عناصر الخطبة
1/ إجماع المسلمين على المقاطعة 2/ وجوب محبة النبي صلى الله عليه وسلم 3/ حب الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم 4/ حب المسلمين للنبي صلى الله عليه وسلم 5/ الحث على الاستمرار في المقاطعةاقتباس
ومما أَبهَجَ القُلُوبَ وشَرَحَ الصدورَ وشمخَت به أُنُوفُ المؤمنين وأُرغِمَت أُنُوفُ الكافرين ما أَجمَعَ عليه جمهورُ المسلمين في مَشرقِ هذِهِ البِلادِ وغِربِها، بل في كثيرٍ مِن بِلادِ الإِسلامِ، مِن مُقَاطَعَةٍ لِسِلَعِ الذين استَهزَؤُوا بِرَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم ، وما كان ذلك بِغَرِيبٍ عَلَيهم ولا مُستَنكَرٍ مِنهم، مَا كان مُستَكثَرًا منهم وما هو بِالكَثِيرِ في حَقِّ نَبِيِّهِم ورَسولِهِم وحَبِيبِهِم الذي ..
أما بعدُ: فأُوصيكم - أيها الناسُ - بتقوى اللهِ عز وجل، والتي لا تحلو الحياةُ إلا بها، ولا يَدخُلُ الجنةَ إلا أهلُها، (أَلا إِنَّ أَولِيَاء اللهِ لاَ خَوفٌ عَلَيهِم وَلاَ هُم يَحزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ البُشرَى في الحَياةِ الدُّنيَا وَفي الآخِرَةِ لاَ تَبدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الفَوزُ العَظِيمُ).
أيها المسلمون، ومما أَبهَجَ القُلُوبَ وشَرَحَ الصدورَ وشمخَت به أُنُوفُ المؤمنين وأُرغِمَت أُنُوفُ الكافرين ما أَجمَعَ عليه جمهورُ المسلمين في مَشرقِ هذِهِ البِلادِ وغربِها، بل في كثيرٍ مِن بِلادِ الإِسلامِ، مِن مُقَاطَعَةٍ لِسِلَعِ الذين استَهزَؤُوا بِرَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم، وما كان ذلك بِغَرِيبٍ عَلَيهم ولا مُستَنكَرٍ مِنهم، مَا كان مُستَكثَرًا منهم وما هو بِالكَثِيرِ في حَقِّ نَبِيِّهِم ورَسولِهِم وحَبِيبِهِم الذي بَعَثَهُ اللهُ نجاةً لهم وَرَحمَةً، فَأَخرَجَهُم بِهِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ، وَجعلَ بِعثتَهُ هِدايَةً لهم مِنَ الضَّلالَةِ، وَبَصَّرَهُم بِنُورِ ما جاء بِهِ مِنَ العَمَى، وكان عَزِيزًا عليه ما يُعنِتُهُم، حَرِيصًا عليهم، بِالمُؤمِنِين رَؤوفًا رَحيمًا، وَكَيفَ لا يَنتَقِمُ المُسلِمُونَ ولو بِالقَلِيلِ ممَّن استَهزَأَ بِهِ وَسَخِرَ منه؟! كيف لا يَفدُونَهُ بِآبَائِهِم وَأُمَّهاتِهِم وَأَنفُسِهِم بَلْهَ أَموَالِهِم وهو الذي ما وَدَّعَهُ رَبُّهُ وَمَا قَلاهُ، شَرَحَ صَدرَهُ وَوَضَعَ وِزرَهُ، وَرَفَعَ في العَالمين ذِكرَهُ؟! كيف لا يَتَأَثَّرُونَ مِن أَجلِهِ وَتمتَلِئُ صُدُورُهُم غيظًا على مَن أَساءَ إليه وهو الذي سَخَّرَ اللهُ له مخلوقاتِهِ فَعَرَفَتْهُ وَهَابَتْهُ، فَحَنَّ الجِذعُ بَينَ يَدَيهِ، وَبَكَى الجَمَلُ شَاكِيًا إِلَيهِ، وَسَبَّحَ الحَصَى بَينَ أَنَامِلِهِ، وَسَلَّمَ عَلَيهِ الحَجَرُ وَالشَّجَرُ، وَنَبَعَ المَاءُ مِن بَينِ أَصَابِعِهِ، وَانقَادَت الشَّجَرَةُ في يَدِهِ؟!
إِنَّ ما حَدَثَ مِنَ المُسلِمِينَ ـ جزاهُمُ اللهُ خَيرًا عن نَبِيِّهِم ـ ما هو إلا تَعبِيرٌ عمَّا تُكِنُّهُ صُدُورُهُم مِن محبَّتِهِ، وَإِيضَاحٌ لما تَنطَوِي عَلَيهِ قُلُوبُهُم مِن تَعزِيرِهِ وَتَوقِيرِهِ، وذلك مِن صَرِيحِ الإِيمانِ ودلالاتِ كَمَالِهِ، ولولا أَنَّ المُسلِمَ يُقَدِّمُ ما يُحِبُّهُ رَسُولُهُ على ما تُحِبُّهُ نَفسُهُ وتَشتَهِيهِ، لما آمَنَ بِهِ تمامَ الإِيمانِ، قال عليه الصلاةُ والسلامُ: «لا يُؤمِنُ أَحدُكُم حتى أَكونَ أَحَبَّ إِلَيهِ مِن وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجمعِينَ»، وقال عليه الصلاةُ والسلامُ: «ثَلاثٌ مَن كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإِيمانِ: أَن يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيهِ ممَّا سِوَاهما، وَأَن يُحِبَّ المَرءَ لا يُحِبُّهُ إِلاَّ للهِ، وَأَن يَكرَهَ أَن يَعُودَ في الكُفرِ بَعدَ إِذْ أَنقَذَهُ اللهُ مِنهُ كَمَا يَكرَهُ أَن يُلقَى في النَّارِ»، ولمَّا قال عُمَرُ بنُ الخطابِ رضي اللهُ عنه: "يا رَسولَ اللهِ، لأَنتَ أَحَبُّ إِليَّ مِن كُلِّ شَيءٍ إِلاَّ مِن نَفسِي"، قال له صلى الله عليه وسلم: «لا والذي نَفسِي بِيَدِهِ، حتى أَكونَ أَحَبَّ إِلَيكَ مِن نَفسِكَ»، فقال عُمَرُ: "فَإِنَّهُ الآنَ لأَنتَ أَحَبُّ إِليَّ مِن نَفسِي"، فقال له صلى الله عليه وسلم: «الآنَ يَا عمرُ». وجاء رجلٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: "يا رَسولَ اللهِ، متى الساعةُ"؟ قال: «وَيلَكَ، وَمَا أَعدَدتَ لها»؟ قال: "ما أَعدَدتُ لها إلا أَني أُحِبُّ اللهَ وَرَسولَهُ"، قال: «أَنتَ مَعَ مَن أَحبَبتَ».
قال ابنُ رَجَبٍ رحمه اللهُ: "محبَّةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم مِن أُصُولِ الإِيمانِ، وهي مُقارِنَةٌ لِمَحَبَّةِ اللهِ عز وجل، وقد قَرَنها اللهُ بها، وَتَوَعَّدَ مَن قَدَّمَ عَلَيهِما محبَّةَ شَيءٍ مِنَ الأُمُورِ المُحَبَّبَةِ طَبعًا مِنَ الأَقَارِبِ وَالأَموَالِ وَالأَوطانِ وَغَيرِ ذلك، فقال تعالى: (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُم وَأَبنَاؤُكُم وَإِخوَانُكُم وَأَزوَاجُكُم وَعَشِيرَتُكُم وَأَموَالٌ اقتَرَفتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخشَونَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرضَونَهَا أَحَبَّ إِلَيكُم مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ في سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأتيَ اللهُ بِأَمرِهِ وَاللهُ لاَ يَهدِي القَومَ الفَاسِقِينَ)".
وَلمَّا عَلِمَ الصحابةُ بذلك وعاصروا رَسولَ اللهِ وَعَايَشُوهُ وَلامَسُوا نُزُولَ الوَحيِ عَلَيهِ، وَجَاهَدُوا مَعَهُ وَصَحِبُوهُ حَضَرًا وَسَفَرًا، وَعَلِمُوا مَن هُوَ رَسُولُ اللهِ حَقًّا وَصِدقًا؛ كانت محبَّتُهُم له أَشَدَّ وَأَقوَى، وَتَوقِيرُهُم له أَكمَلَ وَأَوفى، وَتَعزِيرُهُم له أَسمى وَأَعلى، أَحَبُّوهُ حُبًّا فَاقَ كُلَّ حُبٍّ، وَوَدُّوهُ مَوَدَّةً غَلَبَت كُلَّ مَوَدَّةٍ، فَآثَرُوهُ على النَّفسِ وَالوَلَدِ، وَقَدَّمُوهُ على الآباءِ وَالأُمَّهَاتِ، وَأَرخَصُوا مِن أجلِهِ الزَّوجَاتِ وَالضَّيعَاتِ، وَفَارَقُوا لِصُحبتِهِ العَشَائِرَ وَالأَوطَانَ، وَهَجَرُوا المَسَاكِنَ وَالبُلدَانَ، ووَدُّوا لو لم يُفَارِقُوهُ لحظَةً وَاحِدَةً، وَضَرَبُوا في ذلك مِنَ الأَمثِلَةِ أَروَعَهَا، وَسَجَّلُوا فِيهِ مِنَ المَوَاقِفِ أَصدَقَهَا، وَكَانَت لهم مَعَهُ قِصَصٌ افتَخَرَ التَّأرِيخُ وهو يَروِيها، وَابتَهَجَت كُتُبُ المَغَازِي وَالسِّيَرِ وهي تحكيها، وَقَد كانت محبَّتُهُم له صلى الله عليه وسلم ظاهِرَةً لِلعيانِ، أَدهَشَتِ العُقَلاءِ مِن أَعدَائِهِ، فَشَهِدُوا بها وَأَبدَوُا استِغرَابَهُم منها.
فها هو عُروَةُ بنُ مَسعودٍ الثَّقَفِيُّ وَقَد أَوفَدَهُ المُشرِكُونَ لِلتَّفَاوُضِ مَعَ رَسُول اللهِ في صُلحِ الحُدَيبِيَةِ، يَقُولُ وقد عاد إلى أصحابِهِ: "أَيْ قَومُ، واللهِ لَقَد وَفَدْتُ على المُلُوكِ، وَوَفَدْتُ على قَيصَرَ وَكِسرَى وَالنَّجَاشِيِّ، واللهِ إِنْ رَأيتُ مَلِكًا قَطُّ يُعَظِّمُهُ أَصحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصحَابُ محمَّدٍ محمَّدًا، واللهِ إِنْ تَنَخَّمَ نُخَامَةً إِلاَّ وَقَعَت في كَفِّ رَجُلٍ مِنهُم، فَدَلَكَ بها وَجهَهُ وَجِلدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُم ابتَدَرُوا أَمرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كادُوا يَقتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصوَاتَهُم عِندَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيهِ النَّظَرَ تَعظِيمًا لَهُ". رواه البخاريُّ.
وَأَخرجَ الطبرانيُّ عن عائشةَ رضي اللهُ عنها قالت: جاء رجلٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: "يا رَسولَ اللهِ، إِنَّكَ لأَحَبُّ إِليَّ مِن نَفسِي، وَإِنَّكَ لأَحَبُّ إليَّ مِن وَلَدِي، وَإِني لأَكُونُ في البَيتِ فَأَذكُرُكَ فَمَا أَصبِرُ حتى آتِيَ فَأَنظُرَ إِلَيكَ، وَإِذَا ذَكَرتُ مَوتي وَمَوتَكَ عَرَفتُ أَنَّكَ إِذَا دَخَلتَ الجنةَ رُفِعتَ مَعَ النَّبِيّينَ، وَإِني إِذَا دَخَلتُ الجنةَ خَشِيتُ أَن لا أَرَاكَ"، فَلَم يَرُدَّ عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم شَيئًا حتى نَزَلَ جبريلُ عليه السلامُ بهذِهِ الآيةِ: (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنعَمَ اللهُ عَلَيهِم مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا).
رَضي اللهُ عن هذا الصحابيِّ، ما أبينَ محبَّتَهُ وَأَوضَحَ مَوَدَّتَهُ، محبَّةٌ يُفَضِّلُ بها رَسولَ اللهِ على كُلِّ غالٍ، وَمَوَدَّةٌ تجعلُهُ يَتَمَلمَلُ في بيتِهِ وبينَ أبنائِهِ، فلا يَرتَاحُ حتى يَرَاهُ، وَلَيسَ هذا وَكَفَى، بَل تَفكِيرٌ يَتَعَدَّى حُدُودَ الدنيا ويَتَجَاوَزُها إلى الآخِرَةِ، يخافُ معَهُ أن يُحرَمَ رؤيتَهُ في الجنةِ، فأيُّ حُبٍّ هذا الذي مَلَكَ عليه دُنيَاهُ وآخرتَهُ؟!
وَمِنَ المَوَاقِفِ التي ظََهَرَ فيها صِدقُ المحبَّةِ وَالمَوَدَّةِ ما رواه ابنُ إسحاقَ عن عائشةَ رضي اللهُ عنها أنها قالت: "كان لا يُخطِئُ رَسولَ اللهِ أَن يَأتيَ بَيتَ أَبي بَكرٍ أَحَدَ طَرَفَيِ النهارِ، إِمَّا بُكرَةً وَإِمَّا عَشِيَّةً، حتى إذا كان اليَومُ الذي أَذِنَ اللهُ فِيهِ لِرَسُولِهِ بِالهِجرَةِ وَالخُرُوجِ مِن مكةَ مِن بَينِ ظَهرَي قَومِهِ أَتَانَا رَسولُ اللهِ بِالهَاجِرَةِ، في ساعةٍ كان لا يَأتي فِيها". قالت: فَلَمَّا رآه أَبو بكرٍ قال: "ما جَاءَ رَسولُ اللهِ في هذِهِ الساعةِ إِلاَّ لأَمرٍ حَدَثَ". قالت: "فلمَّا دَخَلَ تَأَخَّرَ له أَبو بكرٍ عن سَرِيرِهِ، فَجَلَسَ رَسولُ اللهِ، وَلَيسَ عِندَ رَسولِ اللهِ أَحَدٌ إِلاَّ أَنا وَأُختي أَسماءُ بِنتُ أَبي بكرٍ، فقال رسولُ اللهِ: «أَخْرِجْ عني مَن عِندَكَ»، قال: يا رَسولَ اللهِ، إِنَّمَا هُمَا ابنَتَايَ، وما ذَاك فِدَاكَ أَبي وَأُمِّي؟ قال: «إِنَّ اللهَ قَد أَذِنَ لي في الخُرُوجِ والهِجرَةِ». قالت: فقال أَبو بكرٍ: الصُّحبَةَ يَا رَسولَ اللهِ؟ قال: «الصُّحبَةُ». قالت: "فَوَاللهِ، ما شَعُرتُ قَطُّ قَبلَ ذلك اليَومِ أَنَّ أَحَدًا يَبكِي مِنَ الفَرَحِ حتى رَأَيتُ أَبا بكرٍ يَومَئِذٍ يَبكِي".
اللهُ أكبرُ أيها المسلمون، فَدَى أَبو بَكرٍ رضي اللهُ عنه رسولَ اللهِ بِأَبِيهِ وَأُمِّهِ، وَأَرخَصَ كُلَّ غَالٍ وَنَفِيسٍ، وَنَسِيَ كُلَّ قَرِيبٍ وَعَزيزٍ، ولم يَتَذَكَّرْ إِلاَّ صُحبَةَ رَسولِ اللهِ. نعم، إِنَّهُ يُرِيدُ شَرَفَ الصُّحبَةِ في الهِجرةِ، يُرِيدُ أَن لاَّ يُفَارِقَ حَبِيبَهُ وَخَلِيلَهُ، يُرِيدُ أَن يَصحَبَهُ مُقِيمًا وَمُسافِرًا، فَلَم يُفَكِّرْ في شَيءٍ إِلاَّ في الصُّحبَةِ، فَسَأَلَهَا رَسولَ اللهِ وَطَلَبِ منه أَن يُشَرِّفَهُ بها، فَلَمَّا وَافَقَ على ذلك الحبيبُ ونال الصِّدِّيقُ وِسَامَ الشَّرَفِ؛ بَكَى رضي اللهُ عنه، وَذَرَفَت عَينَاهُ، لماذا؟ فَرَحًا بِصُحبَةِ حبيبِهِ رسولِ اللهِ. فَأَيّ قَلبٍ هذا الذي يَملِكُهُ؟! وَأَيّ فُؤَادٍ يحمِلُ بَينَ أَضلُعِهِ؟! وَأَيّ حُبٍّ يَنطوِي عَلَيهِ؟! إِنَّهُ حُبٌّ لا يُفَكِّرُ مَعَهُ في أَهلٍ ولا وَطَنٍ، إِنَّهُ حُبٌّ يُنسِيهِ أَبنَاءَهُ وَمَا مَلَكَت يَمِينُهُ، فَرَضِيَ اللهُ عنه وَأَرضَاهُ مَا أَقوَى إِيمَانَهُ! وَرَفَعَ دَرَجتَهُ في الجنةِ ما أَصدَقَ حُبَّهُ!
وَلَيس هذا فَحَسبُ، بل تَعالَوا نَسمَعْ مَا بَعدَهُ، فقد روى الحاكمُ في مُستَدرَكِهِ عن
محمدِ بنِ سِيرِينَ رحمه اللهُ قال: ذُكِرَ رِجَالٌ على عَهدِ عمرَ رضي اللهُ عنه، فكأنهم فَضَّلُوا عُمَرَ على أَبي بَكرٍ رضي اللهُ عنهما، قال: فَبَلَغَ ذلك عُمَرَ رضي اللهُ عنه فقال: "وَاللهِ، لَلَيلَةٌ مِن أَبي بكرٍ خَيرٌ مِن آلِ عُمَرَ، وَلَيَومٌ مِن أَبي بكرٍ خَيرٌ مِن آلِ عُمَرَ، لَقَد خَرَجَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِيَنطَلِقَ إلى الغَارِ وَمَعَهُ أَبو بكرٍ، فَجَعَلَ يمشِي سَاعَةً بَينَ يَدَيهِ وَسَاعَةً خَلفَهُ، حتى فَطِنَ له رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقال «يا أَبا بكرٍ، ما لك تمشِي سَاعَةً بَينَ يَدَيَّ وَسَاعَةً خَلفِي»؟ فقال: يا رَسولَ اللهِ، أَذكُرُ الطَّلَبَ فَأَمشِي خَلفَكَ، ثم أَذكُرُ الرَّصَدَ فَأَمشِي بَينَ يَدَيكَ، فقال: «يا أَبا بكرٍ، لَو كَان شَيءٌ أَحبَبتَ أَن يَكونَ بِكَ دُونِي»؟ قال: نَعَمْ، والذي بَعَثَكَ بِالحَقِّ، ما كانت لِتَكونَ مِن مُلِمَّةٍ إِلاَّ أَن تَكونَ بي دُونَكَ. فَلَمَّا انتَهَيَا إلى الغارِ قال أبو بكرٍ: مَكَانَكَ - يَا رَسولَ اللهِ - حتى أَستَبرِئَ لَكَ الغَارَ، فَدَخَلَ وَاستَبرَأَهُ، حتى إذا كان في أَعلاهُ ذَكَرَ أَنَّهُ لم يَستَبرِئِ الحُجرَةَ، فقال: مَكَانَكَ - يَا رَسولَ اللهِ- حتى أَستَبرِئَ الحُجرَةَ، فَدَخَلَ وَاستَبرَأَ ثم قال: اِنزِلْ يَا رَسولَ اللهِ، فَنزَلَ. فقال عُمَرُ: والذي نَفسِي بِيَدِهِ، لَتِلكَ اللَّيلَةُ خَيرٌ مِن آلِ عُمَرَ".
فَانظُرُوا كيف فَعَلَتِ المحبَّةُ الصَّادِقَةُ بِأَبي بكرٍ وَأَيَّ شَيءٍ أَدَّى بِهِ الخَوفُ عَلَى النبيِّ مِنَ المُشرِكِينَ، يَتَمَنَّى لَوِ استطاع أَن يَحمِيَهُ مِن خَلفِهِ وَمِن أَمَامِهِ، وَيَوَدُّ لَوِ انقَسَمَ فَصَارَ قِسمٌ مِنهُ بَينَ يَدَيهِ وَآخَرُ مِن خَلفِهِ، فلا يجِدُ وَلا يَستَطِيعُ إِلاَّ أَن يُبَادِلَ المَشيَ مِن هُنا وَمِن هُنا؛ لَعلَّ مَا قد يُرِيدُ الرَّسولَ بأذى أن يَقَعَ لهُ هو دُونَ الحبيبِ صلى الله عليه وسلم. ثم يُكَرِّرُ مَشهَدَ المَوَدَّةِ في الغارِ، فَيَدخُلُهُ قَبلَ الحبيبِ لِيُنَظَِّفَهُ ممَّا قد يَكُونُ فيه مِن هَوَامَّ وَخَشَاشٍ أَو أَشوَاكٍ أَو نحوِها، لِئلا تُؤذِيَ رَسولَ اللهِ أَو تمسَّهُ بما يَكرَهُ.
فَرَضِيَ اللهُ عن صِدِّيقِ الأُمَّةِ وَأَعلَى دَرَجَتَهُ، وَرَضِيَ اللهُ عن أَبي طَلحَةَ وَزَيدِ بنِ الدِّثِنَّةِ وعن سائِرِ الأصحابِ، أَمَّا زَيدُ بنِ الدِّثِنَّةِ رضي اللهُ عنه فإنه لمَّا اجتَمَعَ رَهطٌ مِن قُرَيشٍ لقتلِهِ وقال له أبو سُفيَانَ حِينَ قُدِّمَ لِيُقتَلَ: "أَنشُدُكَ بِاللهِ يَا زَيدُ، أَتُحِبُّ أَنَّ محمدًا الآنَ عِندَنَا مَكَانَكَ نَضرِبُ عُنُقَهُ وَأَنَّكَ في أَهلِكَ"؟ قال: "واللهِ، ما أُحِبُّ أَنَّ محمدًا الآنَ في مَكَانِهِ الذي هو فيه تُصِيبُهُ شَوكَةٌ تُؤذِيهِ وَأني جالسٌ في أَهلي"، فقال أَبو سُفيَانَ: "مَا رَأَيتُ مِنَ الناسِ أَحدًا يُحِبُّ أَحَدًا كَحُبِّ أَصحَابِ محمدٍ محمدًا"، ثم قَتَلُوهُ رضي اللهُ عنه. وَأَمَّا مَوقِفُ أبي طلحةَ فقد رواه البخاريُّ عن أنسٍ رضي اللهُ عنه قال: "لمَّا كان يَومُ أُحُدٍ انهزمَ الناسُ عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأَبو طلحةَ بَينَ يَدَيِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم مُجَوِّبٌ عَلَيهِ بِحَجَفَةٍ له -أَيْ: مُحِيطٌ بِهِ بِتُرسٍ لِيَحمِيَهُ-، وكان أبو طلحةَ رجلاً رَامِيًا شَدِيدَ القِدِّ -أَيْ: أَنَّ وَتَرَ قوسِهِ مَشدُودٌ لِقَوِّتِهِ- يَكسِرُ يَومَئِذٍ قَوسَينِ أَو ثَلاثًا، وكان الرجُلُ يَمُرُّ مَعَهُ الجَعبَةُ مِنَ النَّبْلِ، فَيَقُولُ: «انثُرها لأبي طَلحَةَ»، فَأَشرَفَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَنظُرُ إلى القَومِ، فَيَقُولُ أَبو طلحةَ: يَا نبيَّ اللهِ بِأَبي أَنتَ وَأُمِّي، لا تُشرِفْ يُصبْكَ سَهمٌ مِن سِهَامِ القَومِ، نحري دُونَ نحرِكَ. فَرَضِيَ اللهُ عنه وأرضاه، ما أَغلَى مَا فَدَى بِهِ رَسولَ اللهِ، فَدَاهُ بِنَحرِهِ وَوَقَاهُ بِصَدرِهِ، وَجَعَلَ نَفسَهُ حَائِطًا يَصُدُّ سِهَامَ القَومِ عَن جَسَدِ الحبيبِ صلى الله عليه وسلم.
أيها المسلمون، ولم يَكُنْ أَمرُ محبَّةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم مَقصورًا على الرِّجالِ مِنَ الصحابةِ دُونَ النِّساءِ، بل لَقَد كان فِيهِنَّ مَن ضَرَبَت في ذلك مثلاً، فقد أخرج الطبرانيُّ عن أنسِ بنِ مالكٍ رضي اللهُ عنه قال: "لمَّا كان يَومُ أُحُدٍ حَاصَ أَهلُ المَدِينةِ حَيصَةً، وقالوا: قُتِلَ محمدٌ، حتى كَثُرتِ الصَّوارِخُ في نَاحِيَةِ المَدينةِ، فَخَرَجَتِ امرأةٌ مِنَ الأَنصَارِ مُتَحَزِّمَةً، فَاستُقبِلَت بِابنِها وَأَبِيها وَزَوجِها وَأَخِيها، لا أَدرِي أَيَّهُم استُقبِلَت بِهِ أَوَّلاً، فَلَمَّا مَرَّت على آخرِهِم قالت: مَن هذا؟ قالوا: أَبوكِ، أَخوكِ، زَوجُكِ، ابنُكِ، تَقُولُ: ما فَعَلَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ يَقُولُونَ: أَمَامَكِ، حتى دُفِعَت إلى رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخَذَت بِنَاحِيَةِ ثَوبِهِ، ثم قالت: بِأَبي أنت وَأُمِّي يَا رَسولَ اللهِ، لا أُبَالي إِذَا سَلِمَتَ مَن عَطَبَ".
وفي السِّيرةِ لابنِ هِشامٍ أنه صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِامرأةٍ مِن بَني دِينَارٍ وقد أُصِيبَ زَوجُها وَأَخُوها وَأَبُوها مَعَهُ بِأُحُدٍ، فَلَمَّا نُعُوا لها قَالَت: فَمَا فَعَلَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالُوا: "خَيرًا يَا أُمَّ فُلانٍ، هو بِحَمدِ اللهِ كَمَا تُحبِّينَ"، قالت: أَرُونِيهِ حتى أَنظُرَ إِلَيهِ، قال: فَأُشِيرَ لها إليه، حتى إذا رَأَتْهُ قالت: "كُلُّ مُصِيبَةٍ بَعدَكَ جَلَلٌ"، أَيْ: كُلُّ مُصِيبَةٍ دُونَكَ هَيِّنَةٌ صَغِيرَةٌ.
فَرَضِيَ اللهُ عن صحابةِ رَسولِ اللهِ وأرضاهم، وجزاهم خيرًا عن نَبِيِّهِم وَدِينِهِم، فقد آمنوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ حَقَّ الإِيمانِ، وَجَاهَدُوا في سَبِيلِ اللهِ وَنَافَحُوا عن رَسولِ اللهِ.
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشيطانِ الرجيمِ، (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُم وَرَضُوا عَنهُ وَأَعَدَّ لَهُم جَنَّاتٍ تَجرِي تَحتَهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الفَوزُ العَظِيمُ).
الخطبة الثانية
أما بَعدُ: فاتقوا اللهَ تعالى حَقَّ التقوى، وتمَسَّكوا مِنَ الإِسلامِ بِالعُروةِ الوُثقى، (وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا).
أيها المسلمون، وَإِذَا كان ما سَبَقَ مِن مَوَاقِفَ لِلصَّحَابَةِ الكِرامِ رُضوانُ اللهِ عليهم تَدُلُّ على شَدِيدِ محبَّتِهِم لِنَبِيِّهِم وحبِيبِهِم عليه الصلاةُ والسلامُ، فَإِنَّ في أُمَّتِهِ الآنَ مَن يُحِبُّهُ حُبًّا شَدِيدًا، يَوَدُّ مَعَهُ لَو رَآهُ وَأَنَّهُ لم يَرَ مَالاً وَلا أَهْلاً، روى مُسلِمٌ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مِن أَشَدِّ أُمَّتي لي حُبًّا نَاسٌ يَكُونُونَ بَعدِي، يَوَدُّ أَحَدُهُم لَو رَآني بِأَهلِهِ وَمَالِهِ». وَإِذَا كان الصحابةُ قد فَدَوا رَسولَ اللهِ بِأَروَاحِهِم وَمَا يملِكُونَ، فَإِنَّهُ لا يُعجِزُ أَحدَنَا - أيها المسلمون- أَن يَستَمِرَّ في مُقَاطَعَتِهِ لِمَنِ استَهزَؤُوا بِهِ صلى الله عليه وسلم، فَوَاللهِ مَا قَامَت حَيَاةُ أَحدِنا على زُبدَةٍ وَلا جُبنَةٍ وَلا على حَلِيبٍ أَو لَبنٍ يَصنَعُهُ هؤلاءِ أَو يُنتِجُونَه، ثم يُسَوِّقُونَهُ لَدَينا مُمتَصِّينَ أَموَالَنَا، ثم يُحَارِبُونَنَا بها وَيَستَهزِئُونَ بِرَسُولِنَا وحَبيبِنا، ألا فَرَحِمَ اللهُ امرَأً استَمَرَّ في مُقاطَعتِهِ أعداءَ الله ورسولِهِ؛ سُخْطَةً لِلحَبِيبِ، فَلَعَلَّهُ بِذَلك أَن يَنَالَ مِنَ الفَلاح نَصِيبًا، يَقُولُ سبحانَه: (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ). ولا تهولَنَّكُم - أيها المسلمون- خِطَّةُ هؤلاءِ الكَفَرَةِ مِن دُوَلِ أَورُوبا؛ حَيثُ عَمِلُوا على تَوسِيعِ دَائِرَةِ السُّخرِيَةِ وَالاستِهزَاءِ، مُرِيدِينَ بِذَلكَ أَن تَتَّسِعَ دَائِرَةُ المُقَاطَعَةِ فَنَعجِزَ عنها أَو نَكَلَّ أَو نَمَلَّ. أَلا فَلْنَثْبُتْ على مُقَاطَعَتِنا لِمَن نَستَطِيعُ مُقَاطَعَتَهُ مِن هَذِهِ الدُّوَلِ، وَإِلاَّ فَلا أَقَلَّ مِن مُقَاطَعَةِ الدولةِ التي تَوَلَّت كِبرَ هذِهِ المُحَارَبَةِ لِنَبِيِّنا وَبَدَأَت بِالسُّخرِيَةِ منه، أَعني الدنماركَ، فاتقوا اللهَ ما استطعتم.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم