غزوة بدر (3) البطولات والتضحيات

الشيخ د إبراهيم بن محمد الحقيل

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات: السيرة النبوية
عناصر الخطبة
1/ براهين الإيمان وتجلياتها في بطولات وتضحيات البدريين 2/ مكانة غزوة بدر وتسميتها بالفرقان 3/ فضل البدريين والاحتفاء بهم 4/ ما يعين على ثبات القلب 5/ استغلال العشر الأواخر لتحقيق الاستمساك بالدين والثبات

اقتباس

ولقد برهن أهل الصدر الأول من هذه الأمة على صدق إيمانهم، وحسن إسلامهم، وكمال إحسانهم، بأفعالهم وتضحياتهم؛ أوذوا في سبيل الله تعالى فما لانوا، وأُخرجوا من ديارهم بغير حق فما وهنوا، وساومهم المشركون على أن يتركوا دينهم أو ينخلعوا من أهليهم وأولادهم فانخلعوا، وهاموا على وجوههم في أرض الله تعالى؛ فراراً بدينهم، وثباتاً على توحيدهم، ولو فقدوا في سبيله كل عزيز من الأهل والولد، ولو اغتربوا بسببه عن الديار والبلد ..

 

 

 

 

 

الحمد لله؛ أظهر دينه، وأعلى كلمته، ونصر عبده، وأعَزَّ جنده، وهزم الأحزاب وحده، أحمده على ما هدى، وأشكره على ما أنعم وأولى، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ وفق من شاء من عباده للإيمان والتقى؛ فكان عملهم مبروراً، وسعيهم مشكوراً، وجزاؤهم يوم القيامة موفوراً.

وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أيده ربُّه في بدر بالملائكة والمعجزات، وأظهر دينه بالبراهين والآيات، فهو الدين القيم الذي ارتضاه الله تعالى لعباده، وهو الدين الظاهر المنصور إلى آخر الزمان، رغم أنوف الكارهين من المشركين والمنافقين.

صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه؛ آمنوا واتقوا، وبذلوا في سبيل إيمانهم كل ما يملكون، (فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) [آل عمران:146]، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه؛ فإن الأيام سراع بكم إلى قبوركم، وإن الدنيا لن تكون داركم، وها هو ذا رمضان شرَّفه الله تعالى بالعمل الصالح في نصفه الأخير، فخذوا حظكم منه قبل الرحيل، فإن صفحاته إن طويت لا تُفَضُّ إلا يوم القيامة للحساب والجزاء، (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [البقرة:281].

أيها الناس: الإيمان كما هو عقيدة القلب وقول اللسان؛ فهو كذلك عمل الأركان، والأفعال هي براهين الأقوال، ولا خير في أقوال جردت عن براهينها.

وبراهين الإيمان: الأعمال الصالحة؛ فالصلاة برهانه، والزكاة برهانه، والصيام برهانه، والحج برهانه، والبذل في سبيل الله تعالى برهانه.

ومن براهينه كذلك: تقديم ما يرضي الله تعالى على حظوظ النفوس ومشتهياتها، (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الكِتَابِ) [النساء:123] ومعنى هذه الآية: أن الدين ليس بالتحلي ولا بالتمني ولكن ما وقر في القلوب، وصدقته الأعمال، وليس كل من ادعى شيئا حصل له بمجرد دعواه، ولا كل مَن قالَ إنه هو على الحق؛ سُمع قوله بمجرد ذلك، حتى يكون له من الله برهان.

ولقد برهن أهل الصدر الأول من هذه الأمة على صدق إيمانهم، وحسن إسلامهم، وكمال إحسانهم، بأفعالهم وتضحياتهم؛ أوذوا في سبيل الله تعالى فما لانوا، وأُخرجوا من ديارهم بغير حق فما وهنوا، وساومهم المشركون على أن يتركوا دينهم أو ينخلعوا من أهليهم وأولادهم فانخلعوا، وهاموا على وجوههم في أرض الله تعالى؛ فراراً بدينهم، وثباتاً على توحيدهم، ولو فقدوا في سبيله كل عزيز من الأهل والولد، ولو اغتربوا بسببه عن الديار والبلد.

ثم لما أذن لهم في الهجرة إلى المدينة، وأبيح لهم قتال الكفار برهنوا مرة أخرى في غزوة الفرقان على أنهم أهل التضحية والفداء، فخرجوا إلى بدر الكبرى في أول رمضان صاموه، وهم لا يبلغون ثلث عدوهم، ولا يملكون من العتاد ما يملك، ولكن إيمانهم فوق العدة والعتاد، فكان ما كان من بطولاتهم وتضحياتهم في غزوة بدر، ولقد بانت نيتهم وعزيمتهم على التضحية والفداء في جوابهم للنبي ? لما شاورهم في التعرض لعير قريش، واحتمال الوصول إلى الحرب والقتال.

ويتجلى ذلك فيما رواه مسلم عن أنس -رضي الله عنه-: أن رسول الله شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان قال: فتكلم أبو بكر فأعرض عنه، ثم تكلم عمر فأعرض عنه، فقام سعد بن عبادة فقال: إيانا تريد يا رسول الله، والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها! ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا! قال: فندب رسول الله ? الناس فانطلقوا.

وفي السيرة النبوية أن المقداد بن عمرو -رضي الله عنه- قام فقال: يا رسول الله، امض لما أراك الله فنحن معك، واللهِ لا نقولُ لك كما قالت بنوا إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق! لو سِرْتَ بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه. فقال له رسول الله ? خيراً، ودعا له به.

ولكن النبي ? إنما كان يريد الأنصار؛ لأنهم عُدد الناس؛ ولأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: يا رسول الله إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا، فكان رسول الله ? يتحوط ألَّا تكون الأنصار ترى عليها نصره إلا ممن دهمه بالمدينة مِن عَدُوِّه، وأنْ ليس عليهم أن يسير بهم إلى عَدُوٍّ من بلادهم.

فلما قال ذلك رسول الله? قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله! قال: أجل، قال: فقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك! ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا، إنا لصُبْرٌ في الحرب، صُدْقٌ في اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسِر بنا على بركة الله.

فسُرَّ رسول الله بقول سعد، ونشطه ذلك، ثم قال: "سيروا وابشروا، فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لَكَأني الآن أنظر إلى مصارع القوم.

إنها عزيمة على التضحية والفداء، ومنازلة الكفر وأهله مهما كلف الأمر، فالثمن جنة عرضها السموات والأرض.

لقد برهن المهاجرون والأنصار على صدق إيمانهم، وصدق بذْلهم لدين الله تعالى أغلى ما يملكون، فقالوا ما قالوا، ثم لما تقابل الجمعان، والتحم الصفان، صدَّقَ الصحابة -رضي الله عنهم- أقوالهم بالأفعال، ونقلت بعض تضحياتهم إلينا شاهدة على إيمانهم وصدقهم، ومحفِّزة لنا للتأسِّي بهم، وقفْو أثرهم.

وكان قائدهم في ذلك رسول الله الذي كان أشجع الناس، وأشدهم بأسا، وأكملهم إيمانا، وأقواهم يقينا، وأكثرهم توكلا، حتى قال علي -رضي الله عنه- يصفه في غزوة بدر: لقد رأيتنا يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله? وهو أقربنا إلى العدو، وكان من أشد الناس يومئذ بأسا.

وفي رواية عن علي -رضي الله عنه- قال: لما حضر البأس يوم بدر اتقينا برسول الله? -صلى الله عليه وسلم- وكان من أشد الناس، ما كان أحد أقرب إلى المشركين منه. رواه أحمد.

بل بلغ من شجاعته -عليه الصلاة والسلام- أنه نهى أحدا من المسلمين أن يتقدم إلى المشركين حتى يكون هو -عليه الصلاة والسلام- المتقدم أمامهم، فقال لهم: لا يقدمن أحد منكم إلى شيء حتى أكون أنا دونه. رواه مسلم.

ولما برز ثلاثة من صناديد المشركين وشجعانهم يطلبون المبارزة؛ استبق إليهم ثلاثة من شباب الأنصار، ولكن المشركين أرادوا ثلاثة من بني عمهم المهاجرين، فسمى النبي -صلى الله عليه وسلم-? ثلاثة من المهاجرين، فما توانوا عن التضحية والفداء، بل برزوا لمبارزتهم من فورهم.

كما روى علي -رضي الله عنه- فقال: تقدم عتبة بن ربيعة وتبعه ابنه وأخوه فنادى: من يبارز؟ فانتدب له شباب من الأنصار، فقال: مَن أنتم؟ فأخبروه فقال: لا حاجة لنا فيكم، إنما أردنا بني عمنا، فقال رسول الله : قم يا حمزة، قم يا علي، قم يا عبيدة بن الحارث، فأقبل حمزة إلى عتبة، وأقبلت إلى شيبة، واختلف بين عبيدة والوليد ضربتان فأثخن كل واحد منهما صاحبه، ثم ملنا على الوليد فقتلناه، واحتملنا عبيدة. رواه أبو داود.

وقد ثبت في الصحيح أن هؤلاء الستة الذين افتتحوا غزوة بدر بالمبارزة هم أول من يجلس للخصومة من هذه الأمة يوم القيامة؛ كما قال علي -رضي الله عنه-: أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة.

وقال قيس بن عباد -رحمه الله تعالى-: وفيهم أنزلت (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) [الحج:19] قال: هم الذين تبارزوا يوم بدر: حمزة وعلي وعبيدة أو أبو عبيدة بن الحارث وشيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة. رواه البخاري.

إن قوة إيمان أهل بدر بالله تعالى، ويقينهم بما أعد لهم في الجنة، وتصديقهم للنبي -صلى الله عليه وسلم-?؛ جعل بعضهم يستطيل حياته الباقية وإنْ لم يبق منها إلا لحظات يسيرة؛ كما وقع لعمير بن الحمام، رضي الله عنه وأرضاه.

دنا المشركون من المسلمين، فقال النبي: "قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض"، فقال عمير بن الحمام الأنصاري: يا رسول الله، جنة عرضها السماوات والأرض؟!، قال: "نعم"، قال: بخٍ بخٍ! فقال رسول الله: "ما يحملك على قولك: بخٍ بخٍ؟" قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاءَةَ أن أكون من أهلها، قال: "فإنك من أهلها"، فأخرج تمرات من قَرَنهِ فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قتل. رواه مسلم.

إنه إيمان عجيب، ومسابقة إلى موعود الله تعالى بالجنة على وجه السرعة، فلا تأمُّل ولا مشاورة ولا توان، ولا نظر إلى الدنيا وزينتها، ولا تفكير في الأهل والعشيرة، ليس في قلوبهم إلا الله تعالى والدار الآخرة، ولقد كان هذا الشعور جماعيا، أتى على صغارهم كما ملأ قلوب كبارهم.

وأراد الله تعالى لبعض صبية الأنصار أن يشفوا قلب النبي ? من فرعون هذه الأمة أبي جهل بن هشام، وأراد الله -سبحانه- أن يذل أبا جهل وهو القائد المستكبر المتجبر بأن يكون حتفه على أيدي غلامين من الأنصار، وتأملوا -رحمكم الله تعالى- ما فعل الإيمان بقلوب الصبية حتى يبحثوا عن القائد المهاب المتجبر لمنازلته، فيذله الله تعالى على أيديهم، أَوَليس هذا أثرَ الإيمان، وبرهانا من براهين التضحية والفداء للإسلام؟! بلى والله! إن الأمر لكذلك.

روى البخاري ومسلم من حديث عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- قال: بينا أنا واقف في الصف يوم بدر فنظرت عن يميني وشمالي فإذا أنا بغلامين من الأنصار حديثة أسنانهما، تمنيت أن أكون بين أضلع منهما، فغمزني أحدهما فقال: يا عم، هل تعرف أبا جهل؟ قلت: نعم، ما حاجتك إليه يا ابن أخي؟.

قال: أُخبرت أنه يَسبُّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والذي نفسي بيده! لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا، فتعجبت لذلك، فغمزني الآخر فقال لي مثلها، فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس، قلت: ألا إن هذا صاحبكما الذي سألتماني، فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه.

ثم انصرفا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبراه، فقال: "أيكما قتله؟" قال كل واحد منهما: أنا قتلته، فقال: "هل مسحتما سيفيكما؟" قالا: لا، فنظر في السيفين فقال: "كلاكما قتله"، سلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح، وكانا معاذ بن عفراء ومعاذ بن عمرو بن الجموح.

وقد حكى معاذ بن عمرو بن الجموح -رضي الله عنه- كيفية قتله لعدو الله أبي جهل فقال: سمعت القوم وأبو جهل في مثل الحَرَجَة -والحرجة هي الشجرة بين الشجر لا يوصل إليها من منعتها- وهم يقولون: أبو الحكم لا يُخلص إليه، فلما سمعتها جعلته من شأني فصمدت نحوه فلما أمكنني حملت عليه فضربته ضربة أطنت قدمه بنصف ساقه، فوالله ما شبهتها حين طاحت إلا النواة تطيح من تحت مُرَضِّخَةِ النوى حين يُضرب بها.

قال: وضربني ابنه عكرمة على عاتقي فطرح يدي فتعلقت بجلدة من جنبي وأجهضني القتال عنه، فلقد قاتلت عامة يومي وإني لأسحبها خلفي، فلما آذتني جعلت عليها رجلي ثم تمطيت بها حتى طرحتها. وعاش معاذ -رضي الله عنه- بلا يد ولا ذراع إلى زمن عثمان بن عفان -رضي الله عنه-.

وإنها لآية عجيبة، وشجاعة نادرة، أن يكمل القتال ويده مقطوعة، ثم يطؤها بقدمه ليتخلص منها لما آذته؛ ولا يمكن ذلك لأحد لولا معونة الله تعالى وتثبيته وتأييده له، وقد بهر هذا الموقف الحافظ الذهبي -رحمه الله تعالى- فقال بعد أن أورد القصة: هذه والله الشجاعة، لا كآخر من خدش بسهم ينقطع قلبه وتخور قواه.

ومن شباب الأنصار من ضحى في هذه الغزوة المباركة بنفسه فداء لله تعالى ولدينه؛ فكان الجزاء الفردوس الأعلى من الجنة، روى أنس -رضي الله عنه- فقال: أصيب حارثة يوم بدر وهو غلام فجاءت أمه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله، قد عرفت منزلة حارثة مني فإن يك في الجنة أصبر وأحتسب، وإن تكن الأخرى ترى ما أصنع، فقال: "ويحك! أَوَهَبَلتِ؟ أوَجَنَّة واحدة هي؟! إنها جنان كثيرة، وإنه لفي جنة الفردوس" رواه البخاري.

أيها الإخوة: هذه بعض من تضحيات القوم في أول فرقان بين الحق والباطل، وما اصطفاهم الله تعالى من بين العالمين لصحبة أفضل خلقه، وخاتم رسله؛ إلا وهم هم إيمانا ويقينا بالله تعالى، وتوكلا عليه، وإنابة إليه، ورضا به عما سواه، فرضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.

وإننا إذ لم نحز فضلهم فقد سبقونا بإسلامهم وهجرتهم وجهادهم وصحبتهم للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فإننا نسأل الله تعالى أن يلحقنا بهم جزاء محبتنا لهم، والمرء مع من أحب كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-?.

ونشهد الله تعالى وملائكته والمؤمنين أنا نحبهم في الله تعالى، ونبرأ ممن تبرأ منهم، ونلعن من لعنهم، ونبغض من أبغضهم كائنا من كان، وكفى بالله تعالى شهيدا.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ) [التوبة:100]. بارك الله لي ولكم...

 

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، ولا أمْن إلا للمؤمنين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله النبي الأمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى -أيها المسلمون- وأطيعوه، واحذروا نقمته فلا تعصوه، وخذوا من صحتكم لسقمكم، ومن شبابكم لهرمكم، ومن فراغكم لشغلكم، ومن حياتكم لموتكم، واعلموا أن الأجل قريب، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث مَن في القبور.

أيها المؤمنون: كانت غزوة بدر محدودة في مكانها وزمانها؛ إذلم تتعد موقع بدر، ولا جاوز زمنها ضحوة من النهار ثم انتهت، والجيشان المتقابلان قليلا العدد والعدة، والقتلى والأسرى قليل أيضا، وقد سبقها معارك في الجاهلية دامت سنوات طويلة، وأفنت قبائل كاملة، ووقع بعدها معارك في تاريخ الإسلام لا تحصى هي أعتى منها، ومع ذلك حظيت بدر بما لم تحظ به معركة قبلها ولا بعدها؛ فأهل بدر مغفور لهم، "وما يدريك؟! لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت" رواه الشيخان.

وأهل بدر من الصحابة خيار أهل الأرض، كما أن أهل بدر من الملائكة هم خيار أهل السماء.

وذات مرة أمر النبي ? نفرا بالقيام ليجلس الذين وردوا من أهل بدر في أماكنهم، وفي العطاء فضَّل عمر -رضي الله عنه- البدريين على غيرهم، وأعظم منقبة يصدرها مَن كتبوا عن الصحابة رضي الله عنهم: النص على أن المترجم له بدري.

فلماذا كل هذا الاحتفاء بمن شهدوا هذه الغزوة، وقد أتى بعدها غزوات أكبر منها في العدة والعتاد، وشدة القتال؟!.

إن سبب ذلك كونها فرقانا بين الحق والباطل، وقد سماها الله تعالى فرقانا؛ فما انكسر الشرك إلا فيها، ولا ولد النفاق إلا بعدها، ولا عَزَّ الإسلام إلا بها، كيف ورسول الله -صلى الله عليه وسلم-? يقول في مناشدته لربه: "اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض"، فعَزَّ بها الإسلام، فهو عزيز ظاهر إلى آخر الزمان.

إن الدعوات الإصلاحية في بدايات ظهورها تكون ضعيفة مستضامة، لا ينتظم في سلكها، ولا يضحي من أجلها إلا أهل القناعة بها، الصادقون لها، المتفانون في سبيلها، ومن هنا اكتسب أهل بدر هذه الخصوصية على من سواهم ممن شهدوا المشاهد كلها غيرها، فهي راجحة بها.

وإذا ما انتشرت الدعوة، وعظم أمرها، وقوي أنصارها كثر أتباعها، فاختلط صادقهم بكاذبهم، وقويهم بِخائرهم، ولا بد حينئذ من المـــُمَحِّصات التي تميز الخبيث من الطيب، وأعظم ابتلاء وتمحيص وقع في هذه الأمة كان في بدر الكبرى، فاستحقَّتْ ما استحقَّتْ على غيرها من المشاهد.

وفي عصرنا هذا تعصف بالأمة المسلمة محن شديدة، وابتلاءات ممحصة، يظهر فيها الناجي من الهالك، والمؤمن من المنافق، والثابت من الناكص، والصادق من الكاذب، ابتلاءات ينجو فيها من ينجو، ويغرق في لجتها من يغرق.

ومع شدة هذه الابتلاءات رأينا فيما رأينا تحولات من الغلو إلى الإلحاد، ومن اليقين إلى الشك، ومن التشدد إلى التفلت، ومن السنة إلى البدعة؛ ورأينا انتقالات من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وشاهدنا ثوابت زعزعت من بعض القلوب المريضة، ومُسَلَّمات أضحت محل نظر عند المفتونين، ولا عاصم إلا من عصمه الله تعالى.

فلوذوا بالله العظيم، واستعينوا به، وأنيبوا إليه، واستمسكوا بدينكم ولو رأيتم ما رأيتم من تجبر المشركين، وتسلط الملحدين، واستهزاء المستهزئين؛ فإنكم والله على الحق المبين! وما عظم أذاهم على أهل الإسلام، واستهزأوا بشعائره، ودنسوا كتابه، وشتموا نبيه، إلا لأن المسلمين يملكون حقا هو أقوى من باطلهم، فإياكم أن تتخلوا عما رزقكم الله تعالى من الحق واليقين إلى باطلهم المهين! وما ظفر أهل بدر بما ظفروا إلا بثباتهم على الحق وهم قليل، فاثبتوا -رحمكم الله تعالى- كما ثبتوا؛ فإنكم كثير.

وإن من أعظم ما يعين على ثبات القلب وقوته كثرة العبادة والذكر والدعاء، وأنتم مقبلون على عَشْرٍ مباركات كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخلو فيها بربه، معتكفاً في مسجده -عليه الصلاة والسلام-، ويجتهد فيها ما لا يجتهد في غيرها؛ كما قالت عائشة -رضي الله عنها-: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهلَه.

فأروا الله تعالى من أنفسكم خيراً، وأكثروا من الأعمال الصالحة، فإنما يُنال عون الله تعالى ومدده بذكره وشكره وحسن عبادته.

وصلُّوا وسلِّموا على نبيكم...

 

 

 

المرفقات

بدر (3) البطولات والتضحيات1

بدر (3) البطولات والتضحيات - مشكولة

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات