الخشوع الغائب

سليمان بن حمد العودة

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ إحسان العبادات 2/ معنى الخشوع في الصلاة 3/ قيمته 4/ حكمه 5/ من مظاهر عدم الخشوع في الصلاة 6/ أسباب معينة على الخشوع في الصلاة

اقتباس

وإنَّ من الحرمان أن يجهد المرء نفسه ثم لا يتقبل الله منه بسبب تقصيره وتلاعب الشيطان بعبادته، وكم هو مؤلم للنفس أن يمكث الإنسان دهرا من عمره يؤدي الصلاة وكأنها عادة لا عبادة، فلا يجد فيها أنسه، ولا تنهاه عن معصية، وفرق كبير بين من إذا دخل الصلاة تمنى عدم الخروج منها لما يجده من لذة المناجاة وقرة العين، وبين من إذا دخل في الصلاة أخذ يحسب أنفاسه حتى تقضى الصلاة!.

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فيا أيها الناس اتقوا الله وأصلحوا أعمالكم وراقبوه فيما تعملون أو تدعون، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر:18].

عباد الله: كثيرا ما يسأل المرء منا نفسه: ماذا وكم عمل؟ وقليلاً ما نسائل أنفسنا: وكيف كان عملنا ومدى قربه أو بعده من هدي نبينا؟ وهذا من جهلنا، وتقصيرنا بحقيقة العبادة التي يريدها الله منا، فإن المعوّل عليه في العبادات كلها إخلاصها وصحة أدائها، لا مجرد الإتيان بها وكثرتها.

ولقد بين الله في كتابه الكريم أنه خلقنا ليبلونا أينا أحسن عملا، قال تعالى في سورة هود: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [هود:7]. وقال في سورة الملك (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [الملك:2].

ذلك لمن كان يرجو لقاء ربه، كما قال في سورة الكهف: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) [الكهف:110]. قال العارفون في معنى: "أحسن عملا"، أي: أصوبه وأخلصه.

وحتى نبلوا أنفسنا ونصحح أخطاءنا تعالوا بنا لنقف على مواقعنا في عبادة من أهم العبادات وأكثرها تكرارا في اليوم والليلة، هي أول ما سنحاسب عليه، وهي آخر ما نفقد من ديننا، إنها الصلاة، كتاب الله المفروض على المسلمين، والحد الفاصل بينا الإسلام والكفر.

ولن يكون حديثي هذا اليوم عن فريضة الصلاة ووجوبها، وليس الحديث موجها لأولئك النفر القلة المضيعين للصلاة والمفرطين في الواجبات، لكنه حديث موجة لنفر من المسلمين المحافظين على الصلاة بأوقاتها ومع جماعة المسلمين، أولئك الذين يرجون رحمة الله، ويرغبون في معرفة أخطائهم، ويتطلعون إلى الاقتداء بخير البرية محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-.

وحيث سبق الحديث عن الخشوع بمفهومه العام، وحاجتنا إليه، فحديث اليوم عن الخشوع في الصلاة، لب الصلاة وروحها، وهذا الخشوع الذي افتقده كثير من المصلين، ولم تقف المصيبة بفقده عند عوام الناس، بل شملت الخواص -إلا من رحم الله- وسار داء فقد الخشوع حتى شمل النساء إلى جانب الرجال، والصغار إلى جانب الكبار.

ولم تكن البلية بعدم الخشوع في الصلاة حدثا طارئا؛ بل وجد فيمن قبلنا، ولكن بنسب متفاوتة، وكلما شاع الجهل وقل التقى، واشتغل الناس بالدنيا عن الدين، كلما اتسعت الهوة وقل الخشوع في العبادة، ولئن صحت نسبة القول إلى أحد السابقين: يوشك أن تدخل المسجد الجامع فلا ترى فيه رجلا خاشعا. أخرجه الترمذي والنسائي. فهي البلية الكبرى، والمصيبة العظمى.

وعلى كل حال؛ فما من شك أن غياب الخشوع في الصلاة ظاهرة خطيرة، وداء يستحق الوقفة، ويستوجب العلاج، وذلك لأمرين هامين:

الأمر الأول: أن الصلاة ميزانٌ لقبولِ الأعمال أوردها، يقول -عليه الصلاة والسلام-: "أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت صلح له سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله" رواه الطبراني وصححه الألباني.

الثاني: أن المرء ليس له من صلاته إلا ما عقل منها، كما قال ابن عباس -رضي الله عنهما- وفي المسند مرفوعا: "إن العبد ليصلي الصلاة ولم يكتب له إلا نصفها، أو ثلثها أو ربعها حتى بلغ عشرها".

فهل ترضى -يا أخا الإسلام- أن ترد أعمالك الأخرى بسبب عدم إصلاح صلاتك؟ وهل يكفيك أن يكتب لك من صلاتك ربعها أو ثمنها أو عشرها؟.

أيها المسلمون، أيها المصلون: وهنا ترد الأسئلة التالية: ما معنى الخشوع في الصلاة؟ وما حكمه؟ وما مظاهر عدم الخشوع في صلاتنا، وكيف نستجلب الخشوع في الصلاة؟.

أما معنى الخشوع في الصلاة: فهو -كما قال ابن كثير رحمه الله-: تفريغ القلب لها، وعدم الاشتغال بما عداها، وإيثارها على غيرها، وحينئذ تكون قرة عين للمصلي، كما كانت للنبي -صلى الله عليه وسلم-: "وجعلت قرة عيني في الصلاة" أخرجه النسائي واحمد.

والخشوع في الصلاة كما جاء في عبارات السلف، سكون، وخوف، وغض للبصر، وخفض للجناح، وعدم الالتفات هنا أوهناك.

هو باختصار سكون الجوارح عن الحركة غير المأذون بها شرعا، وتدبر القلب وخشوعه لما يقال أو يفعل في الصلاة إن سرًّا أو جهرا.

قال بعض السلف: الصلاة كجارية تهدى إلى ملك الملوك، فما الظن بمن يهدي إليه جارية شلاء أو عوراء أو عمياء أو مقطوعة اليد والرجل أو مريضة أو دميمة أو قبيحة؟ حتى يهدي إليه جارية ميتة بلا روح؟ فكيف بالصلاة يهديها العبد ويتقرب بها إلى ربه تعالى؟ والله طيب لا يقبل إلا طيبا، وليس من العمل الطيب صلاة لا روح فيها، كما أنه ليس من العتق الطيب عتق عبد لا روح فيه.

أيها المؤمنون: أما حكم الخشوع في الصلاة فقد قال بوجوبه في الصلاة عدد من العلماء، قال القرطبي -رحمه الله-: اختلف الناس في الخشوع هل هو من فرائض الصلاة أو من فضائلها ومكملاتها؟ على قولين، والصحيح الأول، ومحله القلب.

وممن قال بوجوبه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: قال تعالى (وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ) [البقرة:45] ؛ قال الشيخ: وهذا يقتضي ذم غير الخاشعين، والذم لا يكون إلا لترك واجب أو فعل محرم، وإذا كان غير الخاشعين مذمومين دل ذلك على وجوب الخشوع.

كما استدل الشيخ على وجوب الخشوع لقوله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ) [المؤمنون:1-2]، إلى قوله: (أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [المؤمنون:10-11]. وبأدلة أخرى وكلام طويل استجمعه رحمه الله؛ كما قال بالوجوب الحافط العراقي في طرح التثريب ردًّا على النووي رحمهما الله.

إخوة الإسلام: فإذا علم وجوب الخشوع في الصلاة أدركنا مدى تفريطنا وتهاوننا في أداء هذه الفريضة الواجبة وقل خشوعنا في الصلاة، فإن قال قائل: وما هي مظاهر عدم خشوعنا في الصلاة؟ قلت: هذه كثيرة، ومنها:

أولاً: كثرة الحركات في الصلاة دونما فائدة، كتحريك الأرجل والأيدي، وتسوية الملبس ومسّ الشعر والنظر في الساعة وفرقعة الأصابع ونحو ذلك، وتأمل كيف قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لجابر -رضي الله عنه- حين سأله عن مسِّ الحصى في الصلاة، فقال: "واحدة، ولأن تمسك عنها خير لك من مائة ناقةٍ كلها سود الحدق العيون" روه ابن خزيمة وصححه الألباني.

ثانياً: الإلتفات في الصلاة، وهو نوعان: حسي ومعنوي، فالحسي تقليب البصر يمينا وشمالا، وذلك هو الاختلاس الذي يختلسه الشيطان من صلاة العبد، كما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري.

والمعنوي هو التفات القلب عن الله لأي غرض من أغراض الدنيا، والانشغال عن الصلاة، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لعمرو بن عتبة -رضي الله عنه- في فضل الوضوء والصلاة الخاشعة "فإن هو قام وصلى فحمد الله وأثني عليه... وفرّغ قلبه لله انصرف من خطيئته كيوم ولدته أمه" رواه مسلم. والخاشع والموفق من سلم من التفات البصر والفؤاد في الصلاة ولم يرفع بصره إلى السماء.

ثالثاً: ومن مظاهر عدم الخشوع استثقال الصلاة... قال الله تعالى: (وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ)، والمعنى: ثقيلة إلا على الخاشعين.

ومن مظاهره عدم نهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر، قال تعالى: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ) رواه ابن خزيمة وصححه وصححه الألباني. وقيل للنبي -صلى الله عليه وسلم-: إن فلاناً يصلي الليل كله، فإذا أصبح سرق، فقال: "سينهاه ما تقول"، أو قال: "ستمنعه صلاته" رواه أحمد والبزار وصححه الألباني.

خامساً: ومن مظاهر عدم الخشوع كثرة السهو فيها، وقلة التدبر لما يقال أو يقرأ من القرآن فيها، ولو سألت بعضهم ماذا قرأ الإمام في المغرب والعشاء مثلا أو ماذا قرأ هو في صلاة اليوم لتردد في الإجابة، وليس ذلك إلا مظهرا من مظاهر الغفلة، وعدم الخشوع والتدبر في الصلاة؛ فليحذر!.

سادساً: ومن أبرز مظاهر عدم الخشوع في الصلاة عدم الطمأنينة في الصلاة، وسرقة شيء من أركانها أو الواجبات، كعدم الاطمئنان في الركوع أو الرفع منه، أو السجود أو الجلسة بين السجدتين أو نحو ذلك، قال -صلى الله عليه وسلم-: "أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته"، قيل: يا رسول الله كيف يسرق صلاته؟ قال: "لا يتم ركوعها ولا سجودها" رواه أحمد والحاكم وصححه الألباني.

وفي الحديث الآخر: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن نقرة كنقرة الديك، وإقعاء كإقعاء الكلب، والتفات كالتفات الثعلب. رواه أحمد وصححه الألباني.

وقد يصل الأمر ببعضهم إلى مسابقة الإمام، وهذا من تلاعب الشيطان في المصلي، وإلا فهل سينهي الصلاة قبل الإمام؟ وقد حذر الرسول -صلى الله عليه وسلم- من ذلك فقال: "أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار؟" رواه مسلم.

اللهم وفقنا للهدى، وعافنا من البلوى.

 

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين أحمده تعالى وأشكره وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخيرته من خلقه، واللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.

إخوة الإيمان: إذا عرفنا معنى الخشوع في الصلاة وقيمته وحكمه وبعضا من مظاهر عدم خشوعنا في الصلاة، فهنا يرد السؤال المهم فكيف نخشع في الصلاة؟ وما هي الأسباب المعينة على الخشوع؟.

وقبل الشروع في ذكر بعض الأسباب المعنية، أذكرك أخي المسلم بعلاج الظواهر السابقة لعدم الخشوع، فتلافيها يورث الخشوع في الصلاة، وأضيف إليها أسبابا أخرى للخشوع.

أولا: أول هذه الأسباب استحضار عظمة الله حين الدخول في الصلاة. أولست تبدأ الصلاة بالتكبير قائلا: الله أكبر؟! أجل! إن معرفتك بمدلول هذه الكلمة يجعلك تعتقد أن الله أكبر من كل شيء، ومن ثم فلا ينبغي أن يشغلك شيء عن ذكر الله وعن الصلاة حتى تفرغ منها.

وينبغي أن تُجل الله وأنت تقف بين يديه تناجيه، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن أحدكم إذا قام يصلي فإنما يناجي ربه فلينظر كيف يناجيه" رواه الحاكم وصححه الألباني.

ثانياً: وتدبر ما تقول من أذكار، وما تقرأ من قرآن، من خير ما يعينك على الخشوع، فأنت لو تأملت ما تقول من دعاء الاستفتاح وما تقوله حين تركع وترفع وتسجد وتعتدل، وتدبرت ما تقرأ بين ذلك من كتاب الله العزيز، لكان في هذا وذاك شغل لك عن التفكير في أمور أخرى خارج الصلاة.

ولمن يغفل عن تدبر القرآن أثناء الصلاة أو خارجها أذكر بمقولة أحد السلف: إن الله جمع الكتب المنزلة في القرآن، وجمع علم القرآن في المفصل، وجمع علم المفصل فاتحة الكتاب، وجمع علم فاتحة الكتاب في قوله: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ).

وأذكر من يقرؤون المئين من الآيات دون تدبر بموقف قتادة بن النعمان -رضي الله عنه- الذي قام الليل لا يقرأ إلا (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) يرددها لا يزيد عليها. رواه البخاري وأحمد.

ثالثاً: ومما يعين على الخشوع في الصلاة تذكر الموت، والصلاة صلاة مودع، وفي هذا يقول -صلى الله عليه وسلم-: "اذكر الموت في صلاتك، فإن الرجل إذا ذكر الموت في صلاته لحري أن يحسنها، وصل صلاة رجل لا يظن أنه يصلي غيرها" أخرجه الديلمي بسند حسن. إي وربي! إن صلاة من يظن أنه قاب قوسين أو أدنى لتختلف عن صلاة من خدع بطول الأمل وحب الدنيا.

رابعاً: أيها المسلمون، ومن الأمور المعينة على الخشوع في الصلاة الحرص على سنن الصلاة، فضلا عن الإتيان بواجباتها والأركان، ولهذا وذاك أثر في خشوع المصلي، أرأيت وضع اليد اليمنى على اليسرى على صدر المصلى كم فيه من عبودية لله رب العالمين، وقد سئل الإمام أحمد يرحمه الله عن المراد بذلك فقال: هو ذل بين يدي عزيز. قال علي بن محمد المصري الواعظ يرحمه الله: ما سمعت في العلم بأحسن من هذا.

فوق ما في ذلك من اتباع هدي المرسلين: "أنا معاشر الأنبياء أمرنا أن نضع أيماننا على شمائلنا في الصلاة" رواه الطبراني وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح.

ثم أرأيت تحريك السبابة حين التشهد كم هو شديد على الشيطان؟ حتى قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لهي أشد على الشيطان من الحديد" رواه أحمد بسند حسن.

ومثل ذلك يقال في طأطأة الرأس، والنظر في موضع السجود، ونحو ذلك من هيئات الصلاة المشروعة، وكلها تدعوا للخشوع، وتذهب الغفلة، وتطرد وساوس الشيطان بإذن الله.

خامساً: إخوة الإيمان، ومما يدعو للخشوع التأمل في حال السلف في صلاتهم، وتذكر مسلسل الخاشعين الماضين من المؤمنين، وهاك نموذجا لهم، يقول مجاهد رحمه الله: كان إذا قام أحدهم يصلي يهاب الرحمن أن يشد بصره إلى شيء أو يلتفت أو يقلب الحصى أو يعبث بشيء أو يحدث نفسه من شأن الدنيا إلا ناسيا مادام في صلاته.

وقال سعد بن معاذ -رضي الله عنه-: في ثلاث خصال لو كنت في سائر أحوالي أكون فيهن لكنت أنا أنا، إذا كنت في الصلاة لا أحدث نفسي بغير ما أنا فيه، وإذا سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديثا لا يقع في قلبي ريب أنه الحق، وإذا كنت في جنازة لم أحدث نفسي بغير ما تقول ويقال لها.

ويذكر أن عصام بن يوسف رحمه الله مرَّ بحاتم الأصم وهو يتكلم في مجلسه، فقال: يا حاتم تحسن تصلي؟ قال: نعم، قال: كيف تصلي؟ قال: حاتم: أقوم بالأمر، وأمشي بالخشية، وأدخل بالنية، وأكبر بالعظمة، وأقرأ بالترتيل والتفكر، وأركع بالخشوع، وأسجد بالتواضع، وأجلس للتشهد بالتمام، وأسلم بالنية، وأختمها بالإخلاص لله -عز وجل-، وأرجع على نفسي بالخوف، أخاف ألا يقبل مني، وأحفظه بالجهد إلى الموت. قال: تكلم فأنت تحسن تصلي.

عباد الله : أيها المصلون ومما يعين على الخشوع -سادساً- استحضار المغنم والمغرم في الصلاة، وإذا كان قد مضى شيء من المغرم لمن ضيع صلاته ولم يخشع فيها يكفي منها أنها لا تنهاه من الفحشاء والمنكر في الدنيا، وتكون في الآخرة سببا لرد أعماله الأخرى، إلى غير ذلك من المغارم الأخرى.

أما الصلاة الخاشعة فلها مغانم كثيرة، منها مغفرة الذنوب، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب، ما لم يأت كبيرة، وذلك الدهر كله" رواه مسلم.

في الحديث الآخر قال -عليه الصلاة والسلام-: "إن العبد إذا قام يصلي أُتي بذنوبه كلها فوضعت على رأسه وعاتقيه، فكلما ركع أو سجد تساقطت عنه" رواه البيهقي والطبراني وصححه الألباني.

قال المناوي: المراد أنه كلما أتم ركنا سقط عنه ركن من الذنوب، حتى إذا أتمها تكامل السقوط وهذا في صلاة متوفرة الشروط والأركان والخشوع كما يؤذن به لفظ (العبد) و(القيام)، إذ هو إشارة إلى أنه قام بين يدي ملك الملوك مقام عبد ذليل.

والصلاة الخاشعة سبب لدخول الجنة كما ثبت ذلك في صحيح، وهي تمنع مدخل السوء ومخرجه كما صح بذلك الحديث. صحيح الجامع.

إخوة الإيمان: يطول الحديث عن آثار الصلاة ومغانمها -وليس هذا موضع بسطها-، والمقصود أن نقدر هذا الصلاة حق قدرها، وأن يبصر كل منا نفسه ويتأمل في صلاته.

وإن من الحرمان أن يجهد المرء نفسه ثم لا يتقبل الله منه بسبب تقصيره وتلاعب الشيطان بعبادته، وكم هو مؤلم للنفس أن يمكث الإنسان دهرا من عمره يؤدي الصلاة وكأنها عادة لا عبادة، فلا يجد فيها أنسه، ولا تنهاه عن معصية.

وفرق كبير بين من إذا دخل الصلاة تمنى عدم الخروج منها لما يجده من لذة المناجاة وقرة العين، وبين من إذا دخل في الصلاة أخذ يحسب أنفاسه حتى تقضى الصلاة!.
 

 

 

 

المرفقات

الغائب

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات