، وتدابير الأكوان والملكوت، الدائم الباقي ذو العظمة والجبروت، أحمده -سبحانه- على خيره الذي لا يحصر ولا يفوت، وأشكره على ما مَنَّ به علينا من ألطاف، وأتوكل على الحي الذي لا يموت. 

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له كامل الأوصاف والنعوت، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أكمل الناس في التوحيد والعبادة والقنوت، صلى الله عليه وآله أصحابه، وعلى التابعين ومن تبعهم إلى يوم يفنى العالم ويموت، وسلم تسليماً.

أما بعد: أيها الناس، (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [البقرة:132]، ثم انظروا عباد الله في العواقب وما تؤول إليه الأمور، واعتبروا بمرور الأيام والشهور، والأعوام والدهور.

واعلموا: أنكم تتقلبون في طياتها بين الأفراح والأتراح، والسرور والكدور، وتأخذون منها بلغتكم، وتُنقلون بعدها إلى دار الجزاء والثواب والأجور، فدنياكم دار عمل واكتساب، فاستثمروا أيامها، واغتنموا صالح أزمانها بما يقربكم إلى مولاكم، وينجكم من النار وأهوالها، واعتبروا -عباد الله- بسرعة مرور الأيام، وتصرم الشهور والأعوام، وتقلب الأحوال، والآمال، والآلام.

ألا ترون أن الليل والنهار يتعاقبان فيكم، ويتباريان، ويتسارعان تسارع البريد، فيقرِّبان كل بعيد، ويخلقان كل جديد، وأنتم في غفلة منهما، لا تدرون مَن منكم شقي أو سعيد، ألا ترون أنكم في مرورها في آجال منقوضة، وأعمال محفوظة، وأنفس في أوقاتها مقبوضة، فالآجال تقضى، والأعمار تفنى، والأعمال تطوى، والأنفس تبلى.

ألا ترون أن أيامكم في دنياكم معدودة، وأعمالكم مشهودة، وآجالكم محدودة، وآمالكم محدودة، فاحفزوا هممكم -عباد الله- لمسابقة الأيام، وأودعوها صالح الأعمال، والطيب من القول والكلام، انهضوا بهممكم عن الدنايا، واستحيوا من ربكم أن يراكم على السوء والرزايا.

ألا وإن الأيام تمر بكم سراعاً تباعاً، وتقدم عليكم باعاً باعاً، وأنتم مع الدنيا عراكاً صراعاً، فما تستعجلونه من الأيام، يمر عليكم وأنتم في غفلة وهيام، وما تستبطئونه يأتي عليكم وأنتم نيام، وتظنونه من الأوهام.

إخوة الإيمان: العمر محدود، والأمل ممدود، والرحل أمامكم معهود، كيف بكم إذا حلت بكم المنايا، وجاءكم هادم اللذات وأنتم في الطرقات والزوايا، وألا تتذكرون؟! ألا تعتبرون؟! (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران:185].

أيها المسلمون المؤمنون بالله واليوم الآخر: إن لكل شيء بداية ونهاية، وفي كل منهما للعاقل عبرة وآية، ألا وإن يومنا هذا نهاية عامنا، وقد أوشكت لحظاته على النهاية والاقتراب، وأذن بالرحيل وولى الأعقاب، وقد طوى صحائفهُ وسُجِّل الكتاب.

وإنكم تستقبلون غداً عاماً هجرياً جديداً وليداً، تؤمِّلون فيه عمراً مديداً، وعملاً سديداً، وعهداً مميزاً فريداً، تتفاءلون فيه بتحسن الأوضاع والأحوال، وترجون تحقق الآمال والأعمال، لقد أنهيتم عامكم الثامن والعشرين بعد الأربعمائة والألف.

فقفوا -عباد الله- من هذا وقفات، واعتَبِرُوا بمرور الأعوام ذكرى وعظات، قفوا -عباد الله- وِقْفَةَ المتأمِّلِ المتَّعِظِ بمرور الأيام، وتصاريف الأحوال والأقدار؛ قفوا من أحوالكم وما أنتم عليه، وما فيها من انتكاس، وخذوا منها العبرة والاتعاظ.

قفوا -عباد الله- من أعمالكم التي أسلفتم، وما فيها من أخطاء وزلات، وانظروا إلى ما حصل منها من خلل وتجازوات، قفوا مع والديكم وبرِّكم بهم، وهل وصلتم معهم درجات الإحسان، وبلغتم فيهم الإكرام، قفوا -عباد الله- مع أرحامكم، وهل وصلتم معهم الإحسان والإتمام؟ ولقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَن أحَبَّ أن يُبسط له في رزقه، ويُنسأ له في أجله، فلْيَصِلْ رَحِمَه".

قفوا -عباد الله- من جيرانكم وِقْفَةَ تأمُّل، وهل أنتم معهم على الوصل والوداد؟ أم أنتم معهم على الجفاء والشقاق والحداد؟ أم نسيتم قول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه".

تأملوا -عباد الله- في علاقتكم وأخوتكم الإيمانية، هل هي على أسس الإيمان من المحبة، والرحمة، والنصح، والتعاطف، والتآلف؟ أم هي على غير ذلك من الكره، والشقاق، والحسد، والنكد، والتباغض، والتشاحن؟ ولقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".

تلك أمثلة -وغيرها كثير- مما يجب على المؤمن أن يتأمل في حاله، وفي مستوى إيمانه، وما هو عليه في أيامه.

عباد الله: لنتساءل عن عامنا المنصرم كيف قضيناه، ولنفتش كتاب أعمالنا كيف أمليناه، فإن كان خيراً حمدنا الله وشكرناه، وإن كان غير ذلك تُبنا إلى الله واستغفرناه.

عباد الله: لنجدد عهدنا مع الله بتجدد الأيام، نجدد العهد بتوبة صادقة، وندم على ما صار، فعامكم قد انقضت أيامه ولياليه، وطويت صحائفه على ما تحويه، ولا يمكنكم رد شيء مما فيه، فاستدركوا ما مضى بالتوبة وصدق الأوبة، وانظروا إلى من عمر الدنيا وجمعها هل راح منها بشيء؟ أو على غير إرادة خلعها؟.

أما تشاهدون حلول الآفات والرزايا، أما قضت عليهم القاضية، ووافتهم المنايا؟ أين آباؤنا؟ وأين أمهاتنا؟ وأين أقرباؤنا، وأصحابنا؟ وأين جيراننا ومعارفنا؟ أين مَن سكنوا القصور، وتمتعوا بالدور؟ تواروا بالثرى، وسكنوا القبور، هم السابقون، ونحن اللاحقون.

قلَّ -والله- بَعدهم بقاؤنا، هذه دورهم فيها سواهم، هذه أموالهم اقتسمها وارثهم، هذا صديقهم نسيهم وجفاهم، أخبارهم تزعج الألباب، وادِّكارهم يُصَدِّع قلوب الأحباب.

ثم اعلموا -عباد الله- أن طول العمر من نعم الله على العبد إذا كان على تقوى من الله ورضوان، ففيه خيرٌ وزاد للعبد، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "خيركم من طال عمره وحسن عمله، وشركم من طال عمره وساء عمله".

فاسألوا حسن العمل مع طول العمر، ثم اسألوا حسن الختام إلى التمام، فاتقوا الله، واعتبروا، وتذكروا، وادكِّروا (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ) [فاطر:37].

وفقني الله وإياكم إلى الاعتبار بمرور الأيام، وأن يحسن لنا الختام، وأن يجعل عامنا الجديد عام خير وبركة، وأن يصلح أحوالنا وأحوال المسلمين، وأن يفتح علينا في عامنا فتحاً مباركاً، إنه سميع مجيب.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، ولكافة المسلمين من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

 

 

المرفقات

في آخر العام

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات