أسباب انشراح الصدر (6) حسن الظن بالله -1

عمر القزابري

2022-10-09 - 1444/03/13
عناصر الخطبة
1/ حسن الظن بالله سبب لانشراح الصدر 2/ المرتبة السنية التي يمثلها حسن الظن 3/ إحسان الظن بالله في كل الأحوال 4/ المبشِّرات الباعثة للأمل الجالبة لإحسان الظن 5/ من حسن الظن بالله إحسان العبادة 6/ البدار بالتوبة والمسارعة لرحمة الله وجنته

اقتباس

أحْسِنْ ظنك بمولاك في كُلِّ حال، وعلى كل حال، إذا نزلت بك ضائقةٌ فأحسن ظنك بمولاك، وقل بلسان حالك ومقالك: لعلَّ لله حكمةً لا أعلمها، أو مصيبة عني يصرفها، وأرِحْ نفسَك؛ فليس التدبيرُ بيدك، إذا فشلْتَ وضاقت عليك الأرضُ بما رحُبَتْ؛ فأحسِنْ ظنك بربك، وقل: مولاي أعلم بي، وفي كل الأحوال أرفَقُ بي! فسلِّمْ؛ فليس الأمر...

 

 

 

 

الحمد لله المتفرد باسمه الأسمى، والمختص بالملك الأعز الأحمى، الذي ليس من دونه منتهى ولا ورائه مرمى، الظاهر لا تخيلاً ووهمًا، الباطن تقدُّسًا لا عُدْمًا، وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأسبغ على أوليائه نعما عُما.

وبعث فيهم رسولاً من أن أنفثهم عربًا وعجمًا، وأذكاهم محتدًا ومنما، وأشدهم بهم رأفة ورُحما، حاشاه ربه عيبًا ووصمًا، وذكاه روحًا وجسمًا، وآتاه حِكمة وحُكمًا، فآمن به وصدقه من جعل الله له في مغنم السعادة قسمًا، وكذّب به وصدف عنه من كتب الله عليه الشقاء حتمًا، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى، صلى الله عليه صلاة تنمو وتنمى، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.

معاشر الصالحين: إن خير من اتصل به رجاء الرجال الأجواد، وطوى البعيد إلى تحصيل مرامه كل طود من الأطواد، وأماط به عن مكارم الأخلاق لثام كل جواد، وامتطى ظهر خير جواد، شرح الصدر، ووضع الوزر، والتخلص من الأثقال، والتحرر من الأغلال.

ولعمر الله! إن الذنوب والمعاصي أغلال، وأي أغلال! وأثقال، وأي أثقال! وإنَّ كلَّ ذي همة عالية، وعزمة مالية، وخبرة وفية، ليسعى جاهدا في التخلص من أحماله وأثقاله التي تحجب عنه الأنوار، وتضع أمامه الأستار، أستار الغشاوة فلا يرى إلا موضع قدميه رَعيا للشهوات، وعبادة للملذات.

وإن شرح الصدر قمرا لا يُنال إلا بمعراج المجاهدة تحليا وتخليا، تخلصا وتخصصا، وما أشدَّ حاجة كل واحد منا اليوم إلى انشراح صدره! لأن كل واحد منا يعيش ويشعر بالضيق والحزن والضنك، حتى أصبحنا لا نلتذ بموجود مساكن ومراكب، ومآكل ومشارب، وزوجات وأولاد! ومع هذا كله ضيقٌ في الصدر لا يفارق، وضجر وتبرم وشكوى.

إنه ضيق الصدر الذي لا تزيله المناصب، ولا تخلّص منه الأموال، ولا تخفف من وطأته العقارات ولا الأرصدة، ومن هنا تتضح المنزلة العلية، والمرتبة السنية التي يمثلها انشراح الصدر.

 

فانشراح الصدر -أيها الأحبة- هو المنصب الذي يجب على كل عاقل أن يسعى إليه، لا المناصب الفانية الزائلة، فإن المناصب بمتوليها، والمعالي بمعليها، والعقود ليست بمن تحلِّيهِ؛ بل بمــَنْ يُحَلِّيها.

وأطيب البقاع جنابة ما طاب أرجا وثمارا، وفجر خلاله كل نهر يروع حصاه حالية العذارى، وتلكم حال منشرح الصدر يعيش في جنة الدنيا قبل جنة الآخرة، وتكلمنا -فيما مضى- عن السبب الأول من أسباب الوصول إلى انشراح الصدر، وهو التوحيد.

وسنتكلم اليوم -إن شاء الله- عن السبب الثاني، وهو: "حسن الظن بالله"، و"حسن بعباد الله"، ونخصص اليوم -إن شاء الله- الخطبةَ لحسن الظن بالله.

ويا له من أمر ما أعظمه! وإلى قلوب المحبين ما أقربه! وإلى أسماع المذنبين أمثالنا ما أطربه! أليس ذلكم يمثل حبل نجاة يمد للغريق وهو يصارع عاتي الأمواج؟ أليس ذلكم بمثابة ماء بارد لتائه في صحراءَ ذاتِ فجاج؟ نعم؛ ورب الكعبة! ولولا ذلك لمات المذنبون كمَدَاً وحُزْنَاً على تفريطهم في حق مولاهم وسيدهم وموجدهم.

ألسنا -أيها الأحباب- أَوْلَى الناسِ بحُسْنِ الظن بالله، نحن الذين اختلطت جوارحنا بالذنوب، وامتزجت دماؤنا بالعيوب! أبصارنا إلى الحرام ناظرة، وأيدينا إلى كل حرام مبادرة، رباً وخمور ومعاصٍ ورقص وبدع.

ألسنا أحوج الناس إلى شيء يسلي عنا، ويخفف عنا ما نحن فيه من الأحزان؟ ألسنا نحتاج إلى ما يخفف عنا الآلام، ويخرجنا -ولو مؤقتا- من حالة الانفصام؟! أليس من المحزن أن نقابل نعم الله النازلة إلينا بالمعاصي المتصاعدة منا؟!.

إذاً؛ ما أحوجنا جميعا -ودون استثناء- إلى فسحة في جنان حسن الظن بالله! علنا نرتوي بعد ظمأ؛ فمجلس حسن الظن بالله بحر، وغواص الفكر يخرج الدر الثمين، والتواب ركاب، وفسائل العزائم تجري على مقدار هبوب الريح، وأنت تقف على الساحل وترى الفلك مواخر فيه.

فحسن الظن بالله قد عششت فيه نحْل العلم، فمن أتى وجَدها يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس.

فيا رفيق المعاصي، ويا جليس القبائح، ويا نديم العيوب، وكلنا ذلك الرجل! لا تيأس، ولا تقنط! وكيف تقنط وكيف تيأس والملِك يكلمك؟ نعم؛ يكلمك! يناديك أنت، أنت أيها المذنب، يكلمك: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر:53].

نداء رقيق عميق لطيف يحرك القلوب ويهز الأفئدة، ثم يزيدك ربك من عطاياه: (إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) [يوسف:87]، وكيف لا ينشرح صدرك -أيها الحبيب- وربك يقول: (قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) [الأنعام:54]، أي: قضى أنه بعباده رحيم، لا يعجّل عليهم بالعقوبة، ويقبل منهم الإنابة والتوبة. قال أهل العلم: وهذا من الله استعطاف للمعرضين عنه إلى الإقبال إليه بالتوبة.

إنك -أيها المذنب، وكلنا ذلك الرجل- إذا أحاطت بك ذنوبك، وكثرت بذلك همومك، وضاق صدرك، ولم ترَ لحالك فرجاً، ولا لهمك مخرجا، جاءتك من الله كلمات متى يمَّمْتَ ببصرك بجانبها رأيت كأن الفجر المستطير تنفس في أعراضها، وكأن النهار المستنير اقتبس من بياضها، يبرق البصر في سطوع إياتها، وكاد يهدي العمي وضوح آياتها: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ) [آل عمران:135].

قال الزمخشري -رحمه الله-: في هذه الجملة وصف لذاته- تعالى- بسعة الرحمة، وقرب المغفرة، وأن التائب من ذنبه كمن لا ذنب له، وأنه لا مفزع للمذنبين إلا فضله وكرمه، وأن عدله يوجب المغفرة للتائب؛ لأن العبد إذا جاء في الاعتذار والتنصل بأقصى ما يقدر عليه وجب العفو والتجاوز، وفيها تطييب لنفوس العباد، وتنشيط للتوبة، وبعث عليها، وردع عن اليأس والقنوط، وأن الذنوب -وإن جلت- فإن عفوه أجل، وكرمه أعظم. انتهى كلامه -رحمه الله-.

أيها العبد الآبق من مولاه، الشارد عن سيده العابد لهواه: اعلم أن لك ربا كريما رحيما، يعفو ويصفح، ويرفع ويمنح، قد يرفعك بكلمة واحدة تقولها، وقد ينيلك الفوز والنعيم بعمل واحد لوجهه تعمله، فأقبِل تُقْبَلْ.

يقول أحد العلماء: "يا عصي حَاوِل وراء الألْف محاولة محاولة، لعلَّ الله أن ينصرك في واحدة بعد الألف!".

ولله در القائل:
صابِرْ ولا تضْجَرَنْ مِن مَطْلَبٍ *** فآفةُ الطالبِ أنْ يَضْجَرَا
أما ترى الحبْلَ بطُولِ المدَى *** على صليبِ الصَّخْرِ قد أثَّرا؟

وتعرض لنفحات الله؛ لعل الله أن ينظر إليك في ساعة يعطي فيها من يشاء، ويهدي فيها من يشاء، فيهديك هداية ما بعدها ضلال.

أيها العبد: أحسِنْ ظنك بمولاك، في كل حال، وعلى كل حال، إذا نزلت بك ضائقة فأحسن ظنك بمولاك، وقل بلسان حالك ومقالك: لعلَّ لله حكمةً لا أعلمها، أو مصيبة عني يصرفها، وأرِحْ نفسَك؛ فليس التدبيرُ بيدك، إذا فشِلْتَ وضاقت عليك الأرضُ بما رحُبَتْ؛ فأحسِنْ ظنك بربك، وقل: مولاي أعلم بي، وفي كل الأحوال أرفق بي! فسلِّمْ؛ فليس الأمر لك.

إذا فقدت حبيبا أو صديقا أو قريبا فأحسِنْ ظنك بربك، ولا تعترض، وقل بلسان حالك: صاحب الأمانة أحقُّ باسترجاعها.

إذا نزلَتْ بك الأسقام والأمراض، فأحسِن ظنك بربك، وقل: سيدي ومولاي وحبيبي يطهرني من الذنوب والعيوب، وتوجه إليه بلسان أيوب: (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [الأنبياء:83].

إذا أحسست بدنو أجلك، وانقطاع أملك، فأحسن ظنك بربك ومُوجِدِك، وقل: لقد أتى عليَّ زمانٌ لم أكن شيئا مذكورا، وسيأتي زمان ولن أكون شيئا مذكورا، وسَلِّ نفسك بحبيبك محمد -صلى الله عليه وسلم-، فهو أكرم الخلق على الله وأحبهم إليه، نزل به الموت وذاق من سكراته؛ أفأنت أكرم على الله من نبيه؟!.

ولله در ابن العريف يوم يقول:
إذا نزلَتْ بساحتك الرزايا *** فلا تجزعْ لها جزع الصبِّي
فإنَّ لكلِّ نازلةٍ عزاءً *** بما قد كان مِن فَقْدِ النبيِّ
وهو استلهم هذه الأبيات من قوله -صلى الله عليه وسلم-: "مَن عظمت عليه مصيبته؛ فلْيَنْظُرْ مصيبته بي".

ففي لحظات النهاية يجهز إبليس جيوش الغواية، فاقمعه بحسن الظن بمولاك، واردعه بقوله: (مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآَتٍ) [العنكبوت:5].

عن ثابت البناني قال: مرض رجل من الأنصار، فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعوده، فوافقه وهو في الموت، فسلم عليه وقال: كيف تجدك؟ قال: بخير، أرجو الله وأخاف ذنوبي، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "لا يجتمعان في قلب العبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو، وآمنه مما يخاف".

وعن جابر -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل موته بثلاثة أيام يقول: "لا يموتنَّ أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل" رواه مسلم .

جعلني الله وإياكم بمن ذُكِّر فنفعته الذكرى، وأخلص لله عمله سرا وجهرا، آمين، آمين والحمد لله رب العالمين.

 

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله على ما يوليه حمدا يرضيه، وصلى الله علي من اجتمعت كل الفضائل فيه، وقرن اسمه باسم الحق عند الذكر ويكفيه، وعلى آله وأصحابه وتابعيه.

معاشر الصالحين: ومما يشرح النفوس، ويبعث على الأمل، ويسوق سحب الأشواق برياح الرضا لتنزل على أرض قلوب المشتاقين، فتصبح بالحب مخضرة، ما جاء في بعض الأحاديث القدسية مِن عظيم عفو الله وسعة رحمته، جل في علاه، ومعلوم -أيها الأحباب- أن للأحاديث القدسية جلالاً عظيماً، ووقعاً في النفس كبيراً، ولا يتذوق ذلك إلا الصَّبُّ المشتاق.

عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: قال الله -تبارك وتعالى-: "يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني، غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي. يا ابن آدم، لو بلغَت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتَني غفرتُ لك، ولا أبالي. يا ابن آدم، لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتُكَ بقرابها مغفرة" رواه الترمذي.

أرأيتَ سعة عفو الله؟ أرأيتَ كرم ربكم؟ يناديك أيها العبد ويعرض عليك رحمته: "إنك ما دعوتني ورجوتني"، فما الذي يمنعك من أن تدعوه وترجوه؟! ما الذي يصرفك عنه؟ ما الذي يشغلك عنه؟ ألا أدلك على وقت المحبين؟ ألا أدلك على ميادين العاشقين؟ ألا أدلك على أوقات الوصل؟ إنها ساعات الأسحار، حين ينزل العزيز الغفار إلى السماء الدنيا نزولا يليق بجلاله وكماله.

عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ" رواه البخاري ومسلم.

فأين أنت أيها المـــُحِبّ؟ قل لي بربك: ما الذي دهاك؟ فالمحروم من حرم من عطاءات الله، ربك القوي القهار، ذو الجلال والإكرام يناديك أنت أيها العبد الفقير الضعيف، ويعرض عليك مغفرته ولا تجيب، إنا والله لعبيد سوء إذاً إذا أضعنا هذه الفرص والنفحات!.

لو دعاك أحد لأخذ مال أو هدية أو منصب أو منحة لاستجبت ولو في جوف الليل، لو كانت هذه المسلسلات التافهة من تركية وهندية وصينية تعرض في جوف الليل لقام لها أناس من عُشاق الخبل ومحبي الهراء! وربنا يدعونا فلا نجيب! والله إنا لعبيد سوء!.

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- تلا قول الله -عز وجل- في إبراهيم: (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [إبراهيم:36]، وقول عيسى -عليه السلام-: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [المائدة:118].

فرفع يديه وقال: اللهم أمتي! أمتي!. وبكى، فقال الله -عز وجل-: يا جبريل، اذهب إلى محمد -وربك أعلم- فاسأله ما يبكيه؟، فأتاه جبريل -عليه السلام- فسأله، فأخبره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بما قال -وهو أعلم-، فقال الله:" يا جبريل، اذهب إلى محمد فقل إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك" رواه مسلم.

أرأيتم حب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لكم؟ أرأيتُم هذا القلب الكبير الذي حمل همكم، ويدعو لكم؛ بل ويبكي من أجلكم، فماذا فعلنا اليوم نصرة لرسول الله، ودفاعا عن سنته، وذَبَّا عن منهجه؟.

"إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك"، وفيها لطيفة نقلها الإمام النووي عن صاحب التحرير، قال: "وتأكيد للمعنى، أي: لا نحزنك؛ لأن الإرضاء قد يحصل في حَقِّ البعضِ مِن عَفْوٍ عنهم، ويدخل الباقي النار، فقال تعالى: نرضيك، ولا نُدْخِل عليك حزناً؛ بل ننجي الجميع" اللهم حقِّقْ ذلك.

فحق لنا -أيها الأحباب- أن نفخر بانتمائنا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهذا المعنى أشار إليه القاضي عياض -رحمه الله- بقوله:
ومما زادني شرفاً وتيهاً *** وكدت بأخمصي أطأُ الـثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي *** وأن صيَّرتَ أحمدَ لي نبيا

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-، يقول الله -تعالى-: "أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة" رواه البخاري ومسلم .

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "قال الله -عز وجل-: سبقت رحمتي غضبي" رواه مسلم وغيره.

فما أعظمه وأكرمه من إله واسع المغفرة، حسن التجاوز، لا يهتك الستر، ولا يأخذ بالجريرة! قال ابن الجوزي -رحمه الله-: وفي بعض الكتب المنزلة يقول الله -تبارك وتعالى-: عبدي، إلى كم تستمر على عصياني، وأنا غذيتك برزقي وإحساني، أما خلقتك بيدي؟ أما نفخت فيك من روحي؟ أما علمت فعلي بمن أطاعني، وأخذي لمن عصاني؟ أما تستحيي تذكرني في الشدائد وفي الرخاء تنساني؟ عين بصيرتك أعماها الهوى.

قل لي بماذا تراني؟ هذا حال من لم تؤثر فيه الموعظة، فإلى كم هذا التواني؟ إن تبت من ذنبك، آتيتك أماني. اترك دارا صفوها كدر، وآمالها أماني. بعت وصلي بالدون، وليس لي في الوجود ثاني. ما جوابك إذا شهدت عليك الجوارح بما تسمع وترى. انتهى كلامه رحمه الله.

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله سيخلص رجلا من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعة وتسعين سِجِلَّاً، كل سِجِلٍّ مثل مد البصر، ثم يقول: أتنكر من هذا شيئا؟ أظَلَمَك الكتبة الحافظون؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: ألك عذر؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: بلى؛ إن لك عندنا حسَنة؛ فإنه لا ظلم اليوم ..

فتخرج بطاقة فيها: "أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله"، فيقول: احضر وزنك، فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فقال: إنك لا تظلم، قال فتوضع السجلات في كفَّة، والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة، فلا يثقل مع اسم الله شيء" رواه الترمذي وابن ماجة والحاكم وصححه ووافقه الذهبي.

وعن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- قال، قال -صلى الله عليه وسلم-: "تلقت الملائكة روح رجل ممن كان قبلكم فقالوا: أعملتَ من الخير شيئا؟ قال: لا، قالوا: تذكَّرْ، قال: كنت أداين الناس، فأمر فتياني أن ينظروا المعسر ويتجاوزا عن الميسر، قال: قال الله -عز وجل-: تجاوزوا عنه" رواه مسلم

فهذا رجل كان يعامل الناس بيعا وشراء، فكان من خلقه التجاري أن يتسامح، ولا شيء سواه من الخير عنده، هذا هو الخير الوحيد، فتجاوز الله عنه مقابل هذا العمل الوحيد.

فلا يحقرن أحد من المعروف شيئا ولو مع حيوان، ولا يستهل إساءة إلى أحد ولو إلى حيوان، فإن أحدنا لا يدري من أين تأتيه السعادة أو غيرها.

وفي هذا نداء إلى التجار أن يتعاملوا مع الناس بيسر وتجاوز وحسن خلق، ولا يكن همهم المال، كما نرى في الغالب في زمننا.

وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال ، يقول الله " أخرجوا من الناس من ذكرني يوما أو خافني في مقام رواه الترمذي .

ونحن ظننا بالله ألا يدخلنا النار ولو طرفة عين، ظننا فيه أن يتجاوز عنا، ويغفر لنا، ويسترنا، والأحاديث والآثار في ذلك لا تُعَدُّ، وخلاصة الأمر أن العبد يحسن ظنه بربه في كل أحواله.

ومن حسن الظن حسن العبادة، فالصادق في حبه وظنه لا يتكل على حسن الظن ليتمادى في الموبقات؛ لأن الأمر -كما قال الحسن البصري-: لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل.

فيا إخوان الذنوب، وكلنا ذلك الرجل: أحسنوا ظنكم بربكم، ولا تصرفنكم عنه الصوارف، ولا تشغلنكم عنه الشواغل.

عن سهل القطاعي قال: رأيت مالك بن دينار -رحمه الله- في منامي فقلت: يا أبا يحيى، ليت شعري -وليت شعري هذه كانت تقولها العرب، والمقصود بها ليتني أعلم- يا أبا يحيى: ليت شعري، ماذا قدمت به على الله -عز وجل-؟ قال: قدمت بذنوب كثيرة فمحاها عني حسن الظن بالله.

ودخل أناس على الإمام الشافعي وهو يجوب بأنفاسه فقالوا له: كيف تجدك؟ فقال: أصبحت من الدنيا راحلا، وللإخوان مفارقا، ولا أدري: أيؤخذ بي إلى الجنة أم إلى النار؟! ثم أنشأ يقول:

ولما قسَا قلبي وضاقَتْ مذاهبي *** جعَلْتُ الرَّجَا مِنِّي لعفْوِكَ سُلَّمَا
تَعَاظَمَني ذَنْبِي فلمَّا قرَنْتُهُ *** بِعَفْوِكَ رَبِّي كان عفوُكَ أَعْظَمَا
أنشد محمود الوراق فقال:
حُسْنُ ظَنِّي بِحُسْنِ عَفْوِكَ يَا رَبِّ *** جَمِيلٌ وَأَنْتَ مَالِكُ أَمْرِي
صُنْتُ سِرِّي عَنِ الْقَرَابَةِ وَالأَهْـــ *** ــلِ جَمِيعًا وَكُنْتَ مَوْضِعَ سِرِّي
ثِقَةً بِالَّذِي لَدَيْكَ مِنَ السَّتْـــ *** ـــرِ فَلا تُخْزِنِي بِهِ يَوْمَ نَشْرِي
يَوْمَ هَتْكِ السُّتُورِ عَنْ حُجُبِ الْغَيْـــ *** ــبِ فَلا تَهْتِكَنَّ لِلنَّاسِ سِتْرِي

عباد الله: لقد دعاكم إلى البدار مولاكم وفتح باب الإجابة، ثم استدعاكم ودلكم على منافعكم وهداكم، فالتفتوا عن الهوى فقد أذاكم، وصبوا دموع الحزن على ذنوبكم، وسارعوا إلى مغفرة من ربكم.

باب مفتوح للطالبين، وجنابه مبذول للراغبين، وفضله ينادي: يا غافلين، وإحسانه ينادي الجاهلين، فاخرجوا من دائرة المذنبين، وبادروا مبادرة التائبين، وتعرضوا لنسمات الرحمة، تخلصوا من كربكم (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) [آل عمران:133].

كم شغلنا بالمعاصي فذهب الفضل، وبارزنا بالخطايا فنسينا العرض، وطالت أمالنا بعد أن ذهب الشباب الغد، ورأينا موت القرناء وقد أنذر البعض بالبعض، فلنفر من سجن الهوى إلى الله، فقد ضاق طوله والعرض، (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ) [آل عمران:133].

اللهم أصلح أحوالنا، واجعل بطاعتك اشتغالنا، وإلى الخير مآلنا...
 

 

 

 

 

المرفقات

انشراح الصدر 6 حسن الظن بالله

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات