العصبية القبلية

ناصر بن سعود القثامي

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ مبدأ الأخوة الإيمانية 2/ تأليف الإسلام بين القلوب 3/ النسَب في نظر الإسلام 4/ ذم العصبية الجاهلية 5/ حرص الأعداء على تفريق الأمة الإسلامية 6/ تواضع النبي عليه السلام

اقتباس

ليس غير الإسلام جامعًا للقلوب، ليس غير الدين مؤلفًا بين الشعوب، تتلاشى أمامه كل دعاوى الجاهلية والفوارق الجنسية والعصبيات القومية، يأتي نبيكم محمد منذ زمن بعيد ليعلن للناس جميعًا ضلال الأنساب والأحساب والتفاخرات القبلية، ليعلن للناس جميعًا أن أصلهم واحد وخلقتهم واحدة ومردهم واحد والتمايز والتفاضل على أساس العمل والتقوى: "أيها الناس: إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي ..

 

 

 

 

أما بعد: فأوصيكم -عباد الله- ونفسي بتقوى الله، فتقواه سبحانه بها ترفع الدرجات وتغفر السيئات، وبها يتمايز الخلق عند فاطر السموات: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ).

عباد الله: إن من المبادئ العظيمة التي أرسَى دعائمها ديننا الحنيف مبدأ أخوّة الإسلام، إنها الصلة الحقيقية التي تربط أبناء الإسلام على تنائي الأوطان وتباعد الديار واختلاف الألسن واللغات. إن رابطة الدين والعقيدة رابطة تضمحلّ في ظِلالها كلّ روابط العنصريات والقبليات الممقوتة، إنها رابطة لا تنفصم عراها ولا تتقطع حبالها: (إِنَّمَا الْمؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ).

عباد الله: ليس غير الإسلام جامعًا للقلوب، ليس غير الدين مؤلفًا بين الشعوب، تتلاشى أمامه كل دعاوى الجاهلية والفوارق الجنسية والعصبيات القومية، يأتي نبيكم محمد منذ زمن بعيد ليعلن للناس جميعًا ضلال الأنساب والأحساب والتفاخرات القبلية، ليعلن للناس جميعًا أن أصلهم واحد وخلقتهم واحدة ومردهم واحد والتمايز والتفاضل على أساس العمل والتقوى: "أيها الناس: إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي فضل على أعجمي إلا بالتقوى".

عباد الله: إن النظر والمقياس يوم القيامة للقلوب والأعمال، لا للصور والأجسام، ولا للأحساب والأنساب. إن النسب -يا عباد الله- لا يزيد في عمل الإنسان ولا ينقص، يصدق ذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه".

إن النسب لم يقدم شيئًا لابن نبيّ الله نوح -عليه السلام-؛ إذ فارق أباه في العقيدة، فقال الله: (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ). إن النسب الرفيع لم يقدم شيئًا لأبي جهل ولا لأبي لهب: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ) [المسد: 1-3]، بينما نصرة الدين والإسلام ورفع لوائه هي التي رفعت سلمان الفارسي وبلالاً الحبشي وصهيبًا الرومي، فهم لا يملكون نسبًا ذائعًا ولا صيتًا قبليًّا؛ إذ سمع نبينا خشخشة بلال في الجنة، ويقول لصهيب: "ربح البيع أبا المنذر"، ويأتي سلمان لما تفاخروا بالقبيلة ليعلن مقولته المشهورة:

أبي الإسلام لا أب لي سواه *** إذا افتخروا بقيس أو تميمِ

إن العصبية القبلية والحمية الجاهلية رافعة ألوية الشيطان وباعثة الأحقاد وموقدة الفتن: (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ) [الفتح: 26].

لقد حذّر نبينا من المفاخرة بالأحساب والطعن في الأنساب، وجعلها من أمور الجاهلية، ولذا يقول: "أربع من أمتي من أمر الجاهلية: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة"، ويقول -عليه الصلاة والسلام-: "ثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في الأنساب، والنياحة على الميت".

إن العصبة القبلية والحمية من أجلها مقتها رسولنا وعدّها من دعاوى الجاهلية: "ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية"، ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية"، بل جعلها الإسلام منتنة تنفيرًا للنفوس من سلوك طريقها واتباع سبيلها؛ إذ ضرب رجل من الأنصار رجلاً من المهاجرين فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "ما بال دعوى الجاهلية؟!"، فقالوا: يا رسول الله: رجل من الأنصار ضرب رجلاً من المهاجرين، فقال: "دعوها فإنها منتنة".

إن المفاخرة بالقبيلة واستنقاص الناس يتنافى مع التواضع؛ إذ يقول -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد ولا يفخر أحد على أحد".

عباد الله: إن الافتخار بالآباء والاعتزاز بالانتماء القبلي والطعن في أنساب الناس وأصولهم واحتقارهم لأجل هذا أمر منكر يدل على ضعف الإيمان وخور العقل، إنه مرض فتاك يشعل العداوات ويفرق الجماعات، يولّد الكبر المذموم والزهو الممقوت: "الكبر بطر الحق وغمط الناس".

إن استنقاص الناس والتقليل من شأنهم والحطّ من قدرهم على أساس العنصريات القبلية والانتماءات المكانية أمر يتنافى مع تعاليم الإسلام ويفرق الأخوة الإسلامية ويزرع الأحقاد: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحقره".

لقد شدّد النبي في محاربة هذا الداء بقوله: "لينتهين أقوام يفخرون بآبائهم الذين ماتوا إنما هم فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان الذي يدهده الخرأة بأنفه، إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية -أي: كبرها-، إنما هو مؤمن تقي وفاجر شقي، الناس كلهم بنو آدم، وآدم خلق من تراب".

لقد جاء نبينا إلى المدينة فوجد قبلتَي الأوس والخزرج متناحرتين، تقوم بينهما المعارك لأتفه الأسباب، تغلغلت فيهم أسباب العصبية والنعرات الجاهلية، جاءهم بعدل الإسلام ونور الإيمان، فأصبحوا إخوة متحابين متآلفين، سادوا الدنيا ونصروا الدين، إنهم الأنصار، أثنى الله عليهم في كتابه، وذكّرهم بحالهم إبان الفرقة والنزاعات الظالمة: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) [آل عمران: 103].

عباد الله: إن أعداء الإسلام بمكرهم الدفين وحقدهم المتين على الإسلام وأهله لم يألوا جهدًا في التفرقة وإثارة النزاعات والعصبيات؛ لأنهم يدركون أن هذا طريق التمزق والاختلاف والضعف والوهن للمسلمين، ويصدق ذلك واقعهم المعاصر في أرض العراق وإثارة الأحقاد والحزبيات والطائفيات: (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [الأنفال: 30].

عباد الله: لقد ساوى الإسلام بين الناس، وأعلمهم بما يتمايزون به يوم القيامة، إنه ميزان التقوى لا ميزان اللون والجنس والقبيلة: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [لحجرات: 13].

لقد بدأت الآية بتأصيل مبدأ الخلق وأن أصلهم واحد: آدم وحواء، ثم أخبرت عن تشعب الناس وقبائلهم لأجل التعارف لا لأجل التفاخر، ثم ختمت ببيان ميزان الكرامة والرفعة عند الله ألا وهو التقوى.

عباد الله: العصبية القبلية مجالس الدهماء تروّجها، واحتفالات القبائل تذكيها، وأشعار الغاوين تردّدها، ونحن أمّة واحدة، عقيدة الإسلام تجمعنا، وراية التوحيد تؤلّف بيننا، لا فخر لنا إلا بطاعة الرحمن، ولا عز لنا إلا بالإيمان، ومهما ابتغينا العزة بالأنساب والألوان فلا عز لنا.

إن العصبية القبلية قد توقع المرء في ظلم العباد ومنع الحقوق وبخس الناس أشياءهم والانتصار للباطل ودخول الكبر المذموم إلى قلب العبد، ألم يمتنع إبليس من السجود لآدم بسبب نظرته لأصله الناري؟! فكيف يسجد للأصل الطيني؟! (قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) [الأعراف: 12]، (أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا) [الإسراء: 61].

فاتقوا الله عباد الله، واربؤوا بأنفسكم عن النعرات الجاهلية والافتخار بالقبلية والعصبية، فإن الفخر الحقيقي والنسب الحقيقي في الإسلام، عليه نحيا وعليه نموت.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي سيد المرسلين، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين.

 

 

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه.

عباد الله: إن أخوة الإسلام من أوثق الروابط بين المسلمين، تتجاوز الحدود الجغرافية والروابط القبلية: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا".

وإن الناظر -يا عباد الله- في حال نبينا محمد وما كان عليه من التواضع الجمّ وهو من هو صاحب الحوض المورود واللواء المعقود، صاحب النسب الطاهر والحسب الرفيع؛ ولذا يقول: "أنا سيد ولد آدم ولا فخر"، وهو خيار من خيار، ومع ذلك لم يحمله شرف نسبه ورفعة أصله على الكبر وازدراء الناس واحتقارهم، بل ضرب به المثل في التواضع، يأكل مع الخادم، ويجالس المسكين، ويمشي مع الأرملة، ويرقع ثوبه، ويحلب شاته، ويشهد الجنازة، ويركب الحمار، وينام على الحصير، ويقول: "أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة".

فاتقوا الله -عباد الله-، وصلوا وسلموا على قدوة الخلق أجمعين...
 

 

 

 

المرفقات

القبلية1

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات