العزيمة والرخصة والخلاف (3) منهج السلف في فهم النصوص

عبد العزيز بن عبد الله السويدان

2022-10-04 - 1444/03/08
عناصر الخطبة
1/ الدعوة المنكرة لبناء فقه عصري جديد 2/ بيان ثبات الشريعة وتغير الأحكام بتغير العلل 3/ صلاح الشريعة لكل زمان ومكان 4/ منهج السلف إزاء المتغيرات الزمانية والمكانية 5/ مناقشة نصوص يستدل بها العصرانيون على صحة منهجهم

اقتباس

وقف الحديث قبل أسبوعين مَضَيَا عند أهمية بيان منهج السلف الصالح في فهم النصوص والتدين، والتعامل مع أدِلَّةِ الكتاب والسُّنَّة، ذلك المنهج الذي وصَّى النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أمته باتِّباعه، والتمسُّك به، والعضّ عليه بالنواجذ؛ لأنه إذا ما طال الزمان وحدث الاختلاف والتغيير والانحراف فهو السبيل الوحيد للنجاة والفلاح ..

 

 

 

 

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1].

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

وقف الحديث قبل أسبوعين مَضَيَا عند أهمية بيان منهج السلف الصالح في فهم النصوص والتدين، والتعامل مع أدِلَّةِ الكتاب والسُّنَّة، ذلك المنهج الذي وصَّى النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أمته باتِّباعه، والتمسُّك به، والعضّ عليه بالنواجذ؛ لأنه إذا ما طال الزمان وحدث الاختلاف والتغيير والانحراف فهو السبيل الوحيد للنجاة والفلاح.

وقف الحديث -أيها الإخوة- عند أهمية بيان منهج السلف الصالح هذا في ظل ما نشهده من شبهات فكرية ومنهجية، وسلوكيات غريبة، وتنازلات مخيفة عمَّا عهدناه في مجتمعنا من عفاف وحياء، وحرص على الطاعة، واحترام للعلماء.

وفي ظل ما نسمعه أيضا من آراء وأقوال تنادي بالتجديد وإعادة فهم نصوص الكتاب والسنة فهما حديثاً، وتنادي بمراجعة فتاوى كبار أهل العلم بما في ذلك فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم وبن باز وبن عثيمين -رحمهم الله-، فتاواهم فيما يتعلق بالمرأة والتعامل مع أهل البدع والملل الأخرى وموضوع الولاء والبراء وقضايا الحقوق والمساواة ومسألة حكم الردة.

بل وتنادي ببناء فقه جديد يواكب العصر، ويقترب من المفهوم الغربي للحقوق والقيم والأعراف العامة، وهؤلاء في نهاية الأمر يريدون تغيير الشريعة، وتعديلها بحيث تناسب أفكارهم ومبادئهم، والله تعالى يقول (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ) [المائدة:49].

وقد قلنا حينها إن شريعة الله ثابتة لا تتغير، والأحكام إنما تبنى على العلل، العلل هي الأسباب الشرعية الباعثة للحكم، هي الأوصاف والهيئات والظروف التي بسببها يحكم على المسألة، إذا تغيرت هذه العلل تغيرت الأحكام تباعاً، وأُعيدُ مؤكِّداً أن الأحكام تتغير بتغير العلل التي تبنى عليها، هناك فتنةٌ فالحكم ثابت، هناك فساد فالحكم ثابت.

مثلا: حفظ العقل ضرورة ومقصد من مقاصد الإسلام، فمِن أجل الحفاظ على العقل، ومنع ما يؤدي إلى زواله، وما يترتب على زواله من مفاسدَ، حرَّمت الشريعة جميع ما يؤدي إلى زوال العقل، فقد صح عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ"، فالإسكار يُزِيلُ العقل الذي حرص الإسلام على حفظه، إذن فالإسكار هو علة تحريم الخمر، ولا تؤثر في التحريم قوة الإسكار ولا ضعفه، فإن الخمر إن لم تسكر في بعض الأحوال لأسباب ما، فهذا لا ينافي أن هذا من شأنه الإسكار.

ولأن الخمر حُرمت من أجل الإسكار، فأيّ مشروب أو طعام أو مستنشَق يؤدي إلى الإسكار أو إلى زوال العقل فهو حرام، مهما تغير اسمه عبر السنين، فإذا نزعت منه مادة الإسكار التي هي علة التحريم، حَلَّ شُرْبُهُ.

فالشريعة ثابتة، والأحكام كذلك ثابتة لا تتغير ما ثبتت العلل، فإذا تغيرت العلل تغيرت الأحكام، وبالتالي فإن الأحكام لا تتغير بمجرد تغير الزمان أو المكان، أو لمواكبة العصر، أو من أجل الأهواء والشهوات كما يريد إثباتَه العصريُّون والمرجفون، لا، الحكم الشرعي في مسألةٍ ما، سواءً كان حلالاً أو حراماً لا يدور مع الهوا، وإنما يدور مع عِلَّتِه، مع سببه الشرعي وجوداً وعدماً.

ولأن العلل الشرعية ثابتة فشريعة الله ثابتة ما طال الزمان إلى نهايته، والدليل على ثبات الشريعة قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ) [المائدة:3]، وقوله تعالى: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [الجاثية:18].

وقد بيَّنَ ابنُ تيمية -رحمه الله- أن من يجيز النسخ بعد موت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في إلغاء حكم شرعي ورد في آية أو حديث، وإحلال حكم آخر محله – هذا هو النسخ-، فمن جوَّز النسخ بعد موت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو يجوِّز تبديل المسلمين دينهم بعد نبيهم، كما تقول النصارى إن المسيح سوغ لعلمائهم أن يحرموا ما رأوا تحريمه مصلحةً ويُحلوا ما رأوا تحليله مصلحة، وليس هذا دين المسلمين.

والإمام الشاطبي، عالم الأصول، يقول في بيانه لثبات الأحكام الشرعية وعدم تغييرها: ولذلك لا تجد فيها -أي الأحكام الشريعة- بعد كمالها نسخاً، ولا تخصيصاً لعمومها، ولا تقييداً لإطلاقها، ولا رفعاً لحكم من أحكامها، لا بحسب عموم المكلفين، ولا بحسب خصوص بعضهم، ولا بحسب زمان دون زمان، ولا حال دون حال، بل أثبت سبب فهو سبب أبداً لا يرتفع، وما كان شرطاً فهو أبداً شرط، وما كان واجباً فهو واجب أبداً، أو مندوباً فمندوب، وهكذا... جميع الأحكام لا زوال لها، ولا تتبدل.

الشريعة -أيها الإخوة- صالحةٌ لكلِّ زمانٍ ومكانٍ، كيف لا، وهي من لطيف خبير، علم ما كان وما يكون، وعلم ما لم يكن لو كان كيف سيكون، القائل -جلَّ وعلا-: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك:14]، والقائل سبحانه: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) [النحل:89]، والقائل سبحانه: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام:38].

وقال الإمام الشافعي -رحمه الله-: فليست تنزل بأحَدٍ من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى. وأهل الأهواء والتحريف إنما يدخلون شبهتهم من مقالة: لا يُنْكَر اختلافُ الفتاوى باختلاف الزمان والمكان. فيقولون: الآن الدنيا تغيرت، فلابد من استبدال الأحكام القديمة بأخرى جديدة، والفتاوى القديمة بفتاوى عصرية مناسبة، هذا ما يقولون.

وفي هذا الاستنتاج مغالطة، فالأحكام التي تتغير في تغير الأزمان هي الأحكام المستندة إلى العرف والعادة، كضرب النقود، واتخاذ السجون، والأعراف السائدة فيما يتعلق بشروط شراء الأبنية وتأجيرها، وما يتعلق بمعاني ألفاظ السوق والبيع والشراء التي من طبيعتها أنها تتغير عبر الزمان، وما شابه ذلك مما يُرجَع فيه إلى العرف السائد.

أما الأحكام المستندة على الأدلة الشرعية التي لم تُبْنَ على العرف والعادة وإنما بنيت على نصوص القرآن والسنة الأصلية الآمرة والناهية كأحكام الولاء والبراء، كحرمة الظلم، كحرمة الربا والزنا، حرمة شرب الخمر والسرقة، حرمة سفر المرأة بلا محرم، حرمة الاختلاط المقصود، وكوجوب التراضي في العقد، ووجوب بر الوالدين، ووجوب حجاب المرأة، ووجوب حماية الحقوق، وما شابهها من أحكام، فإنها لا تتغير ولا تتبدل بتبدل الزمان، ثابتة؛ بل هي أصول جاءت بها الشريعة لإصلاح الزمان والأجيال حتى قيام الساعة، فلا مجال لتغييرها أو تبديلها إلا أن ينخلع الإنسان من دينه. عافانا الله وإياكم.

أيها المسلمون: ما هو منهج السلف الصالح أمام هذه المتغيرات؟ لعلنا في طريقنا لإيضاح المنهج أن نعرض لحديثين ومقالة، يستخدمهم التنويريون والعصريون لإقناع الناس بمنهجهم المترهِّل، أما الحديثان، فحديث: "ما خُيِّرَ بين أمرين إلا اختار أيسرهما"، وحديث: "استفتِ قلبك"، وأما المقالة: "اختلاف أمتي رحمة".

أما الحديث الأول ففي صحيح البخاري ومسلم عن عروة، عن عائشة رضي الله عنهما قالت: ما خُيِّر النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بين أمرين إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه. طبعا هم لا يأتون ببقية الحديث، فهم لا يذكرون إلا أوله: ما خير بين أمرين إلا اختار أيسره. فقط.

طيب، أين قولها: ما لم يكن إثماً فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه؟ هذه البقية لا يذكرونها، ثم يقولون: انظروا كيف يسهل النبي -صلى الله عليه وسلم- على المسلمين، دائما يختار الأسهل والأيسر، وبالتالي فإن اليسر هو معيار اختيارنا للفتوى، اليسر هو معيار اختيارنا للفتوى بكلام النبي -صلى الله عليه وسلم- يقولون! وهي شبهة مشهورة يوردونها وتنطلي على الكثيرين، ولهذا لزم البيان.

معاشر الإخوة: إن المراد بقوله -صلى الله عليه وسلم- أو بقولها -رضي الله عنها-: ما خير بين أمرين. أي أمرين من أمور الدنيا التي ليس للشرع فيها أمر أو نهي، مثل أن يخير بين أن يحج ماشياً أو على ظهر دابة فيختار الدابة لأنها الأيسر، يسلك طريقاً وعراً أو سهلاً فيختار السهل، يواصل المسير مع مشقة أو يستريح يختار الاستراحة، هكذا. يقول ابن التين: المراد بقولها ما خُيِّر بين أمرين... التخيير في أمر الدنيا.

ويقول الحافظ بن حجر في فتح الباري: قوله بين أمرين أي من أمور الدنيا، يدل عليه قوله ما لم يكن إثماً؛ لأن أمور الدين لا إثم فيها، أي أن الإثم إنما يكون في أمور الدنيا ولا يكون في أمور الدين، وهل يأمر الإسلام بإثم؟ لا يمكن! ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، هل يأمر الدين بإثم؟ أبداً! قال: وقولها: ما لم يكن إثماً، أي: ما لم يكن الأسهل مقتضياً للإثم؛ فإنه حينئذٍ يختار الأشدّ.

وفي حديث أنس عند الطبراني في الأوسط: إلا اختار أيسرهما ما لم يكن لله فيه سخط. وهذا التيسير المذكور في الحديث هو تيسير جارٍ على وفق الشرع لا وفق الأهواء، إذ لو كان كذلك لما كان سمة تكليف أصلا، فإن التكليف الشرعي يخالف الأهواء، ولابد أن يكون فيه نوع مشقة تكرهها النصوص، وتبتلى بها، ولذلك قال -صلى الله عليه وسلم-: "حُفَّت الجنَّةُ بالمكاره" رواه مسلم. ولولا وجود المشقة لما أمرنا الله بالصبر والمصابرة، (اصْبِرُوا وَصَابِرُوا) [آل عمران:200]، ولما خفَّف عنَّا بالرُّخَص.

إذن، فانتقاء الفتاوى والآراء الفقهية اليسيرة بالتشهي بناء على هوى النفس ليس مقصوداً في الحديث، بل مقصود الحديث أن لا يشق المسلم على نفسه في حياته، ظناً أن قصد اختيار المشقة في الحياة محمود، ومراد في الإسلام، وليس الأمر كذلك، فديننا ليس دين مشقة بل هو دين السماحة والسهولة واليسير. غفر الله لي ولكم أجمعين إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من سار على نهجه واستنَّ بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد: فالحديث الثاني الذي يحتجون به حديث: "استفتِ قلبك"، يقول أحدهم بكل بساطة: أنا أنظر في الفتاوى المعروضة ثم أستفتي قلبي في الفتاوى المناسبة! وأنا أقول: ما الداعي أن تنظر في الفتاوى أصلا يا أخي ما دام قلبك هو الذي يفتيك؟ اسأله مباشرة. لا تنظر في الفتاوى!.

أيها الإخوة: لعلي أذكر لكم أصل حديث: "استفتِ قلبك"، هذا الذي أصبح ملاذاً للمستهترين، الصحابي الجليل وابصة بن معبد الجهني، وهو من أهل الصُّفَّة، كان رجلاً ورعاً رقيقَ القلب، يخاف الحرام، يجالس الفقراء، يقول: أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا أريد ألا أدع شيئاً من البر والإثم إلا سألته عنه، فجعلت أتخطى -أي الرقاب-، فقال من كان حول النبي -صلى الله عليه وسلم-: إليك يا وابصة عن رسول الله! فقال: دعوني أدنو منه، فإنه مِن أحب الناس إليَّ أن أدنو منه.

فقال لي-يعني الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "ادن يا وابصة، ادن يا وابصة"، فدنوت منه، حتى مست ركبتي ركبته، فقال: "يا وابصة، أخبرك ما جئت تسألني عنه"، فقلت: أخبرني يا رسول الله، قال: "جئتَ تسألني عن البر والإثم"، قلت: نعم. فجمع أصابعه فجعل ينكت بها في صدري ويقول: "يا وابصة، استفت قلبك، استفت نفسك؛ البر ما اطمأن إليه القلب، واطمأنت إليه النفس؛ والإثم ما حاك في النفس، وتردَّد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك". أخرجه أحمد، وهو حديث حسن.

قال الإمام ابن رجب الحنبلي -رحمه الله- في شرح الحديث: "استفتِ قلبك" قال: وهذا إنما يكون إذا كان صاحبه ممن شرح الله صدره للإيمان. اهـ. يعني كان رقيق القلب، ورعاً، هذا بالنسبة للمستفتي. قال: وكان المفتي -يعني الذي يفتيه- يفتي له بمجرد ظن أو ميل إلى هوى من غير دليل شرعي، فأما ما كان من المفتى به دليل شرعي فالواجب على المستفتي الرجوع إليه وإن لم ينشرح له صدره.

فسبب إتيان وابصة للنبي -صلى الله عليه وسلم- هو خوفه من الحرام، يسمع الفتوى فيبقى في صدره حرج منها، فأرشده النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى تتبع أحاسيس قلبه، فهو دليله إلى البعد عن الشبهة أو الإثم، ووابصة أهل لذلك، وليس المقصود كما يظن أولئك أنها فرصة لانتقاء ما يميل إليه القلب من الآراء.

وهذا ما دل عليه أيضا حديث الإمام ابن الجوزي عندما قال: أمكنني تحصيل شيء من الدنيا بنوع من أنواع الرُّخَص، فكنت كلما حصل شيء منه -أي من ذلك الخير من الدنيا- فاتني من قلبي شيء، وتجدد في قلبي ظلمة. يقول: استخدامي للرخص للحصول على الدنيا جعل في قلبي قسوة ووحشة لم أكن أحس بها من قبل.

ثم يقول، وهو الشاهد: فقلتُ يا نفسَ السوء! الإثم حوَّاز القلوب، الإثم يمتلك القلوب، ويحيط بها، وقد قال: أي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "استفت قلبك"، فلا خير في الدنيا كلها إذا كان في القلب من تحصيلها شيء أوْجَبَ نوْعاً من كَدَر، يعني إذا تكدَّر قلبي بسبب الدنيا وأحاطت به الذنوب وقسا، فكيف أستفتيه؟!. والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "استفتِ قلبك"، فكيف أستفتيه وقد أحاطت به الذنوب، هذا هو المعنى. هذا هو معنى "استفتِ قلبك"، وليس هو التشهي والانتقاء حسب الهوى.

معاشر المسلمين: الحديث مهم، ولم نتطرق لموقفنا من الخلاف الفقهي، ومقالة: "خلاف أمتي رحمة"؛ ولذلك نبقي عليه أسبوعاً آخَرَ إن شاء الله.

اللهم احفظنا بحفظك، واحفظ علينا ديننا...

 

 

 

 

 

 

المرفقات

والرخصة والخلاف (3) منهج السلف في فهم النصوص

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات