سورة الرعد

مسفر بن سعيد بن محمد الزهراني

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/ تناوُل سورة الرعد قضايا الإيمان والتوحيد 2/ استعراض لمحتواها 2/ شرح لمعاني آيات منها

اقتباس

ابتدأت السورة الكريمة بالقضية الكبرى، قضية الإيمان بوجود الله ووحدانيته، فمع سطوع الحق ووضوحه كذب المشركون بالقرآن، وجحدوا وحدانية الرحمن، فجاءت الآيات تقرر كمال قدرة الله تعالى، وعجيب خلقه في السماوات والأرض والشمس والقمر والليل والنهار والزروع والثمار، وسائر ما خلق الله سبحانه في هذا الكون الفسيح البديع ..

 

 

 

 

 

الحمد لله الذي رفع السماوات بلا عمد ترونها، وهو الذي مَدَّ الأرضَ بقدرته، أحمده سبحانه وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله، -صلى الله عليه وسلم- وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

فيا عباد الله: امتنَّ اللهُ على رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- بالعبودية والرسالة، وأنزل عليه القرآن الكريم المعجز في فصاحته وبيانه، وفي كل ما جاء به، ولنا وقفة خاصة اليوم -بإذن الله تعالى- مع سورة الرعد، السورة الثالثة عشر في ترتيب المصحف الشريف، وآياتها ثلاث وأربعون آية، وهي سورة مدنية، تناولت المقاصد الأساسية للسور المدنية.

ابتدأت السورة الكريمة بالقضية الكبرى، قضية الإيمان بوجود الله ووحدانيته، فمع سطوع الحق ووضوحه كذب المشركون بالقرآن، وجحدوا وحدانية الرحمن، فجاءت الآيات تقرر كمال قدرة الله تعالى، وعجيب خلقه في السماوات والأرض والشمس والقمر والليل والنهار والزروع والثمار، وسائر ما خلق الله سبحانه في هذا الكون الفسيح البديع.

(المر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ * اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ * وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [الرعد:1-4].

فالله سبحانه هو الذي خلق السماوات مرتفعة البناء بغير دعائم تشاهدونها، ثم علا فوق العرش عُلُوَّاً يليق بجلاله، من غير تجسيم ولا تكييف ولا تعطيل، وذلَّل الشمس والقمر لمصالح العباد، يصرف بحكمته وقدرته أمور، الخلق ويبين الآيات ويوضحها لتصدقوا بلقاء الله، وتوقنوا بالمعاد إليه.

وهو سبحانه الذي بسط الأرض، وجعل فيها جبالا ثوابت لئلا تضطرب، وجعل فيها الأنهار الجاريات، وجعل فيها من جميع أنواع الثمرات زوجين اثنين ذكراً وأنثى ليتم بينهما أسباب الإخصاب والتكاثر وفق سنته الحكيمة، يلبس الليل النهار فيصير الجو مظلماً بعد أن كان مضيئاً، كل هذه علامات لمن تأمل وتفكر في صنع الله العجيب.

وفي الأرض بقاع مختلفة متلاصقات قريب بعضها من بعض، أرض طيبة وأرض سبخة، تنبت هذه وهذه، إلى جانبها لا تنبت، وبساتين كثيرة من أشجار العنب، في هذه القطع المتجاورة أنواع الزروع والحبوب والنخيل والرطب، والكل يُسقَى بماء واحد، والتربة واحدة؛ ولكن الثمار مختلفات، الطعوم بعضها حلو وبعضها حامض، وبعضها أفضل من بعض، مع اجتماعها جميعاً على شرب واحد، وفي هذه علامات باهرة ظاهرة لمن عقل وتدبر، وفي ذلك رد على القائلين بالطبيعة.

ثم تلتها الآيات في إثبات البعث والجزاء، ثم بعد ذلك الأدلة الساطعة القاطعة على انفراد الله -عز وجل- بالخلق والإيجاد، والإحياء والإماتة، والنفع والضر؛ وضرَب القرآنُ مثلَيْن للحق والباطل، أحدهما في الماء ينزل من السماء فتسيل به الأودية والشعاب ثم يجرف في طريقة الغثاء فيطفو على وجهه الزبد الذي لا فائدة فيه؛ والثاني في المعادن التي تذاب لتصاغ منها الأواني وبعض الحلية، كالذهب والفضة، وما يعلو هذه المعادن من الزبد والخبث الذي لا يلبث أن يذهب جفاء ويضمحل ويتلاشى، ويبقى المعدن النقي الصافي.

قال تعالى: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ) [17]، أي: ما ينتفع به الناس من الماء الصافي والمعدن الخالص فيبقى في الأرض ويثبت، مثل الحق، وأما الجفاء والغثاء فيذهب ولا يبقى مثل الباطل، فالباطل يطفو ويعلو ويبدو رابياً منتفخاً، ولا يلبث أن يذهب جُفاءً مطروحاً لا حقيقة له ولا تماسك، أما الحق فيظل هادئاً ساكناً؛ ولكنه الباقي في الأرض، كالماء المحيي، وكالمعدن النفيس.

وذكرت السورة أوصاف أهل السعادة وأهل الشقاوة، وضربت لهم المثل بالأعمى والبصير، وبينت مصير كل من الفريقين: (لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) [18-19]، أي: العقول السليمة.

وعدَّدَ صفاتِهم: (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ) [20]، أي: يتمون عهد الله الذي وصاهم به، وهي أوامره ونواهيه التي كلف بها العباد، ولا يخالفون ما وثقوه على أنفسهم من العهود المؤكدة بينهم وبين العباد.

(وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ) [21]، أي: يصلون الأرحام التي أمر الله بصلتها، ويهابون ربهم إجلالاً وتعظيماً، ويخافون الحساب السيئ المؤدي إلى النار.

(وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) [22]، أي: صبروا على المكاره؛ طلباً لمرضاة الله، وأدوا الصلاة المفروضة في أوقاتها، وأنفقوا بعض أموالهم التي أوجبها الله عليهم في الخفاء والعلانية، ويدفعون الجهل بالحلم، والأذى بالصبر، أولئك لهم العاقبة المحمودة في الآخرة، وهي الجنة.

وقد جاء تفسيرها في قوله تعالى: (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) [23-24]، ولما ذكرت أوصاف المؤمنين التسع وهي الوفاء بعهد الله، وعدم نقض الميثاق، ووصل ما أمر الله به أن يوصل، والخشية من الله، والخوف من سوء الحساب، والصبر ابتغاء وجه الله، وإقامة الصلاة، والإنفاق مما رزقهم الله، ودفع السيئة بالحسنة، أعقبه بذكر أوصاف الكافرين الذميمة.

فقال الله تعالى: (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ)، أي: الموصوفون بما ذكر من القبائح لهم البعد من رحمة الله، والطرد من جنته، ولهم ما يسوءهم في الآخرة، وهو عذاب جهنم، على عكس المتقين.

وقال تعالى: (اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ) [26]، أي: يوسع الله على من يشاء من عباده، ويضيق على من يشاء، حسب الحكمة والمصلحة؛ وفرح هؤلاء المشركون بنعيم الدنيا فرحَ أشر وبطر مع حقارتها، وما الحياة الدنيا إلا قليل وشيء حقير بالنظر إلى الآخرة.

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ) [27]، أي: معجزة تتنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم-، من ربه (مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ) [27]، أي: قل يا محمد إن الأمر بيد الله وليس بيدي، يضل من يشاء إضلاله فلا تغني عنه الآيات والنذر شيئاً، ويرشد إلى دينه مَن أراد هدايته، لأنه رجع إلى ربه بالتوبة والإنابة.

(الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [28]، أي: يهدي أهل الإنابة، وهم الذين آمنوا، وتسكن وتستأنس قلوبهم بذكر الله وتوحيده، ألا فانتبهوا أيها القوم! فإنه بذكر الله تستأنس وتسكن قلوب المؤمنين فلا يشعرون بقلق واضطراب من سوء العقاب، على عكس الذين إذا ذكر الله اشمأزت قلوبهم.

(الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآَبٍ) [29]، أي: أما المؤمنون أهل الأعمال الصالحة فقرة عين لهم وفرح ونعيم ما يلقون من الهناء والسعادة في المرجع والمنقلب إلى الله -عز وجل-.

ثم قال الله تعالى لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-: (كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ) [30]، أي: كما أرسلنا الأنبياء من قبلك يا محمد في أمة قد مضت قبلها أمم كثيرة فهي آخر الأمم، وأنت خاتم الأنبياء، والحال أنهم يكفرون بالرحمن الذي وسع كل شيء علماً، فقل يا محمد لهؤلاء المشركين إن الرحمن الذي كفرتم به هو ربي الذي آمنتُ به، لا معبود لي سواه، عليه وحده اعتمدت، وإليه توبتي ومرجعي، فيثبتني على مجاهدتكم.

ثم تمضي السورة الكريمة في بيان إعجاز القرآن الكريم، وتكذيب الأمم لرسلهم؛ تسلية للرسول -صلى الله عليه وسلم-، وبيان عِقاب للكفار والأشقياء، وما أعد لهم من عذاب الله في الدنيا والآخرة؛ وتعقب ذلك ببيان الجنة التي أعدها الله سبحانه وتعالى لعباده المتقين، وما فيها من النعيم المقيم، وتبين حال أهل الكتاب مع ما جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم-، فمنهم من فرح به كعبد الله بن سلام وغيره، ومنهم من أنكر بعضه من المتحزبين من أهل الملل مع يقينهم بصدقه.

وبينت السورةُ ما هو المطلوب من محمد -صلى الله عليه وسلم-: (قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآَبِ) [36]، وتوضح السورة عظمة القرآن: (وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ) [37]، أي: ليس لك ناصر ينصرك أو يقيك من عذاب الله، والمقصود: تحذير الأمة من اتباع أهواء الناس؛ لأن المعصوم محمد -صلى الله عليه وسلم- إذا خوطب بذلك كان الغرض تحذير الناس.

عباد الله: هذه بعض المعاني لبعض آيات سورة الرعد، وللحديث بقية في الخطبة الثانية إن شاء الله، نفعني الله وإياكم بها وبهدي كتابه وسنة رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم-، أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، القائل: (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ) [13].

وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وعلى آله وصحبه ومن والاه واتبع هداه إلى يوم الدين.

أما بعد: عباد الله: استكمالا للحديث عن سورة الرعد نقول، وبالله التوفيق، إنها سميت سورة الرعد لتلك الظاهرة الكونية العجيبة التي تتجلى فيها قدرة الله وسلطانه، فالماء سببٌ للحياة أنزله الله سبحانه بقدرته من السحاب، والسحاب جمع الله فيه بين الرحمة والعذاب، فهو يحمل المطر، ويحمل الصواعق، وفي الماء الإحياء، وفي الصواعق الإفناء، وجمْع النقيضين من العجائب، كما قال القائل:
جَمْعُ النَّقِيضَيْنِ مِنْ أَسْرَارِ قُدْرَتِهِ *** هذا السَّحَابُ بِهِ مَاءٌ بِهِ نَارُ

فما أجَلَّ وأعظم قدرةَ الله! (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ) [12]، أي يريكم أيها الناس البرق الخاطف من خلال السحاب، قال ابن عباس: -رضي الله عنهما- خوفا من الصواعق، وطمعاً في الغيث. فإن البرق غالباً ما يعقبه صواعق مدمرة، وقد يكون وراءه المطر المدرار الذي به حياة البلاد والعباد. وبقدرته سبحانه يخلق السحب الكثيفة المحملة بالماء الكثير.

قال تعالى: (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ) [13]، أي: يسبح الرعد لله تسبيحاً مقترناً بحمده والثناء عليه، وتسبح له الملائكة خوفاً من عذابه، (وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ) [13]، أي: يرسل الصواعق المدمرة نقمة يهلك بها من يشاء، (وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ) [13]، أي: يجادل كفار مكة في وجود الله ووحدانيته وقدرته وهو تعالى شديد القوة والبطش والنكال، القادر على الانتقام ممن عصاه.

(لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ) [14]، أي: لله تتجه الدعوة الحق، فهو الحقيق بأن يعبد وحده بالدعاء، أما الالتجاء لغيره أو إلى الآلهة التي يدعوها الكفار من دون الله فهم لا يستجيبون لهم دعاء، ولا يسمعون لهم نداء، إلا كمَن يبسط كفيه للماء من بعيد يدعوه ويناديه ليصل الماء إلى فيه، والماء جماد لا يحس ولا يسمع، وما دعاؤهم والتجاؤهم لآلهتهم إلا في ضياع وخسارة؛ لأنه لا يجدي ولا يفيد.

قال أبو السعود: شبَّهَ اللهُ سبحانه حال المشركين في عدم حصولهم عند دعاء آلهتهم على شيء أصلاً كحال من كان عطشانَ هائما لا يدري ما يفعل، قد بسط كفيه من بعيد إلى الماء يبغي وصوله إلى فمه، وليس الماء يبالغٍ فمه أبداً؛ لكونه جماداً لا يشعر بعطشه.

(وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ) [15]، أي: ولله وحده يخضع وينقاد أهل السماوات وأهل الأرض طائعين وكارهين، قيل المؤمن يسجد طوعاً والكافر يسجد كرها، أي في حالة الفزع والاضطرار، وتسجد ظلالهم أيضا لله تعالى في أول النهار وآخره، والغرض الإخبار عن عظمة الله وسلطانه الذي قهر كل شيء، ودان له كل شيء، بأنه ينقاد لجلاله جميع الكائنات، حتى ظلال الآدميين، والكل في خضوع واستسلام لأمر الله تعالى.

عباد الله: هذا ما استطعنا أن نوضحه من معاني سورة الرعد، وأسأل الله أن نكون ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، وأن نكون من المعتبرين والمتعظين الساجدين لله طوعاً لا كراهية، وأن يوفقنا لما يحب ويرضى، إنه سميع قريب مجيب الدعاء.

وصلوا وسلموا عباد الله على خاتم رسل الله نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.

 

 

 

 

 

 

 

 

المرفقات

الرعد

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات