الحج توبة وإنابة

سلطان بن عبد الرحمن العيد

2022-10-04 - 1444/03/08
التصنيفات: الحج
عناصر الخطبة
1/ الحج يغفر ما كان قبله 2/ حج الأنبياء ومن بعدهم 3/ تشويق العباد إلى حج بيت الله الحرام 4/ وجوب الحج على الفور 5/ فضائل الحج 6/ الحج استجابة لأمر الله 7/ صفة الحج المبرور

اقتباس

نداؤهم لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، بهذا النداء الحبيب إلى النفوس المؤمنة، وبهذه الكلمات المشرقة التي هي رمز التوحيد والإيمان، وعنوان الخضوع والإذعان، واعتراف بالجميل والإنعام، يرفع حجاج بيت الله الحرام أصواتهم، مسلّمين لله وجوههم، يحدوهم الرجاء بعفوه ومغفرته، ويحثهم الشوق إلى زيارة تلك البقاع المقدسة التي فيها الكعبة المشرفة أول بيت وضع للناس، وزمزم العين الثرة المباركة، ومقام إبراهيم -عليه السلام- الذي يشهد له بالإخلاص والامتثال، فيها منى ومزدلفة وعرفات، حيث تقال العثرات وتغفر الزلات.

 

 

 

 

أما بعد:

فيقول الله -جل وعلا-: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ) [آل عمران96 :97].

روى ابن خزيمة في صحيحه عن ابن شماسه قال: حضرنا عمرو بن العاص -رضي الله عنه- وهو في سياق الموت، فبكى طويلاً وقال: لما جعل الإسلام في قلبي أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقلت: يا رسول الله: ابسط يمينك لأبايعك، فبسط يده فقبضت يدي، فقال: ما لك يا عمرو؟! قال: أردت أن اشترط، قال: تشترط ماذا؟! قال: أن يغفر لي، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "أما علمت -يا عمرو- أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله". الله أكبر.

(وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ) [الحج:27]، قال ابن إسحاق: "لم يبعث الله نبيًا بعد إبراهيم إلا حج هذا البيت"، وقال غيره: "ما من نبي إلا حج"، رفع إبراهيم القواعد من البيت، فلما فرغ أمره الله أن ينادي بالناس: إن لله بيتًا فحجوا، فسار ركب المؤمنين إلى تلك العرصات وعلت بهم هممهم، ففارقوا الأهل والأوطان إلى بيت الله الحرام مجيبين داعي الله يملؤون الآفاق تهليلاً وتكبيرًا وتوحيدًا، نداؤهم:" لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك".

وفي صحيح مسلم عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: سرنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين مكة والمدينة، فمررنا بوادٍ، فقال: أي وادٍ هذا؟! فقلنا: هذا وادي الأزرق، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "كأني انظر إلى موسى -صلى الله عليه وسلم- واضعًا إصبعه في أذنيه له جؤار إلى الله بالتلبية مارًا بهذا الوادي"، قال: ثم سرنا حتى أتينا على ثنية فقال: "كأني أنظر إلى يونس على ناقة حمراء عليه جبة من صوف، خطام ناقته ليف، مارًا بهذا الوادي ملبيًا"، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "لقد مر بالروحاء -وهو موضع بين مكة والمدينة- لقد مر بالروحاء سبعون نبيًا، فيهم نبي الله موسى، حفاة عليهم العباءة يؤمون بيت الله العتيق". رواه أبو يعلى والطبراني وحسنه العلامة الألباني.

ثم حج الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم- حجة الوداع، فأظهر فيها تمام الحب والذل والافتقار إلى ربه -جل وعلا-، يقول أنس -رضي الله عنه-: حج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على رحل رث قطيفة خلقة تساوي أربعة دراهم أو لا تساوي، ثم قال -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة". رواه الترمذي في الشمائل وابن ماجه وهو في صحيح الترغيب.

ثم اقتدى سادة الأمة، فها هو الحسن بن علي -رضي الله عنه- يحج خمسة وعشرين حجة ماشيًا، وأبو عثمان النهدي -رحمه الله وغفر له- حج لله ستين مرة يقطعون الفيافي والقفار رغبة في رحمة العزيز الغفار، واستجابة لربهم القائل: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ) ، ساق الشوق تلك القلوب إلى حرمه رجاء جوده وكرمه، وهو القائل -جل وعلا- في محكم التنزيل عن إبراهيم -عليه السلام- لما دعا ربه فاستجاب له: (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) [إبراهيم:37] ، أولئك قوم اختصهم الله بالقرب منه، وأسعدهم بطاعته والتذلل له، فقوى عزائمهم وثبت قلوبهم، ففارقوا الأهل والأحباب والأصحاب: (أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) [المجادلة:22]، (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [البقرة:105].

نداؤهم لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، بهذا النداء الحبيب إلى النفوس المؤمنة، وبهذه الكلمات المشرقة التي هي رمز التوحيد والإيمان، وعنوان الخضوع والإذعان، واعتراف بالجميل والإنعام، يرفع حجاج بيت الله الحرام أصواتهم، مسلّمين لله وجوههم، يحدوهم الرجاء بعفوه ومغفرته، ويحثهم الشوق إلى زيارة تلك البقاع المقدسة التي فيها الكعبة المشرفة أول بيت وضع للناس، وزمزم العين الثرة المباركة، ومقام إبراهيم -عليه السلام- الذي يشهد له بالإخلاص والامتثال، فيها منى ومزدلفة وعرفات، حيث تقال العثرات وتغفر الزلات.

لقد شاء الحكيم -جل جلاله- أن تكون التلبية بالحج والعمرة بهذه الكلمات المباركات، ليكون أذانًا من قاصد بيت الحرام بنبذ الشرك وعبادة كل ما سوى الله -جل جلاله- من حجر أو شجر أو قبر ولي أو نبي، وأن العبادة كلها للواحد القهار: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام:162].

أمة الإسلام، أمة القرآن، حجاج بيت الله الحرام: كان من هدي سلفنا الصالح تشويق العباد إلى حج بيت الله الحرام، وبيان ما في الحج والعمرة من الفضل والإنعام، نصحًا لأهل الإيمان، فإليكم هذه الأحاديث والمواعظ والمواقف والفضائل ما جمعت، ألا إنها تذكرة لمن صدق عزمه على حج البيت الحرام بما له عند الله، وهو المليك العلام، وبشارة له في خير الدنيا والآخرة، والظن بالله -جل وعلا- أنه ما ساق تلك القلوب إلى أداء فريضة الحج إلا تشريفًا لأهلها، ذلك فضل من الله وكفى بالله عليمًا، هنيئًا للمستجيبين الذين لم تحجزهم عن القيام بهذا الفضل نفقاته، ولم تثني عزائمه متاعب الطريق ومشقاته، ولم تزعزع نواياهم وساوس الشيطان الرجيم ونزعاته، بل غلبهم الشوق فطارت قلوبهم قبل أجسادهم إلى تلك المشاعر العظام، هنيئًا لهم حيث رفعوا أصواتهم بالتلبية والثناء على ربهم -جل وعلا-، فأحسنوا الظن به فأنالهم عفوه وأفاض عليهم من جوده وكرمه.

وإنها أيضًا تذكرة للقادرين القاعدين عن حج بيت الله الحرام، فما العذر -أيها القادر- على الحج إذا أوقفك ربك يوم القيامة موقف الذل والصغار، وعدّد عليك ما خولك إياه في الدنيا من الأموال والعقار، وذكّرك بما حباك به من قوة واقتدار، ثم سئلت فما بلغ النداء، أما قادر على تحمل المشقة والعناء فما تستجيب؟! أيها المسكين: في هذا الموقف العظيم، قال عمر -رضي الله عنه-: "لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار فينظر إلى كل من كان عنده جدة ولم يحج فيضرب عليه الجزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين".

الحج ركن من أركان الإسلام لا يجوز للمستطيع تأخيره إلى السنة المقبلة، فإن فعل أثم، فعسى الله أن ينفع بهذه المواعظ والزواجر فيكون ممن أسعده الله في طاعته، فاستعد لما أمامه، وغفر له زللـه وإجرامه، إن الله ولي ذلك والقادر عليه.

إذا أذن مؤذن الحج رأيت صدى دعوته تتجلجل في جنبات العالم الإسلامي، ويهز المشاعر هزًا إلى أرض الحجاز وإلى الكعبة قبلة المسلمين، يقول ابن القيم -رحمه الله- في شأن بيت الله الحرام وشوقهم إلى تلك الأماكن العظام:

أما والذي حـج المحبـون بيتـه *** ولبوا له عنـد المهـل وأحـرموا
وقد كشفوا تلك الرؤوس تواضعًا *** لعزة من تعـنو الوجوه وتـسلم
يهلـون بالبيـداء لبـيك ربـنا *** لك الحمد والملك الذي أنت تعلم
دعاهـم فلبـوه رضـا ومـحبة *** فلـما دعـوه كان أقرب منهم
تراهم على الأنضاء شعثًا رؤوسهم *** وغبرًا وهم فـيها أسـرّ وأنـعم
وقد فارقوا الأوطان والأهل رغبة *** ولـم تثنـهم لذاتهـم والتنعـم
يسيرون فـي أقطارها وفجاجها *** رجـالاً وركـبانًا ولله أسـلموا
ولما رأت أبصارهـم بيته الذي *** قلوب الورى شوقًا إلـيه تضـرم
كأنهم لم ينصبـوا قـط قـبله *** لأن شقـاهم قد ترحـل عـنهم
فلله كـم مـن عبـرة مُهَراقة *** وأخرى على آثـارها لا تقـدم
إذا عاينتـه العـين زال ظلامها *** وزال عـن القـلب الكئيب التألم

الله أكبر!! إنها رحلة مباركة إلى بيت الله الحرام، رحلة إلى بيت الله الحرام خضوعًا وتذللاً لرب العالمين وطاعة له إذ قال: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) [آل عمران:97]، فيا راحلين بيت الله الحرام: هنيئًا لكم، وأبشروا بفضل الله وكرمه، فإن الله -جل وعلا- اختصكم من بين خلقه لعمارة بيته الحرام والتلذذ بمناجاته في تلك المواقف العظام، هنيئًا لكم فقصدتم بلادًا فضّلها الله وشرّفها وجعل عرصاتها مناسك لعباده، تهفو إليها قلوب المحبين، وتحن إليها أفئدة المخبتين:

يحـنّ إلى أرض الحجـاز فؤادي *** ويحدو اشتياقي نحو مكة حادي
ولي أمـلٌ مـازال يسمو بهمّتي *** إلى البلـدة الغـراء خـير بلاد
بها كعـبة الله التي طاف حولها *** عـبـادٌ هـم لله خـيرُ عبـادِ
لأقضـيَ فرض الله في حج بيته *** بأصـدق إيمـان وأطيـب زاد
أطوف كما طاف النبيون حوله *** طواف قيـادِ لا طـواف عنـادِ

مكة خير أرض الله وأحب البلاد إلى قلب النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولقد حرّمها الله يوم خلق السموات والأرض. يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لم تحل لأحد قبلي ولا لأحد بعدي، ولم تحل لي إلا ساعة من نهار، لا ينفر صيدها، ولا يعضد شوكها، ولا يختني خناها، ولا تحل سقطتها إلا لمنشر، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد، فمن همّ بسيئة فويل له؛ إذ الله -جل وعلا- يقول: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) [الحج:25]".

فلله كم أنفق في حبها من أموال، ورضي المحبون بمفارقة فلذات الأكباد والأهل والأوطان!!

لا يرجع الطرف عنها حين ينظرها *** حتى يعود إليه الطرف مشتاقًا

سبحان من جعل بيته الحرام مثابة للناس وأمنًا، يردون إليه ويرجعون عنه ولا يرون أنهم قضوا منه وطرًا، ولما أضاف الجبار ذلك البيت إلى نفسه يقول -جل وعلا- لخليله إبراهيم: (وَطَهِّرْ بَيْتِي) تعلقت قلوب المؤمنين به، وكلما ذكر لهم بيت الله الحرام حنوا، وكلما تذكروا بعدهم عنه تأوهوا وأنوا.

جـعل البـيت مثـابًا لهم *** ليس منه الدهر يقضون الوطر

يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "تعجلوا إلى الحج؛ فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له". خرجه أبو داود في سننه. وقال موسى نبي الله -صلوات الله وسلامه عليه-: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى)، ويقول الله مادحًا بعض عباده المؤمنين: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً) [الأنبياء:90]، وفي الحديث عن الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم"، وقال ابن عمر -رضي الله عنهما-: "إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك"، ومن أجل ذلك قال أهل العلم: يجب الحج على الفور، فليس للمؤمن بالله واليوم الآخر أن يؤخره، يقول عمر -رضي الله عنه-: "ليمت يهوديًا أو نصرانيًا رجل مات ولم يحج، وجد لذلك سعة وخليت سبيله"، وقال علي -رضي الله عنه-: "استكثر من الطواف بهذا البيت قبل أن يحال بينكم وبينه"، يقول الله -جل جلاله-: (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [المائدة:97]، روى ابن أبي حاتم عن الحسن البصري: أنه تلى هذه الآية فقال: "لا يزال الناس على دين ما حجوا البيت واستقبلوا القبلة".

معاشر المؤمنين: كثرت النصوص المرغّبة في حج بيت الله الحرام، وهذا من رحمته ورأفته بأمته -صلوات ربي وسلامه عليه-، ومنه قوله -صلى الله عليه وسلم-: "من حج لله ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه"، من أدى هذا وأحسن فيه فليبشر، فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة".

الحج والعمرة من أسباب مغفرة الذنوب وسعة الأرزاق؛ لقول الحبيب المصطفى -صلوات ربي وسلامه عليه-: "تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد، وليس للحج المبرور ثواب إلا الجنة"، نعوذ بالله أن نكون من قوم حرموا طاعة الله والتقرب إليه، ففي صحيح ابن حبان من حديث أبي سعيد -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله -عز وجل- يقول: إن عبدًا صححت له جسمه، وأوسعت عليه في المعيشة، يمضي عليه خمسة أعوام لا يفد إلي لمحروم"، وكيف لا يكون محرومًا؟! فإنه لن يكون مع قوم يباهي الله بهم ملائكته وينصرفون من تلك المواقف العظيمة وقد غفر الله لهم ما سلف من الذنوب والعصيان: (انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) [الإسراء:21].

معاشر المؤمنين: إن حجاج بيت الله الحرام قريبون من ربهم -جل وعلا-، إن سألوه فهم أهل أن يستجيب دعاءهم، في سند ابن ماجه وصحيح ابن حبان من حديث عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "الغازي في سبيل الله -عز وجل- والحاج والمعتمر وفد الله، دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم"، وثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ما ترفع إبل الحاج رجلاً ولا تضع يدًا إلا كتب الله بها حسنة، أو محا عنه سيئة، أو رفع بها درجة". رواه ابن حبان.

ومن البشائر ما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ما أهلّ مهل قط إلا بشر -أهلّ: أي رفع صوته بالتلبية- ولا كبر مكبر قط إلا بشر"، قيل: يا رسول الله: بالجنة، قال: "نعم". رواه الطبراني في الأوسط، وهو في صحيح الجامع. وفيه أيضًا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال في استلام الحجر والركن اليماني: "فإن استلامهما يحط الخطايا حطًّا"، وقال في الطائف بالبيت العتيق: "ما رفع قدمًا ولا وضعها إلا كتب الله له عشر حسنات، وحط عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات".

اللهم يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، اللهم نسألك الهدى والعفاف والغنى، اللهم يسّر لنا الخير حيثما كنا، اللهم تقبل من حجاج بيتك الحرام، اللهم احفظهم يا أرحم الراحمين، اللهم أعنهم على العمل بسنة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-.

أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المؤمنين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

الحمد الله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه.

معاشر المؤمنين: الحج استجابة لأمر الله تعالى، وتقديم لمحبته على محبة الأهل والوطن والمال، يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أتاني جبريل فقال لي: إن الله يأمرك أن تأمر أصحابك أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية، فإنها من شعائر الحج". رواه أحمد وصححه ابن حبان، فالحج إظهار الرضا والتسليم والانقياد لله -سبحانه وتعالى-، ومن أجل ذلك بادر الصحابة -رضي الله عنهم- واستجابوا لأمر الله -جل وعلا-، فقد روى ابن أبي شيبة أن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانوا يرفعون أصواتهم بالتلبية حتى تبح أصواتهم.

ومن كرم الله وجوده ما حدث به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ يقول: "ما من مسلم يلبي إلا لبى ما عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر، حتى تنقطع الأرض من ها هنا وها هنا". رواه الترمذي.

ومن الأحاديث الجامعة في فضائل الحج ما رواه ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنك إذا خرجت من بيتك تهم البيت الحرام لا تضع ناقتك خفًا ولا ترفعه إلا كتب الله لك به حسنة، ومحا عنك خطيئة، وأما ركعتاك بعد الطواف كعتق رقبة من بني إسماعيل، وأما طوافك بالصفا والمروة كعتق سبعين رقبة، وأما وقوفك عشية عرفة فإن الله -جل وعلا- ينزل إلى السماء الدنيا فيباهي بهم الملائكة فيقول: عبادي جاؤوني شعثًا من كل فج عميق يرجون رحمتي، فلو كانت ذنوبكم كعدد الرمل أو كقطر المطر أو كزبد البحر لغفرتها، أفيضوا عبادي مغفورًا لكم ولمن شفعتم له، وأما رميك الجمار فلك بكل حصاة رميتها تكفير كبيرة من الموبقات، وأما نحرك فمذخور عند ربك، وأما حلقك رأسك فلك بكل شعرة حلقتها حسنة، وتمحى عنك بها خطيئة، وأما طوافك بالبيت بعد ذلك فإنك تطوف ولا ذنب لك، يأتي ملك حتى يضع يديه بين كتفيك فيقول: اعمل ما تستقبل فقد غفر الله لك ما مضى". رواه الطبراني في الكبير والبزار، وهو في صحيح الترغيب.

اعلم -بارك الله فيك- أن الحج الذي تغفر فيه السيئات وتقال فيه العثرات وينال صاحبها الجنة ونعيمها هو الحج المبرور، فقد روى الإمام أحمد في مسنده من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة"، قالوا: وما بر الحج يا رسول الله؟! قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إطعام الطعام وطيب الكلام"، وقال بعض السلف: "لا يعبأ بمن يؤم البيت إذا لم يأتِ بثلاثة: ورع يحجزه عن معاصي الله، وحلم يضبط به غضبه، وحسن الصحبة لرفقائه"، فعليك -بارك الله لك- بأعمال الخير والبر في حجك، فكان السلف يواظبون على نوافل الصلاة، وكان المغيرة الصنعاني يحج من اليمن ماشيًا، وكان له ورد بالليل يقرأ فيه كل ليلة ثلث القران.

ومما يتم بر الحج اجتناب ما حرم الله -جل وعلا-؛ لقوله سبحانه: (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) [البقرة:197]، قال بعض السلف لأخ له أراد الحج: أوصيك بما وصى به النبي -صلى الله عليه وسلم- معاذًا -رضي الله عنه-: "اتقِ الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن".

ومن أعظم ما يتقى أكل الحرام والحج بمال من كسب خبيث: "فإن كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به".

أما يوم عرفة فهو يوم قد عظّم الله أمره ورفع قدره، ومن فضائله أن الله -عز وجل- أنزل فيه قوله: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً) [المائدة:3]، عن طالب بن شهاب أن اليهود قالت لعمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "إنكم تقرؤون آية لو أنزلت فينا لاتخذناها عيدًا، فقال عمر: إني لأعلم حيث نزلت وأين نزلت وأين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين أنزلت، يوم عرفة، وإنا والله بعرفة يوم جمعة".

الوقوف بعرفة الركن الأعظم للحج؛ لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الحج عرفة"، ومن فضائله أن الله -عز وجل- يغفر لأهل ذلك الموقف ويباهي بهم الملائكة، فعن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من يوم أكثر أن يعتق به عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو فيباهي بهم الملائكة فيقول: ماذا أراد هؤلاء!!". خرجه مسلم.

ما أعظم ذلك الموقف وما أجمله، ذل وتضرع وتوبة وإنابة إلى الله -جل وعلا-، إنه موسم الغفران والعتق من النيران؛ ذلك أن ربنا جواد كريم رؤوف رحيم، ألا تراهم وقد جاؤوا من كل فج عميق، بذلوا أموالهم، وأتعبوا أبدانهم، واغبرت ثيابهم، وخلفوا الدنيا ولذاتها وراءهم، يحدوهم الشوق إلى عرفات وطاعة رب العالمين؛ يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وأفضل الدعاء دعاء يوم عرفة". الله أكبر!! أبشروا -عباد الله- بروح وريحان، ورب غير غضبان، قد وسعت رحمته كل شيء، أبشروا بغفران الذنوب والعفو عن الزلات؛ فعن أنس -رضي الله عنه- قال: وقف النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد كادت الشمس أن تؤوب، فقال: يا بلال: "أنصت الناس"، فقام بلال فقال: أنصتوا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "معاشر الناس: أتاني جبريل آنفًا فأقرأني من ربي السلام وقال: إن الله غفر لأهل عرفات وأهل المشعر وضمن عنهم التبعات"، فقام عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فقال: يا رسول الله: هذا لنا خاصة؟! فقال -صلى الله عليه وسلم-: "هذا لكم ولمن أتى من بعدكم إلى يوم القيامة"، فقال عمر: "كثر خير الله وطاب". رواه ابن المبارك وصححه العلامة الألباني.

يقول بلال -رضي الله عنه-: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال له غداة جمع -أي مزدلفة-: "يا بلال: أسكت الناس"، ثم قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله تطول عليكم في جمعكم هذا، فوهب مسيئكم لمحسنكم، وأعطى محسنكم ما سأل، ادفعوا باسم الله". رواه ابن ماجه.

كان الحكيم بن حزام -رحمه الله ورضي عنه- كريمًا منفقًا ماله في سبيل الله، كان يأتي يوم عرفة ومعه مائة رقبة من رقيقه ثم يعتقهم تقربًا لربه -جل وعلا- في ذلك الموقف، فعند ذلك يضج الناس بالبكاء والدعاء يقولون: "ربنا: هذا عبدك قد أعتق عبيده، ونحن عبيدك، فأعتق رقابنا من النار وأنت أكرم الأكرمين"، وقال ابن المبارك: جئت إلى سفيان الثوري عشية عرفة وهو جاثٍ على ركبتيه وعيناه تهملان، فقلت: من أسوء بهذا الجمع حالاً؟! فقال: الذي يظن أن الله لا يغفر لهم.

هنيئًا لمن رزقه الله الوقوف يوم عرفة مع قوم يجأرون إلى الله -جل وعلا- بقلوب وجلة وأعين دامعة، فكم فيهم من خائف أزعجه الخوف وأقلقه، ومحب ألهفه الشوق وأحرقه، وراجٍ أحسن الظن بوعد الله وأصدقه، وتائبٍ لربه فقرّ به، كم هناك من مستوجب للنار أنقذه الله وأعتقه، ومن أسير للأوزار فكه وأطلقه، وقفوا هناك كما وقف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هاتفين: لبيك اللهم لبيك، قد حسروا الرؤوس وطرحوا زينة الدنيا ولجؤوا لربهم -جل وعلا-، فلا ترى إلا خاشعًا يتبتل، وباكيًا يتوسل، ومذنبًا يتوب، ونفسًا تذوب، اللهم تقبل منهم يا أرحم الراحمين.

ها هم حجاج بيت الله الحرام وقد دفعوا من مزدلفة إلى منى في يوم عيدهم، في يوم الحج الأكبر، وهم في فرح وسرور ونعمة لا يعاد لها ملك الدنيا بأسرها، ذكر لله وتكبير وتهليل ورمي ونحر وحلق وطواف لربهم -جل وعلا-، كما قال ابن القيم -رحمه الله- واصفًا حالهم:

وراحوا إلى جمـع فباتوا بمشعـر الـ *** ـحرام وصلوا الفجر ثم تقدموا
إلى الجمرة الكبرى يريـدون رميهـا *** لوقت صـلاة العيد ثم تيممـوا
منـازلهم للنحـر يبغـون فضلــه *** وإحيــاء نسك من أبيهم يعظم
فلو كـان يرضـي الله نحـر نفوسهم *** لدانوا به طوعـًا وللأمر سلموا
كما بذلوا عنـد الجهــاد نحورهـم *** لأعدائه حتى جـرى منهم الدم

يروى أن سليمان بن عبد الملك خليفة المسلمين حج، فبينا هو يطوف رأى في الطواف العالم العابد سالم بن عبد الله بن عمر ومعه حذاء مقطع وعليه ثياب لا تساوي ثلاثة دراهم، فاقترب الخليفة منه وقال: يا سالم: ألك إليّ حاجة؟! فنظر إليه سالم نظرة تعجب ثم قال بغضب: يا سليمان: أنا في بيت الله وتريد مني أن أرفع حاجتي لغير الله -جل وعلا-؟!

قال محمد بن عبد الله الثقفي: شهدت خطبة ابن الزبير في الحج خرج علينا، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد: فإنكم جئتم من آفاق شتى وفودًا إلى الله -جل وعلا-، فحق على الله أن يكرم وفده، فمن كان منكم يطلب ما عند الله، فإن طالب ما عند الله لا يخيب، فصدقوا قولكم بالعمل، والنية النية، والقلوب القلوب، الله الله في أيامك هذه؛ فإنها أيام تغفر فيها الذنوب، جئتم من آفاق شتى في غير تجارة ولا طلب مال ولا دنيا ترجونها ها هنا، ثم لبى ولبى الناس، فما رأيت باكيًا أكثر من يومئذ.

قال سفيان بن عيينة: حجّ علي بن الحسن -رضي الله عنه-، فلما أحرم واستوت به ناقته اصفر وجهه وانتفض، فقيل له: ألا تلبي؟! فقال: أخشى أن يقال لي: لا لبيك ولا سعديك.

الله أكبر!! إنه الخوف من الله -جل وعلا- وإن كان محسنًا: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) [المؤمنون 60 :61].

وأختم بتذكير الدعاة إلى الله -جل وعلا- بواجبهم، فالحج موسم عظيم للدعوة لتوحيد رب العالمين، ونشر مذهب السلف، والتحذير من الشرك والبدع والتحزبات الجاهلية والتجمعات المخالفة لما عليه سلف هذه الأمة الصالح، وأن هذا والله لمن أعظم منافع الحج.

اللهم يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اجعلنا من الأوابين المخبتين، اللهم يسّر لنا الخير حيثما كنا، اللهم احفظ حجاج بيتك الحرام وألف بين قلوبهم ووفقهم للعمل بسنة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-، اللهم من سعى في خدمة حجاج بيتك الحرام ورعايتهم وتسهيل أمورهم، اللهم اجعل ذلك رفعة في درجاته، ومغفرة لسيئاته، واجزه عنا خير الجزاء، اللهم أعنهم وتقبل منهم يا أرحم الراحمين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.

اللهم يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، اللهم إنا نسألك الهدى والعفاف والغنى، ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

 

 

المرفقات

توبة وإنابة

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات