الصدق

ناصر بن مسفر الزهراني

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/ فضل الصدق 2/ انتفاش الكذب في عصرنا 3/ أنواع الصدق 4/ الصدق سمة النبي الكريم والأنبياء والصالحين 5/ علامات الصدق 6/ دوافع الصدق 7/ ثمرات الصدق

اقتباس

لقد أصبح الصدق معدِنَاً نادراً، وخلقاً غريباً، أهله قلة، وأربابه معدودون، والجولة في هذا الزمن جولة الكذب وأهله، والزيف وحملته، والباطل ومروجيه، كَذِبٌ على? شتى? المستويات، وجميع الطبقات، بل أصبح للكذب الآن منظمات دولية، ومحافل شيطانية، تبني سياساتها على? أساسه، وتنطلق في رؤيتها من أبوابه ..

 

 

 

 

 

 

قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة:119]، الصدق خلق المؤمنين، وعنوان الموحِّدِين، وراية المتَّقين، وهو أساس الدين، وعمود اليقين.

الصدق مرضاة الباري، ومَنجاة المسلم، والهادي إلى الجنة، والمباعد من النار؛ من تحلى به كمل دينه، وزكا قلبه، وصفت نفسه، وعظمت هيبته، وزادت محبته، وفرض احترامه، وحسَّن مقامه.

بالصدق يتميز أهل الإيمان من أهل النفاق، وسكان الجنة من سكان النيران، وهو سيف الله في الأرض الذي ما وضع على شيء إلا قطعه، ولا واجه باطلا إلا صرعه.

الصدق روح الأعمال، ومحك الأحوال، ومقياس التقوى، ودليل المروءة، وبريد العزة، ومضفي الهيبة؛ وهو طريق السعادة، ومجلبة البركة، ورافع الدرجة، ومورث الطمأنينة.

ما أمس حاجتنا إلى عودة صادقة إلى رحاب الصدق! وتزوُّدٍ من مَعِينه، وتطيُّب بطِيبه، وتزين بجماله، خصوصاً في زمن كثر فيه الكذب، وتلاشى الصدق، وامتهن الخداع، وساد المكر، وطغت المراوغة، واستسيغ الغش، وأرعد النفاق، وأزبد الباطل، حتى أصبح الصدق وأهله كالنجوم القليلة في الليل الحالك، والمصابيح الصغيرة في الظلام الدامس.

وإن للباطل انتفاشا، وللكذب بريقا، وللخداع صولات، ولكنه سرعان ما يتلاشى، ولا يلبث أن يتهدم، ولا يبقى إلا الصدق، ولا يسود إلا الحق: (قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) [الإسراء:81].

لقد أصبح الصدق معدِنَاً نادراً، وخلقاً غريباً، أهله قلة، وأربابه معدودون، والجولة في هذا الزمن جولة الكذب وأهله، والزيف وحملته، والباطل ومروجيه، كَذِبٌ على شتى المستويات، وجميع الطبقات، بل أصبح للكذب الآن منظمات دولية، ومحافل شيطانية، تبني سياساتها على أساسه، وتنطلق في رؤيتها من أبوابه.

إن هنالك دولاً أصبحت الآن تقيم سياساتها على الكذب، وتجني هيمنتها على البهتان، وتخادع العالم بالباطل، لقد كذبوا حتى استحيا الكذب منهم؛ وهكذا سرت عدوى الكذب في هذا الزمان إلى كل شيء.

وإن تعامل الناس اليوم مع ربهم أو فيما بينهم قل أن تشم فيه ريح الصدق، أو تجد عبير الحق، ولذلك محقت بركة الأخلاق والأرزاق والأذواق؛ لأن الصدق هو مِلح كل شيء ونكهته، إنه أساس الرفعة في الدنيا، والنجاة في الآخرة: (قَالَ اللهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [المائدة:119].

إن الصدق يكون مع الله ومع النفس ومع الآخرين؛ الصدق مع الله في عبادته، في تحمل أمانته، في اتباع أوامره واجتناب نواهيه، في الدعوة إليه، (فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ) [محمد:21]، (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) [الأحزاب:23-24]. قال أحد السلف: لأن أبيت ليلة أعامل الله بالصدق أحب إلي من أن أضرب بسيفي في سبيل الله. وقال آخر: مَن طلب الله بصدق أعطاه مرآة يبصر فيها الحق والباطل.

الصدق مع النفس بعدم خداعها وإهمال شأنها وترك محاسبتها، كم من الناس من يعرف أنه كاذب مع نفسه ومع ذلك يمضي على غيه، ويغرق في كذبه! ولو أنه وقف مع نفسه وقفة محاسبة صادقة، فعرفها قدرها، وأمسك زمامها، لكان خيرا له وأشد تثبيتا. قال أحد السلف: الصادق لا تراه إلى في فرض يؤديه، أو فضل يعمل فيه.

الصدق مع الناس؛ وهذا ما تحزن له القلوب، وتذرف له الدموع، وتتمزق له النفوس أن ترى المسلمين فيما بينهم يقل مَن يصدق منهم مع إخوانه، بل يتفنن كثير منهم في خداع الآخرين، والكذب على المؤمنين؛ كذب في الوعـود، كذب في العهود، كذب في العقود، كذب في المسؤوليات، كذب في المبايعات، كذب في الأمانات، كذب في الحديث، كذب في العلاقات.

إن الصدق مع الناس يكون بالصدق في النصح لهم، والصدق في حبهم، والصدق في التعامل معهم.

إن هذا الدين قامت أسسه على الصدق، ورتبت أجزاؤه على الصدق، والإيمان أساسه الصدق، والنفاق أساسه الكذب، فلا يجتمع كذب وإيمان إلا وأحدهما محارب للآخَر، هذا عذبٌ فُراتٌ، وهذا ملح أجاج.

إن أصدق الصدق هو كتاب ربنا -جل وعلا-: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا) [النساء:87]، وجاء هذا الكتاب (مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا) [المائدة:48]، وإن النبي الذي اختاره الله تعالى لحمل رسالته هو أصدق إنسان عرفته الدنيا، وتزين به التاريخ، وتعطَّر به الكون؛ بل لقد كان -صلى الله عليه وسلم- منذ صباه ومن قبل مبعثه لابسا تاج الصدق في الجاهلية، فكانوا يسمونه "الصادق الأمين".

وحينما أنزل عليه -صلى الله عليه وسلم- قوله تعالى: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) [الشعراء:214]، جمع قريشاً ثم صعد الصفا وقال لهم: "أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مُصَدِّقِيَّ؟!"، قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقا، قال: "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد" متفق عليه. (وَالَّذي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [الزمر:33].

فكان -صلى الله عليه وسلم- صادق التعامل، صادق الخلق، صادق اللهجة، صادق الخبر، فلما ابتعثه الله تعالى عاش مؤيدا بالصدق الذي لا يعتريه زيف، أو يمازجه كذب، أو يخالطه افتراء، (مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) [النجم:2-4]، فهو الصادق المصدوق، صلى الله عليه وسلم.

ولما كان أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- أسرع الناس إلى تصديقه، وأسبقهم إلى تأييده، سمي بالصديق، فكان تاجا عظيما لا تخفضه الأيام، ولا تزيحه الدهور.

بل إن الصدق هو عنوان الأنبياء جميعا، كيف وهم رسل الصدق وباعثـو أريجه في الناس؟ فكان الصدق والصدِّيقية وسامهم جميعاً:

إبراهيم: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا) [مريم:41].

إسماعيل: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا) [مريم:54].

إدريس: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا) [مريم:56].

مريم: (مَا الْمَسِيحُ بْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) [المائدة:75].

يوسف: (وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) [يوسف:51].

فأعلى مراتب الصدق مرتبة الصديقية، وهي كمال الانقياد للرسول -صلى الله عليه وسلم-، مع كمال الإخلاص للمرسل.

وقد أمر الله تعالى رسوله -صلى الله عليه وسلم- أن يسأله بأن يجعل مدخله ومخرجه على الصدق، فقال تعالى: (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا) [الإسراء:80].

وأخبر عن خليله إبراهيم -عليه السلام- أنه سأله أن يهب له لسان صدق في الآخرين، فقال تعالى: (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) [الشعراء:84]، وبشر عباده بأن لهم عنده قدم صدق، ومقعد صدق. فقال تعالى: (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [يونس:2]، وقال سبحانه: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر:54-55].

فهذه خمسة أشياء: مدخل الصدق، ومخرج الصدق، ولسان الصدق، وقدم الصدق، ومقعد الصدق.

وحقيقة الصدق في هذه الأشياء هو الحق الثابت المتصل بالله، الموصل إلى الله، وهو ما كان به وله من الأقوال والأعمال، وجزاء ذلك في الدنيا والآخرة.

فمدخل الصدق ومخرج الصدق أن يكون دخوله وخروجه حقاً ثابتاً بالله وفي رضاه. وأما لسان الصدق فهو الثناء الحسن عليه من سائر الأمم بالصدق. وأما قدم الصدق فهو الجنـة، وحقيقة (القدم) ما قدموه، وما يقدمون عليه يوم القيامة، وهم قدموا الأعمال والإيمان بمحمد -صلى الله عليه وسلم-، ويقدمون على الجنة التي هي جزاء ذلك. وأما مقعد الصدق فهو الجنة عند الرب تبارك وتعالى.

وإن الصدق لا يزال يترقَّى بصاحبه حتى يرفعَ منازلَه في الدنيا ثم في الآخرة بأن يلبسه أعظم تاج وأحسنه بأن يكتب عند الله صِدِّيقاً, إنها بشرى للصادق بأن يُحَدِّدَ موقعه من الآن, ويحجز مكانه مع الصدِّيقين، في مقعد الصدق.

وإن للصدق علامات، ومن علامات الصدق طمأنينة القلب إليه، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك, فإن الصدق طمأنينة، والكذب ريبة" أخرجه الترمذي وقال حسن صحيح. فالصادق مطمئن الخاطر, مرتاح البال, هادئ المشاعر, هانئ العيش.

وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقا؛ وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا" متفق عليه.

إن هنالك أموراً تدفع بالمسلم إلى الصدق والسير في ركابه، والمخالطة لأهله:
أولها: العقل، فإن صاحب العقل يعلم روعة الصدق وطمأنينته، وأنه موجب لاحترامه، باعث لمحبته، رافع لمنزلته، وأن الكذب خلق قبيح لا يرتضيه العقلاء، ولا ينخدع به النبلاء, وأنه مهما طال حبله فسوف يقطع يوماً ما.

ثانيا: الشرع، حيث تظاهرت الآيات القرآنية والأحاديث الصحيحة في الأمر بالصدق والنهي عن الكذب، وقد أعد الله أعظم الثواب للصادقين، ومقت الكذب والكاذبين، وأعد لهم عذابا أليما.

ثالثا: المروءة، فمن لديه مروءة فإنها لا تسمح له بالكذب بأي حال من الأحوال.

رابعا: الفوز بالثناء الحسن في الدنيا، وبالنجاة يوم القيامة، يوم ينفع الصادقين صدقهم، ويكونون ممن أنعم عليهم ربهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.

خامساً: الظفر بمحبة الناس، فإن الأمم لا تنال محبتها بالشعارات البراقة, والدعايات الزائفة, بل بصدق اللسان, وصدق التوجه, وصفاء السيرة, وروعة المنهاج.

سادساً: النصر والرفعة والتمكين، فإن الصادق لا يخذله ربه أبدا، أما الكاذب فمهما جنى من كذبه، وترقى بباطله، وتكسب من بهتانه، فمصيره الخذلان، وعاقبته الخسران.

سابعاً: راحة البال، وطمأنينة الخاطر، وهدوء النفس، وانشراح الصدر، فتلك سمات لا يجنيها إلا الصادقون.
 

 

 

 

 

 

المرفقات

1

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات
عضو نشط
زائر
07-03-2022

 

                        

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة:119]، الصدق خلق المؤمنين، وعنوان الموحِّدِين، وراية المتَّقين، وهو أساس الدين، وعمود اليقين.

 

 

الصدق مرضاة الباري، ومَنجاة المسلم، والهادي إلى الجنة، والمباعد من النار؛ من تحلى به كمل دينه، وزكا قلبه، وصفت نفسه، وعظمت هيبته، وزادت محبته، وفرض احترامه، وحسَّن مقامه.

 

 

بالصدق يتميز أهل الإيمان من أهل النفاق، وسكان الجنة من سكان النيران، وهو سيف الله في الأرض الذي ما وضع على شيء إلا قطعه، ولا واجه باطلا إلا صرعه.

 

 

الصدق روح الأعمال، ومحك الأحوال، ومقياس التقوى، ودليل المروءة، وبريد العزة، ومضفي الهيبة؛ وهو طريق السعادة، ومجلبة البركة، ورافع الدرجة، ومورث الطمأنينة.

 

 

ما أمس حاجتنا إلى عودة صادقة إلى رحاب الصدق! وتزوُّدٍ من مَعِينه، وتطيُّب بطِيبه، وتزين بجماله، خصوصاً في زمن كثر فيه الكذب، وتلاشى الصدق، وامتهن الخداع، وساد المكر، وطغت المراوغة، واستسيغ الغش، وأرعد النفاق، وأزبد الباطل، حتى أصبح الصدق وأهله كالنجوم القليلة في الليل الحالك، والمصابيح الصغيرة في الظلام الدامس.

 

 

وإن للباطل انتفاشا، وللكذب بريقا، وللخداع صولات، ولكنه سرعان ما يتلاشى، ولا يلبث أن يتهدم، ولا يبقى إلا الصدق، ولا يسود إلا الحق: (قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) [الإسراء:81].

 

 

لقد أصبح الصدق معدِنَاً نادراً، وخلقاً غريباً، أهله قلة، وأربابه معدودون، والجولة في هذا الزمن جولة الكذب وأهله، والزيف وحملته، والباطل ومروجيه، كَذِبٌ على شتى المستويات، وجميع الطبقات، بل أصبح للكذب الآن منظمات دولية، ومحافل شيطانية، تبني سياساتها على أساسه، وتنطلق في رؤيتها من أبوابه.

 

 

إن هنالك دولاً أصبحت الآن تقيم سياساتها على الكذب، وتجني هيمنتها على البهتان، وتخادع العالم بالباطل، لقد كذبوا حتى استحيا الكذب منهم؛ وهكذا سرت عدوى الكذب في هذا الزمان إلى كل شيء.

 

 

وإن تعامل الناس اليوم مع ربهم أو فيما بينهم قل أن تشم فيه ريح الصدق، أو تجد عبير الحق، ولذلك محقت بركة الأخلاق والأرزاق والأذواق؛ لأن الصدق هو مِلح كل شيء ونكهته، إنه أساس الرفعة في الدنيا، والنجاة في الآخرة: (قَالَ اللهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [المائدة:119].

 

 

إن الصدق يكون مع الله ومع النفس ومع الآخرين؛ الصدق مع الله في عبادته، في تحمل أمانته، في اتباع أوامره واجتناب نواهيه، في الدعوة إليه، (فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ) [محمد:21]، (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) [الأحزاب:23-24]. قال أحد السلف: لأن أبيت ليلة أعامل الله بالصدق أحب إلي من أن أضرب بسيفي في سبيل الله. وقال آخر: مَن طلب الله بصدق أعطاه مرآة يبصر فيها الحق والباطل.

 

 

الصدق مع النفس بعدم خداعها وإهمال شأنها وترك محاسبتها، كم من الناس من يعرف أنه كاذب مع نفسه ومع ذلك يمضي على غيه، ويغرق في كذبه! ولو أنه وقف مع نفسه وقفة محاسبة صادقة، فعرفها قدرها، وأمسك زمامها، لكان خيرا له وأشد تثبيتا. قال أحد السلف: الصادق لا تراه إلى في فرض يؤديه، أو فضل يعمل فيه.

 

 

الصدق مع الناس؛ وهذا ما تحزن له القلوب، وتذرف له الدموع، وتتمزق له النفوس أن ترى المسلمين فيما بينهم يقل مَن يصدق منهم مع إخوانه، بل يتفنن كثير منهم في خداع الآخرين، والكذب على المؤمنين؛ كذب في الوعـود، كذب في العهود، كذب في العقود، كذب في المسؤوليات، كذب في المبايعات، كذب في الأمانات، كذب في الحديث، كذب في العلاقات.

 

 

إن الصدق مع الناس يكون بالصدق في النصح لهم، والصدق في حبهم، والصدق في التعامل معهم.

 

 

إن هذا الدين قامت أسسه على الصدق، ورتبت أجزاؤه على الصدق، والإيمان أساسه الصدق، والنفاق أساسه الكذب، فلا يجتمع كذب وإيمان إلا وأحدهما محارب للآخَر، هذا عذبٌ فُراتٌ، وهذا ملح أجاج.

 

 

إن أصدق الصدق هو كتاب ربنا -جل وعلا-: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا) [النساء:87]، وجاء هذا الكتاب (مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا) [المائدة:48]، وإن النبي الذي اختاره الله تعالى لحمل رسالته هو أصدق إنسان عرفته الدنيا، وتزين به التاريخ، وتعطَّر به الكون؛ بل لقد كان -صلى الله عليه وسلم- منذ صباه ومن قبل مبعثه لابسا تاج الصدق في الجاهلية، فكانوا يسمونه "الصادق الأمين".

 

 

وحينما أنزل عليه -صلى الله عليه وسلم- قوله تعالى: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) [الشعراء:214]، جمع قريشاً ثم صعد الصفا وقال لهم: "أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مُصَدِّقِيَّ؟!"، قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقا، قال: "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد" متفق عليه. (وَالَّذي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [الزمر:33].

 

 

فكان -صلى الله عليه وسلم- صادق التعامل، صادق الخلق، صادق اللهجة، صادق الخبر، فلما ابتعثه الله تعالى عاش مؤيدا بالصدق الذي لا يعتريه زيف، أو يمازجه كذب، أو يخالطه افتراء، (مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) [النجم:2-4]، فهو الصادق المصدوق، صلى الله عليه وسلم.

 

 

ولما كان أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- أسرع الناس إلى تصديقه، وأسبقهم إلى تأييده، سمي بالصديق، فكان تاجا عظيما لا تخفضه الأيام، ولا تزيحه الدهور.

 

 

بل إن الصدق هو عنوان الأنبياء جميعا، كيف وهم رسل الصدق وباعثـو أريجه في الناس؟ فكان الصدق والصدِّيقية وسامهم جميعاً:

 

 

إبراهيم: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا) [مريم:41].

 

 

إسماعيل: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا) [مريم:54].

 

 

إدريس: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا) [مريم:56].

 

 

مريم: (مَا الْمَسِيحُ بْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) [المائدة:75].

 

 

يوسف: (وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) [يوسف:51].

 

 

فأعلى مراتب الصدق مرتبة الصديقية، وهي كمال الانقياد للرسول -صلى الله عليه وسلم-، مع كمال الإخلاص للمرسل.

 

 

وقد أمر الله تعالى رسوله -صلى الله عليه وسلم- أن يسأله بأن يجعل مدخله ومخرجه على الصدق، فقال تعالى: (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا) [الإسراء:80].

 

 

وأخبر عن خليله إبراهيم -عليه السلام- أنه سأله أن يهب له لسان صدق في الآخرين، فقال تعالى: (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) [الشعراء:84]، وبشر عباده بأن لهم عنده قدم صدق، ومقعد صدق. فقال تعالى: (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [يونس:2]، وقال سبحانه: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر:54-55].

 

 

فهذه خمسة أشياء: مدخل الصدق، ومخرج الصدق، ولسان الصدق، وقدم الصدق، ومقعد الصدق.

 

 

وحقيقة الصدق في هذه الأشياء هو الحق الثابت المتصل بالله، الموصل إلى الله، وهو ما كان به وله من الأقوال والأعمال، وجزاء ذلك في الدنيا والآخرة.

 

 

فمدخل الصدق ومخرج الصدق أن يكون دخوله وخروجه حقاً ثابتاً بالله وفي رضاه. وأما لسان الصدق فهو الثناء الحسن عليه من سائر الأمم بالصدق. وأما قدم الصدق فهو الجنـة، وحقيقة (القدم) ما قدموه، وما يقدمون عليه يوم القيامة، وهم قدموا الأعمال والإيمان بمحمد -صلى الله عليه وسلم-، ويقدمون على الجنة التي هي جزاء ذلك. وأما مقعد الصدق فهو الجنة عند الرب تبارك وتعالى.

 

 

وإن الصدق لا يزال يترقَّى بصاحبه حتى يرفعَ منازلَه في الدنيا ثم في الآخرة بأن يلبسه أعظم تاج وأحسنه بأن يكتب عند الله صِدِّيقاً, إنها بشرى للصادق بأن يُحَدِّدَ موقعه من الآن, ويحجز مكانه مع الصدِّيقين، في مقعد الصدق.

 

 

وإن للصدق علامات، ومن علامات الصدق طمأنينة القلب إليه، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك, فإن الصدق طمأنينة، والكذب ريبة" أخرجه الترمذي وقال حسن صحيح. فالصادق مطمئن الخاطر, مرتاح البال, هادئ المشاعر, هانئ العيش.

 

 

وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقا؛ وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا" متفق عليه.

 

 

إن هنالك أموراً تدفع بالمسلم إلى الصدق والسير في ركابه، والمخالطة لأهله:

 

 

أولها: العقل، فإن صاحب العقل يعلم روعة الصدق وطمأنينته، وأنه موجب لاحترامه، باعث لمحبته، رافع لمنزلته، وأن الكذب خلق قبيح لا يرتضيه العقلاء، ولا ينخدع به النبلاء, وأنه مهما طال حبله فسوف يقطع يوماً ما.

 

 

ثانيا: الشرع، حيث تظاهرت الآيات القرآنية والأحاديث الصحيحة في الأمر بالصدق والنهي عن الكذب، وقد أعد الله أعظم الثواب للصادقين، ومقت الكذب والكاذبين، وأعد لهم عذابا أليما.

 

 

ثالثا: المروءة، فمن لديه مروءة فإنها لا تسمح له بالكذب بأي حال من الأحوال.

 

 

رابعا: الفوز بالثناء الحسن في الدنيا، وبالنجاة يوم القيامة، يوم ينفع الصادقين صدقهم، ويكونون ممن أنعم عليهم ربهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.

 

 

خامساً: الظفر بمحبة الناس، فإن الأمم لا تنال محبتها بالشعارات البراقة, والدعايات الزائفة, بل بصدق اللسان, وصدق التوجه, وصفاء السيرة, وروعة المنهاج.

 

 

سادساً: النصر والرفعة والتمكين، فإن الصادق لا يخذله ربه أبدا، أما الكاذب فمهما جنى من كذبه، وترقى بباطله، وتكسب من بهتانه، فمصيره الخذلان، وعاقبته الخسران.

 

 

سابعاً: راحة البال، وطمأنينة الخاطر، وهدوء النفس، وانشراح الصدر، فتلك سمات لا يجنيها إلا الصادقون.