سعة رحمة الله

محمد بن عبدالرحمن العريفي

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: التربية
عناصر الخطبة
1/ بيان سعة رحمة الله تعالى 2/ السبيل للوصول إلى رحمة الله 3/ موازنة المسلم بين الخوف والرجاء

اقتباس

فلما قعد النبي عليه الصلاة والسلام ينظر إلى الكافرين وأمر بالإحسان إلى الأسرى أجمعين جعل عليه الصلاة والسلام ينظر إلى مجموعة من الأطفال والنساء وهم لا يزالون في رعب الحرب وفي أذاها، والمسلمون يحسنون إليهم بأنواع الإحسان من طعام وشراب.. جعل عليه الصلاة والسلام يلحظهم ويرقب حالهم، وفي هذه الأثناء رأى عليه الصلاة والسلام امرأة منهم تطوف بينهم وهي تبحث عن شيء ..

 

 

 

 

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جل عن الشبيه والمثيل والكفء والنظير.

وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيُّه وخليله، وخيرته من خَلقه، وأمينه على وحيه، أرسله ربه رحمة للعالمين، وحجة على العباد أجمعين، فهدى الله تعالى به من الضلالة، وبصَّر به من الجهالة، وجمع به بعد الشتات، وأمَّن به بعد الخوف، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطيبين، وأصحابه الغُرِّ الميامين، ما اتصلت عين ببصر، ووعت أذن بخبر، وسلم تسليما كثيرا.

أما بعد:

أيها الإخوة المؤمنون: لما رجع النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- من معركة حنين والطائف وبعدما قاتل هوازن رجع -عليه الصلاة والسلام- وقد خلف من أصحابه شهداء، ومعه قوم منهم جرحى ومرضى، ومعه قوم أسرى من الكافرين، ومعه نساء وأطفال لهم كان أهلهم قد خرجوا بهم من الطائف إلى ساحة القتال، وبالتالي لما قُتل مقاتلوهم وآباؤهم وأزواجهم أو أُسِروا جيء بهم معهم.

فلما قعد النبي -عليه الصلاة والسلام- ينظر إلى الكافرين وأمر بالإحسان إلى الأسرى أجمعين جعل -عليه الصلاة والسلام- ينظر إلى مجموعة من الأطفال والنساء وهم لا يزالون في رعب الحرب وفي أذاها، والمسلمون يحسنون إليهم بأنواع الإحسان من طعام وشراب.

جعل -عليه الصلاة والسلام- يلحظهم ويرقب حالهم، وفي هذه الأثناء رأى -عليه الصلاة والسلام- امرأة منهم تطوف بينهم وهي تبحث عن شيء، وكانت كلما رأت طفلا صغيرا سواء في حِجر امرأة أو لوحده أخذته ثم رفعته ونظرت إليه ثم ردته إلى مكانه، فأدرك النبي -صلى الله عليه وسلم- أنها تبحث عن طفلها، تبحث عن وليدها الذي حملته في أحشائها، وأحبَّتْهُ بكل شآبيب قلبها وقد تعلقت به، وطالما ضمته إلى حضنها ووضعته في حجرها، وطالما ألقمته ثديها، قد طال شوقه وشوقها، وعظمت حاجته وحاجتها في شدة حر الشمس ورعب الحرب وهي لا تزال تبحث عن ولدها.

فجعل النبي -عليه الصلاة والسلام- يتأمل حالها وهي تتنقل بينهم باكية مشفقة تبحث عن وليدها، ثم إذا لقيت غلاما بعد غلام فوجدت غلاما فرفعته ثم نظرت إليه ما لبثت أن ضمته إلى صدرها وألقمته ثديها، وهي ما بين شم وتقبيل وضم، فلما رآها النبي -عليه الصلاة والسلام- علم أنها وصلت إلى بُغْيَتِها، وأن الذي كان في قلبها من الشوق والخوف قد انتهى عنها، واطمأن نفسها وقلبها.

فقال -عليه الصلاة والسلام- وهو يرى رحمتها بوليدها ويرى شفقتها عليه ويرى حبها له وتعلقها به، يراها -عليه الصلاة والسلام- فيرى أنها رحمت ضعفه، ورحمت جوعه، واشتاقت إليه، فقال -عليه الصلاة والسلام- لأصحابه وهم ينظرون إليها، قال لهم: "أترون هذه -يعني هل تظنون، هل تتوقعون- أترون هذه طارحة ولدها في النار؟!".

يعني لو أشعلنا نارا وأمرنا هذه المرأة أن تأخذ طفلها الذي قد ضمته إلى صدرها وألقمته ثديها وضمته وقبَّلته وشمته، وقبل ذلك نامت بجانبه، وقبله حملته في أحشائها، قال: أترون هذه المرأة، يعني على حبها وتقديرها وتعلقها وشغفها، أترون هذه طارحة ولدها في النار؟!.

لو أشعلنا نارا وأمرناها أن تلقي ولدها في النار، أترون هذه طارحة ولدها في النار؟! فعجِب الصحابة من هذا السؤال، وهم يرون شغفها بولدها وتعلقها به، ولو خيرت بين أن تطرح نفسها أو تطرح ولدها لألقت بنفسها هي في النار، فقال الصحابة: يا رسول الله، لا والله! لا تطرحه في النار، وهي تقدر على ألَّا تطرحه، يعني كيف تطرحه وهي تحبه وهي تقبله وهي ترحم جوعه وعطشه وحاجته؟! لا والله يا رسول الله لا تطرحه في النار وهي تقدر على ألَّا تطرحه، يعني إلا أن تكره على ذلك؛ فقال -عليه الصلاة والسلام-: "والذي نفسي بيده! إن الله أرحم بعباده من هذه الأم بولدها".

إن ربنا -جل وعلا- وصف نفسه بالقوي، وصف نفسه بالجبار، لكنه وصف رحمته فقال: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) [الأعراف:156]، وقد كان الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- يتعلقون برحمة الله تعالى، ويناجون ربهم بهذه الصفة، متعلقين بها، مؤمَّلِين رحمته وإحسانه وكرمه ومغفرته؛ لأنه -جل وعلا- وصف نفسه بأن رحمته قد وسعت كل شيء.

ألم تسمع إلى دعاء موسى -عليه السلام- لما رفع يديه وقال: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [الأعراف:151]، وذلك لما رجع موسى إلى قومه بعدما ذهب لميقات ربه فغاب عنهم أربعين ليلة ثم رجع إلى قومه وإذا هم يعبدون صنماً، يعبدون عجلاً قد صنعوه من حلي وذهب وهم يعبدونه من دون الله.

فأقبل موسى إلى أخيه، وقد رأى قومه قد وقعوا في عبادة غير الله، ألقى الألواح وأقبل إلى هارون وأخذ برأس أخيه يجره إليه، يعني كيف تسكت عنهم؟ كيف ترضى أن يعبدوا غير الله؟ فلما بيَّن له هارون العذر وقال: (يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) [طه:94]، قال موسى لِمَن تولَّى كِبْر العجل: (فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ) [طه:95].

ثم دعا موسى على ذلك الرجل الذي صنع العجل، ثم رفع موسى يديه وقال: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي)، نحن بريئان يا ربي مما فعله قومنا، نحن لم نعبد غيرك، ولم نتوجه إلى سواك، قال (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [الأعراف:151].

بل إن موسى -عليه السلام- من قبل ذلك يعرف مقدار رحمة ربنا -جل وعلا-، ألم تر أن موسى -عليه السلام- لما نبأه الله تعالى بالرسالة قال وهو يناجي ربه -جل وعلا-: (وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا) [طه:29-35].

وقال الله تعالى له بعدها: (وَوَهَبْنَا)، يعني وهبنا لموسى، (وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا) [مريم:53]، فرحم الله تعالى حاجة موسى وما شكاه من ثقل لسانه وهو يقول: يا رب، أنا أريد أن أبين وأريد أن أدعو إليك وأريد أن أحاور وأناضل؛ لكن لساني يثقل عن ذلك، (وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) [القصص:34].

حتى إذا تكلمت أنا ثم التبس عليَّ الكلام أو أرتج على لساني أن يتكلم أخي هارون فإنه أفصح مني لسانا، قال الله: (وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا)، رحمنا موسى، ورحمنا حاله فاستجبنا دعاءه، ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا.

وأيوب -عليه السلام- الذي كان في عز وطعام وشراب وأنعام وأولاد وزوجات وبيوت ونعم كثيرة، وإذا بالله -جل وعلا- يبتلي أيوب -عليه السلام- فيذهب كل ما عنده إلا زوجة بقيت عنده، وظهر به مرض جعل قومه يضربون له خيمة خارج البلد خوفا من أن ينتقل مرضه إليهم بالعدوى.

فمر يوما رجلان، وقد كانت زوجته تحوطه وتقيم عليه حتى اشتدت بها الحاجة يوما فذهبت تبتغي طعاما له فلم تجد مالاً تشتري به، فقصت شعرها، وكان جميلا طويلا، قصته وباعت الشعر حتى أحضرت له طعاماً، فمر يومٌ وقد صبرت على أيوب -عليه السلام- سبع سنين، مر به رجلان فقال أحدهما: انظر إلى هذا! ما أظن أن الله ابتلاه إلا بمعصية عظيمة فعلها لا نعرفها.

فلما رأى أيوب -عليه السلام- أنهم وقع في قلوبهم الشك في نبيهم، وربما بعد ذلك جرهم الشك إلى عدم اتباعه والارتداد عن دينه، لما رأى أن مرضه أوصلهم إلى هذه المرحلة، قال الله: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ)، هل قال: وأنت القوي، أو وأنت على كل شيء قدير، أو وأنت الشافي، ناجَى ربه بالصفة التي وسعت كل شيء: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [الأنبياء:83].

يا رب، أنت رحيم فارحمني، ارحم ضعفي وارحم حاجتي، وارحم امرأتي، وارحم أقواما من قومي ربما ارتدوا عن الدين بسبب مرضي، يا رب عاملنا برحمتك، يا رب عاملني برحمتك لا تعاملني بعقوبتك، يا رب عاملني برحمتك: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)، قال الله: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ) [الأنبياء:84].

وذكرى لمن كان متعبداً إذا أصاب ذنبا أو نزلت به حاجة أو انطرحت عليه فاقة أو اتهم باتهام أو سجن أو ضيق عليه أو أخذ ماله أو مرض ولده أو أراد حاجة من الحوائج مما يجري به القدر، ثم رفع يديه مستمسكا برحمة الله، متعرفا على ربه: (وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)، قال الله: (فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ)، وذكرى وعبرة وقدوة لمن يأتي بعده من العابدين.

يقول أنس -رضي الله تعالى عنه-: كنت جالساً يوما عند رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، قال: فأقبل رجل يجر خطاه ويتكئ على عصاه، قد كبر سنه حتى سقط حاجباه على عينيه من شدة الكبر.

الإنسان إذا كبر ترهَّل جسمه، وتجعد وجهه، حتى ربما اجتمع وجهه بعضه على بعض من شدة الكبر، قد تجعدت جبهته حتى ارتخت على عينيه، قال: قد سقط حاجباه على عينيه، أقبل يجر خطاه ويتكئ على عصاه، حتى وقف بين يدي حبيبنا وسيدنا رسول الله -عليه الصلاة والسلام- الذي وصفه الله تعالى بالرحمة وقال -جل وعلا-: (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة:128].

فلما أقبل ذلك الرجل جعل يتكئ على عصاه حتى وقف بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، وإذا بينه وبين رسول الله -عليه الصلاة والسلام- سنين، فهو أكبر من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأعوام، ووقف بين يدي رسول الله ورفع بصره إليه ورأسه وهو محدودب الظهر، متكئ على العصا، قال: يا رسول الله، أرأيتَ رجلا عمل الذنوب كلها فلم يترك منها شيئا...

عمل الذنوب كلها فلم يترك منها شيئا، وهو إلى ذلك ما ترك حَاجَةً وَلا دَاجَةً إلا أتاها، يا رسول الله! لو قسمت خطيئته على أهل الأرض لوسعته، فهل لذلك من توبة؟ بعدما كبر سني ورق عظمي واحدودب ظهري، وضعفت قوتي واقتربت مَنِيَّتي، أرأيت رجلا عمل الذنوب كلها فلم يترك منها شيئا وهو إلى ذلك ما ترك حَاجَةً وَلا دَاجَةً إلا أتاها، لو قسمت خطيئته على أهل الأرض لوسعتهم، فهل لذلك من توبة؟!.

فإذا بالنبي -عليه الصلاة والسلام- يرفع بصره إلى رجل أقبل تائبا بعدما شاخ وشاب، أقبل تائبا بعدما انقطعت عنه دعوات الشهوة والغريزة، أقبل تائبا بعدما وقع فيما وقع فيه من الذنوب،لم يقل له النبي -عليه الصلاة والسلام-: لا؛ بل قاس خطاياه بسعة رحمة الله وهو -عليه الصلاة والسلام- الذي كان يقول لأصحابه -ولعل ذلك الرجل كان يسمع ذلك- كان يقول لهم، يقول الله تعالى: "يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرتُ لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرتُ لك ولا أبالي، يا ابن آدم، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة".

هو -عليه الصلاة والسلام- الذي يحدِّث أصحابه بسَعَةِ رحمة الله في كل موطن، ويذكرهم بها في كل موقف، هل يعقل أن يسد باب التوبة أمام رجل قد أقبل صادقا مؤمنا مسلما؟.

قال -عليه الصلاة والسلام- له: هل أسلمت؟ هل تبت؟ قال: أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وانك رسول الله، فقال -عليه الصلاة والسلام-: قد غفر الله لك، قال يا رسول الله: وغدراتي وفجراتي، قال: وغدراتك وفجراتك، قال أنس: فرأيت الرجل قد ولى ظهره خارجا، فوالله ما تسمع منه إلا: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر... حتى غاب عنا صوته ولا نسمع إلا تكبيره.

عندما نتعامل مع ربنا برحمته ومغفرته والإقبال عليه، ونصدُق في تطلُّب رحمته، نكون من المؤمنين، وممن اقتدوا بالأنبياء فعلا، وقد كان الأنبياء -عليهم السلام- رحماء بالخلق، كما وصف الله نبينا -صلى الله عليه وسلم-: (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ).

قد وصف الله تعالى من قبله أيضا من الأنبياء بمثل ذلك، ألم تر أن إبراهيم -عليه السلام- لما قعد في بيته فأقبل إليه الملائكة، أقبل إليه جبريل وميكائيل واسرافيل، في صور شباب حسان، والملائكة صورهم حسنة وإن تشكلوا بصور بشر، فلما وضع لهم الطعام رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة.

ضيوف يدخلون في بيتي وأنا شيخ كبير، وزوجتي عجوز كبيرة، ومع ذلك لا يأكلون من طعامي، إذاً؛ ماذا يريدون؟ (وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ) [هود:70]، نحن ملائكة أرسلنا لأجل إهلاك قوم لوط الذين وقعوا في الفواحش وأظهروا في نواديهم المنكر، وقطعوا السبيل، وكفروا بالله، وآذوا نبيهم: (إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ)، قال الله: (وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ) [هود:71]، فرحت بأن العذاب سينزل على أولئك: (فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ) [هود:71]، بشروها بأنها سوف تحمل بإسحاق على كبر سنها وعلى كبر سن زوجها، وأن إسحاق سيعيش حتى ترى هي ولده، ترى يعقوب.

(قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) [هود:72-73].

إبراهيم فرِحَ بأنه سيرزق بإسحاق، لكن الرحمة التي في قلبه بالناس -وإن كانوا كافرين- لا تزال تعترك في قلبه، فجعل يحاور جبريل في محاولة منه لتأخير العذاب عن أولئك، ليس تأخير العذاب عن رجل زنا أو سرق، إنما تأخير العذاب عن قوم يعملون في نواديهم المنكر، متكشفين بعضهم إلى بعض يفعلون الفاحشة، ويقطعون السبيل ويكفرون بالله.

وإبراهيم -كما ذكر ابن كثير- لما خرج جبريل جعل إبراهيم يمسك بيد جبرائيل، وجبرائيل في صورة رجل وهو يمسك بيده ويتأنى به حتى يؤخر ذهابه، وهو يقول: لو استأنيتم بهم، لو أخرتموهم.

فيصف الله تعالى حال إبراهيم ويقول: (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ)، الروع من ضيوفه بعد أن علم أنهم ملائكة، فاطمأنت نفسه وذهب ما كان يخاف منه، (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ) [هود:74]، ثم وصف الله إبراهيم فقال: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ) [هود:75].

إبراهيم حليم رحيم، ليس عجولا يتعامل مع الناس بالتماس الأعذار لهم، يرحمهم، والنبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: "الراحمون يرحمهم الرحمان"، الراحمون، مَن كان يرحم الفقير أو يرحم ولده، يرحم زوجته، يرحم قبل ذلك أباه ويرحم أمه، يرحم أصحاب الحاجات، حتى لو لم تحسن إليهم، مجرد ما يقع في قلبك من الرحمة والشفقة عليهم أنت مأجور بذلك.

الراحمون؛ مَن أراد أن يصل إلى رحمة الله فليعامل الخلق بالرحمة، الخلق عيال الله، يعني محتاجون إلى الله، كما قال الله: (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً) [التوبة:28]، إن خفتم، فقرأ: (فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ) [التوبة:28]، الخلق عيال الله، يعني مفتقرون إلى الله، وأحبهم إلى الله أرحمهم بعياله؛ كل مَن كان يرحم فهو قريب من رحمة الله -جل وعلا-.

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يشملنا جميعا برحمته، أسأل الله الرحيم الرحمان أن يشملنا برحمته، أسأل الله أن يشملنا برحمته، أقول ما تسمعون، واستغفر الله العلي العظيم مِن كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشانه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وإخوانه وخلانه، ومن سار على نهجه واقتفى أثره واستنَّ بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

أيها الإخوة الكرام: إن منهج المعتدلين من هذه الأمة هو الموازنة ما بين الخوف والرجاء، فكما أننا نرجو رحمة ربنا ونعلم سعتها ونقرأ في كتاب الله -جل وعلا- تقريبه لهذه الرحمة إلى عباده، إلا أننا نجمع مع ابتغائنا للرحمة ورجائنا لها نجمع معها خوفا وتعظيما لربنا -جل وعلا-.

ولما وصف الله تعالى عباده المؤمنين قال -سبحانه وتعالى-: (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا) [السجدة:16]، خوفا من عذابه، وطمعا في رحمته، فلابد أن يوازن الإنسان ما بين هذا وهذا.

وقد بين النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أن رحمة الله تعالى واسعة؛ لكن العبد إذا فجر وطغى ولم يعمل بأسباب طلب هذه الرحمة عامله الله تعالى بغضبه عياذا بالله.

وذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- حال قوم نوح -عليه السلام- لما أصابهم الطوفان، لما قالوا له (فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [هود:32]، فأمر الله تعالى السماء فأمطرت، والأرض فتفجرت، وإذا الماء يجري بسيل كالجبال، وفي هذه الأثناء كان الناس في فزع وخوف ورعب من هذا الماء الذي لا يستطيعون دفعه عن أنفسهم، ولا الهروب منه.

قال -عليه الصلاة والسلام-: إن امرأة من قوم نوح تجري خوفا من الماء، يعني أن تغرق، فصعدت إلى جبل ومعها وليد لها صغير فأخذت تصعد الجبال والماء يعلو وهي تصعد والماء يعلو إليه وهي تصعد حتى مع تعبها وجهدها ومع شفقتها ورحمته بولدها وهي تجر ولدها لا تريد أن تتركه بالرغم من مشقة حمله معها، صعدت إلى أعلى الجبل وجعل الماء يزداد وهي ترى الماء يضرب الناس بعضهم ببعض غرقا، فصعدت إلى أعلى الجبل، فلما كاد الماء أن يُغرق ولدها ضمته إلى صدرها فارتفع الماء حتى وصل إلى صدرها فرفعته فوق كتفيها فلا زال الماء يرتفع حتى غرقت المرأة ثم غرق صبيها، قال -عليه الصلاة والسلام-: لو كان الله راحماً أحداً من قوم نوح لرحم المرأة برحمتها لصبيها، فهو عزيز منتقم، جل في علاه! يعاملنا برحمته ومغفرته؛ لكن سعة هذه الرحمة لا يجوز أن تدفعنا إلى المعاصي تلو المعاصي اعتمادا عليها.

إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ولا أبالي، سبب نزول المغفرة والرحمة عليك الدعاء والرجاء والتوبة، أما الذي يقيم على المعصية تلو المعصية ويعتمد على أن الله تعالى سيعامله برحمته، وما أدراك؟!.

أُخرج أدم -عليه السلام- وحرمت ذريته من الجنة بثمرة أكلها من شجرة، فالإنسان يعتمد على خوفه من الله تعالى، ورجائه له.

أسأل الله -جل وعلا- أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، أسأل الله -جل وعلا- أن يجعلنا ممن تشمله رحمته، اللهم ارحمنا برحمتك...

 

 

 

 

 

 

 

المرفقات

رحمة الله

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات