معالم الهداية في القرآن (3)

سعيد بن يوسف شعلان

2022-10-05 - 1444/03/09
عناصر الخطبة
1/ صورة في مجادلة المشركين ومغالطتهم في تحريم الميتة 2/ عبادة الشيطان وطاعته واتباعه 3/ التحاكم إلى غير الله شرك وكفر 4/ معنى قوله: (ومن لم يحكم بما أنزل الله...) الآيات 5/ دعوة لطلب العلم الذي يربي الشهوات ويزيل الشبهات

اقتباس

فمن هدي القرآن للتي هي أقوم بيانه أنَّ كل من اتبع تشريعًا غير التشريع الذي جاء به سيد ولد آدم محمد بن عبد الله -صلوات الله وسلامه عليه-، فاتباعه لذلك التشريع المخالف كفر بواح مخرج عن الملة الإسلامية. وفي رواية أخرى عن أبي داود عن ابن عباس أنّ الكفار لما قالوا للنبي –صلى الله عليه وسلم-: الشاة تصبح ميتة، مَنْ قتلها؟! فقال لهم: "الله قتلها"، فقالوا له: ما ذبحتم بأيديكم حلال، وما ذبح الله بيده الكريمة حرام!! فأنت إذن أحسن من الله. أنزل الله تعالى عندها قوله سبحانه في سورة الأنعام...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

أما بعد:

فمن هدي القرآن للتي هي أقوم بيانه أنَّ كل من اتبع تشريعًا غير التشريع الذي جاء به سيد ولد آدم محمد بن عبد الله -صلوات الله وسلامه عليه-، فاتباعه لذلك التشريع المخالف كفر بواح مخرج عن الملة الإسلامية.

وفي الطبراني عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، وفي رواية أخرى عن أبي داود عن ابن عباس أيضًا وأخرجها ابن ماجه وابن أبي حاتم بإسناد صحيح أنّ الكفار لما قالوا للنبي –صلى الله عليه وسلم-: الشاة تصبح ميتة، مَنْ قتلها؟! فقال لهم: "الله قتلها"، فقالوا له: ما ذبحتم بأيديكم حلال، وما ذبح الله بيده الكريمة حرام!! فأنت إذن أحسن من الله. أنزل الله تعالى عندها قوله سبحانه في سورة الأنعام: (وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَـاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَـادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) [الأنعام:121].

وذلك أن فارسًا أرسلت إلى قريش ليجادلوا النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك، أرسلوا إلى قريش ليجادلوا الرسول في حِل الأكل مما ذبحه الإنسان بيده وحرمة الأكل من الميتة.

وقال الله -تبارك وتعالى- في هذه الآية عن الذين يطيعون أولياء الشياطين فيما يوحونه إليهم ليجادلوا به إنهم لمشركون، فهو قسم من الله تعالى أقسم به على أن من اتبع الشيطان من تحليل الميتة أنه مشرك، وهذا الشرك مخرج عن الملة بإجماع المسلمين، وسيوبخ الله مرتكبه يوم القيامة بقوله الذي جاء في سورة يس: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يبَنِى ءادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشَّيطَـانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) [يس:60].

فهذا الاتباع إنما هو في طاعته في تشريعه المخالف للوحي ولذلك سمى هذه الطاعة عبادة وهي عبادة الشيطان حقًّا، عبادته هي طاعته وليست عبادته الصلاة له ونحوها من الأمور التي لا يجوز صرفها إلا لله، بل عبادته هي طاعته، فمن أطاعه في معصية الله تعالى فقد عبده، يصدق عليه قوله تعالى: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يبَنِى ءادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشَّيطَـانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِى هَـاذَا صِرطٌ مُّسْتَقِيمٌ) [يس: 60، 61].

ومن الآيات الدالة كذلك على أن طاعة الشيطان شرك قوله تعالى في سورة النساء: (إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَـاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَـاناً مَّرِيداً) [النساء:117]، أي ما يعبدون إلا شيطانًا باتباعهم تشريعه، وقال تعالى في سورة الأنعام: (وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَـادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ) [الأنعام:137]، فسماهم شركاء لأنهم أطاعوهم في معصية الله، وقال -سبحانه وتعالى- عن خليله إبراهيم في سورة مريم، قال لأبيه: (ياأَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَـانَ) [مريم:44]، أي بطاعته في الكفر والمعاصي، ولم يكن أبو إبراهيم يصلي للشيطان، ولا ينحر للشيطان، ولا يتضرع للشيطان، إنما كان يفعل ذلك بالأصنام، فما كفر بالله وعصاه إلا طاعة للشيطان، ولهذا قال له ابنه إبراهيم الخليل: يا أبت: لا تعبد الشيطان، أي لا تطعه في الكفر بالله -تبارك وتعالى- والمعاصي.

وعند أحمد والترمذي وابن جرير من طرق: أن عدي بن حاتم -رضي الله عنه- سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يدخل في الإسلام عن قوله تعالى في سورة التوبة، عن الآية التي سمعها عندما آتى النبي -صلى الله عليه وسلم-: (تَّخَذُواْ أَحْبَـارَهُمْ وَرُهْبَـانَهُمْ أَرْبَاباً مّن دُونِ اللَّهِ) [التوبة:30]، وكان عدي يظن أن العبادة هي كما تقدم: الصلاة ونحوها من العبادات التي لا يجوز صرفها إلا لله، وهو يعلم أن النصارى الذين كان على دينهم لم يكونوا يقصدون أحبارهم ورهبانهم بذلك، لم يكونوا يصلون لهم، أو ينحرون لهم، أو يتضرعون إليهم، كان الأمر بخلاف ذلك، وعدي يعرف ذلك معرفة قطعية، ولذلك سأل النبي -صلى الله عليه وسلم-: (تَّخَذُواْ أَحْبَـارَهُمْ وَرُهْبَـانَهُمْ أَرْبَاباً مّن دُونِ اللَّهِ) [التوبة:30]، فقال: "ما كانوا يعبدونهم"، بيَّن له النبي -صلى الله عليه وسلم- أن ذلك في تحليلهم ما حرّم الله، وتحريم ما أحل، فتلك عبادتهم، فأذعن عدي وخضع، وقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: أيضرك -يا عدي- أن يقال: الله أكبر؟! هل هناك من هو أكبر من الله؟! أيضرك أن يقال: لا إله إلا الله؟! هل تعلم إلهًا غير الله؟! ودخل عدي في الإسلام.

فالعجب ممن يحكم بتشريع غير الله، ثم يدَّعي الإسلام، كما قال الله تعالى في سورة النساء: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءامَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ) [النساء:60]. يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك، (يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّـاغُوتِ) [النساء:60]. والطاغوت كل معبود ومتبوع ومطاع من دون الله تعالى: (يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّـاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَـانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَـالاً بَعِيداً) [النساء:60].

وقال أيضًا في سورة المائدة: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَـافِرُونَ) [المائدة:44]. وقال كذلك في سورة الأنعام: (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِى حَكَماً وَهُوَ الَّذِى أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَـابَ مُفَصَّلاً وَلَّذِينَ ءاتَيْنَـاهُمُ الْكِتَـابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مّن رَّبّكَ بِلْحَقّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) [الأنعام:114].

فالعجب من هؤلاء حقًّا، ليس العجب ممن يتحاكمون إلى غير الله، وهم لا يؤمنون به خالقًا، ولا ربًا، العجب منهم حقًّا في إنكارهم لخالقهم، والأدلة من حولهم تدل على أنهم مخلوقون ومربوبون وعبيدٌ لله الخالق الواحد، الأدلة حولهم تأتيهم من كل حدب وصوب، فالعجب من إنكارهم، لكنهم إذا أنكروا وتحاكموا إلى غير الله أمر طبيعي عندما لا يؤمنون بأن الله هو خالقهم أن لا يتحاكموا إليه، وأن يتحاكموا إلى بعضهم؛ لأنهم يتحاكمون بحسب ما يرون فيه الصالح لهم في أمور معاشهم، أما العجب في هذه المسألة مسألة التحاكم إلى غير الله إنما هو من الذين يقرون بالله ربًا خالقًا وإلهًا، ويعلنون الإسلام، ثم هم بعد ذلك يتحاكمون إلى غير الله، والمخلوق ينبغي أن يكون كما أراده خالقه.

إننا لا نعرف صنعة صنعها ابن آدم كانت على خلاف ما أرادها منها صانعها إلا الإنسان؛ فإنه يريد أن يكون على خلاف ما أراده منه خالقه وصانعه وموجده، إلا من رحم الله ممن قَوِيَ في قلوبهم التصديق والمعرفة والمحبة لله -تبارك وتعالى-.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

 

 

الخطبة الثانية:
 

أما بعد:

فلقد أخرج ابن أبي حاتم والحاكم عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، أنه قال -رضي الله عنه وعن أبيه- في تفسير الآية من سورة المائدة: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَـافِرُونَ) [المائدة:44]: إنه ليس بالكفر الذي يذهبون إليه، إنه ليس كفرًا ينقل عن الملة، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون، كفر دون كفر.

وهذا الأثر عن ابن عباس -رضي الله عنهما- وغيره من الآثار التي في معناه عن غيره من الصحابة -رضي الله عنهم- وعن التابعين -رحمهم الله-.

هذه الآثار مما يلعب به المضللون في عصرنا هذا، من المنتسبين للعلم ومن غيرهم ممن يتجرؤون على الدين، يجعلونها عذرًا أو إباحة للقوانين الوثنية الموضوعة التي ضربت على بلاد الإسلام، يحتجون ويعتلون بها، ويجعلون التحاكم إلى هذه القوانين الموضوعة مباحًا مستندين إلى مثل هذه الآثار.

ولهذا يجدر هنا أن نذكر تفاصيل أحوال الذين يتحاكمون إلى غير الله كما ذكرها العلماء، وعلى أي حال منها ينطبق كلام ابن عباس -رضي الله عنهما- وغيره.

قال العلماء -رحمهم الله-: الكفر والظلم والفسق المذكورة عقب قوله تعالى في سورة المائدة: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ) [المائدة:44]، كل واحد منها ربما أطلق في الشرع على المعصية تارة، كما فسر ابن عباس بذلك هذه الآية واستمعتم إليه: "كفر دون كفر"، أي لا يخرج من الملة، فالكفر والفسق والظلم تارة يطلق على المعصية، ويطلق على الخروج من الملة تارة أخرى، فالكفر والظلم والفسق إذن يطلق تارة على المعصية وتارة على الخروج من الملة.

فمن لم يحكم بما أنزل الله معارضة للرسل وإبطالاً لأحكام الله فكفره وظلمه وفسقه مخرج عن الملة، ومن لم يحكم بما أنزل الله وهو يعلم أنه مرتكبٌ حرامًا فاعلٌ قبيحًا فكفره وظلمه وفسقه ليس مخرجًا عن الملة، أي من فعل ذلك لهواه، ولم يقصد استحلال هذا الأمر أو معارضة الرسل فكفره وظلمه وفسقه ليس مخرجًا عن الملة، وقد وقع من ذلك شيئًا من الحكام في زمن ابن عباس وأبي مجلز وغيرهم، فكانوا يفتون السائلين بأنه كفر دون كفر؛ لأن الحكام وقتها الذين كانوا يفعلون ذلك كان يدفعهم إلى ذلك الهوى، ولم يكن يجرؤ منهم حاكم أن يسن قانونًا يعارض به الرسل أو يريد به إبطال أحكام الله -تبارك وتعالى-، فكان الخوارج يأتون إلى ابن عباس وإلى أبي مجلز وغيرهم يريدون أن يأخذوا منهم كلامًا يعتلون به للخروج على الحكام، وهم -رحمهم الله- كانوا يعلمون أن الحكام ما كانوا يحيدون عن الصواب أحيانًا إلاّ اتباعًا للهوى، فلهذا قالوا: إنه ليس الكفر الذي يذهبون إليه، إنه ليس الكفر الذي ينتقلون به عن الملة، إنما هو كفر دون كفر.

فجاء المضللون في عصرنا هذا وفي غير عصرنا في الأزمنة الأخيرة التي قل فيها داعي الدين، وداعي التصديق والمعرفة والمحبة لله، جاء المضللون ليعتلوا بهذه الأعذار، ويحتجون بها في إباحة التحاكم إلى قوانين موضوعة وثنية، ضربت على بلاد الإسلام.

والذين اشتكى منهم المشتكون في زمن ابن عباس وأبي مجلز غاية ما هناك أنهم كانوا يجورون أو يظلمون اتباعًا للهوى وإيثارًا لدنياهم، أما أن يحكموا بتشريع غير تشريع الله، فهذا ما لم يكن يقول فيه ابن عباس كفر دون كفر، أو ظلم دون ظلم، أو فسق دون فسق.

وليس التحاكم إلى غير الله في الدماء والأعراض والأموال ونحوها فحسب، أي لا ينبغي أن يتصور الناس أن الذين هم مؤاخذون ومعاقبون ومهددون ومتوعدون بقوله: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَـافِرُونَ) [المائدة:44]، (لظَّـالِمُونَ) [المائدة:45]، (لْفَـاسِقُونَ) [المائدة:47]، هم الحكام والقضاة فحسب، بل جميع الناس معاقبون ومهددون ومتوعدون بذلك، فمن ارتضى غير تشريع العزيز الحميد في نفسه وأهله وبيته وفي كل ما يقدر عليه من التحاكم إلى شرع الله فتجاوزه وتعداه إلى شرع غيره، فهو مغضوب عليه متوعد ومهدد بالعقوبة، لكن الناس متفاوتون في ذلك بحسب ما حملهم على التجاوز والتعدي، فإن كان الحامل لهم معارضة الرسل، وإبطال أحكام الله، ورؤية أن ما عند أعداء الله أفضل من حكم الله -عز وجل-، فكفره وظلمه وفسقه مخرج عن الملة، ومن كان الحامل له هواه فكفره وظلمه وفسقه كبيرة، وأمره فيها إلى الله -تبارك وتعالى-؛ إن تاب وحسنت توبته فهو إلى الله -تبارك وتعالى-، إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه.

والعجب كل العجب من الذين يحرصون على الرُّخَص أن يتعدى بهم الأمر أن يترخصوا في الحكم بغير ما أنزل الله عندما يسألون: هل الذي يترك شيئًا مما أمر الله به أو أمر به رسول الله هل يكون كافرًا كما قالت آيات المائدة؟! والذي دفعه إلى ذلك حب الدنيا ومتابعة الهوى فيقال له: لا، كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق.

فيقول: الحمد لله، أنه ليس بكفر ولا ظلم ولا فسق مخرج عن الملة.

عجبًا، كل العجب، كيف أدَّاهم جهلهم إلى أن تهدأ نفوسهم وقلوبهم إلى التحاكم إلى غير ما أنزل الله -تبارك وتعالى- اعتمادًا على أن ذلك لا يخرجهم من الملة، كيف يسوغ ذلك في عقولهم، إن ذلك -ولا شك- يرجع إلى ما في القلب من تصديق ومعرفة ومحبة لله -عز وجل-، ولو قوي ما في القلب من المعرفة والتصديق والمحبة لله لأوجب ذلك بُغض أعداء الله، كما قال بذلك شيخ الإسلام -رحمه الله-، ولأوجب النفور من مخالطتهم ومن متابعتهم في تشريعاتهم المضادة لتشريع الله -تبارك وتعالى-.

والناظر في أحوال السلف من الصحابة والتابعين -رضي الله عنهم- يجد فيهم الحرص على طاعة الله -عز وجل- والمسارعة إلى الخيرات، هذا فيما يتعلق بما يجب عليهم نحو الخالق، وأما ما يجب عليهم نحو المخلوقين فكانت تصرفاتهم تصدر عن تطبيق لأسمى معاني الإخوة.

ما كان أحد منهم يرضى أن يبيت أخوه تحت وطأة وشدة ظلم أخيه له، كانت الهفوة إذا وقعت من أحدهم تاب منها وبادر وسارع، فإن كانت فيما يتعلق بطاعة الله -عز وجل- تاب وندم وأقبل وأناب إلى الله -عز وجل-، وظل منها وجلاً مشفقًا إلى أن يموت، وإذا كانت معصيته بحق أخ من إخوانه استحله من مظلمته، لم يكن أحد منهم يرضى أن ينقص إيمانه بسبب الأذى للجار أو ظلم الضعيف أو ما إلى ذلك من الأمور التي كثر منها الشكاوى في زماننا، وإنما كان السلف كذلك، وأصبحنا نحن كذلك؛ للفارق الشاسع بيننا وبينهم فيما يتعلق بما في القلوب من التصديق والمعرفة والمحبة لله -عز وجل-، وليست هذه الأمور كنزًا ألقاه ملق في الماء فالتقمه حوت فلا يناله إلا صياد محظوظ يصطاد هذا الحوت فيخرج الكنز من جوفه فيصبح بعدها مصدقًا بالله عارفًا له، ليس الأمر كذلك، التصديق والمعرفة والمحبة لله -عز وجل- تتم بأن يسلك العبد في سبيلها الطرق التي تصل به إلى المنشود.

يتعرف إلى الله بأسمائه الحسنى، بآياته المبثوثة في تضاعيف الكون، وذلك كثير كثير يشهد كل جزء صغير منها على ما ينبغي للتصديق بالله -عز وجل- والمعرفة له والمحبة، ما يدفع بالعبد إلى أن يراقب خالقه وينيب ويسارع في الخيرات ويكف عن ظلم أخيه المسلم وأهله وجيرانه وإخوانه، فيكون آتيًا بما عليه نحو الخالق ونحو المخلوقين.

عبد الله بن وهب بن مسلم أحد الذين شُهد لهم بالعلم والإمامة والفضل، كان في بداية أمره عابدًا مهتمًا بأمر العبادة فحسب، ثم اتفق له ووقع له أن تحير في خلق عيسى -عليه السلام-، فسأل شيخًا له فقال له: ابن وهب؟! قال: نعم. قال: اطلب العلم.

وفي هذا ما فيه من الدعوة إلى سلوك سبيل يزيل الشكوك ويقتل الشهوات، وطَلَبَ العلمَ، طلبه متأخرًا عن أقرأنه نسبيًا في سن السابعة عشرة، وما طلبه إلا لما وقعت له هذه الحيرة والاشتباه والشك الذي يقع للعباد غالبًا ويتعرضون له بسبب عدم فقههم وعلمهم وفهمهم، فمن طلب العلم حصل له سلوك سبيل من السبل التي تؤدي إلى حصول التصديق والمعرفة والمحبة لله وقوة ذلك في القلب، بما يعود على العبد بخير الدنيا والآخرة.
 

 

 

 

المرفقات

الهداية في القرآن (3)

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات