رمضان ولهيب الحر

عبد الرحمن بن عبد العزيز العقل

2022-10-04 - 1444/03/08
عناصر الخطبة
1/ عبادة التفكُّر دأَبُ الصالحين 2/ الحَرُّ كمشهد من مشاهد الاعتبار 3/ نماذج لاستعذاب السلف الصالح عذاب العبادات 4/ هدم بعض الشباب ركن الصوم بحجة شدة الحر 5/ مفهوم الابتلاء 6/ يسر الابتلاء بالصيام في شدة الحر

اقتباس

والصيام في شدة الحر وظمأ الهواجر لونٌ من ألوانِ ابتلاء الإيمان؛ لكشف حقيقة ما في القلب، وإظهار خفاياه، ولأجل تمييز مَن يعبد الله على حَرْفٍ، مِمَّن يعبده بِحَقٍّ ويَقِينٍ وإيمان، والمتأمل البصير يعلم أن الابتلاء بالصيام في شدة الحر ليس من صنوف الابتلاءات الشديدة؛ لأنه بمقدور المسلم، والكلفة والمشقة فيه محتملة ميسورة.

 

 

 

 

 

أيها المسلمون: إن الكلمات النابضة بالحب إذا لامست قلوباً حية تركت أثراً جلياً لمن أقبل بسمع مرهف، وقلب حاضر على تأمُّلاتٍ وعبر تنضح بها آيات الكون.

إن العبد الموفق ليرى في كل سكنة وحركة في واقعه وحياته ومحيطه قدرة الله وعظمته ماثلةً لعينيه، مستقرة في فؤاده؛ فيزيده ذلك قرباً من مولاه، ويقيناً بربوبيته وألوهيته .

أخي المبارك: أطلق فكرك ليجوب هذه الدنيا بسماواتها وأرضها، وليلها ونهارها، وتعاقُب أيامها وفصولها، تجد كل ذلك ينصب في بوتقةِ عظيمِ صنع الخالق...
 

إن التفكر في هذا كله، والتأمل في ملكوت السماوات والأرض عبادة منسية، وقربة لا يفطن لها إلا عباد الله الموفقون.

إن التأمل في ملكوت السماوات والأرض، وما يورثه في القلب من يقين، لهو خير زاد للمسلم في طريق سيره إلى الله تعالى, فمَن لازمه كانت الآخرة ماثلة أمامه، وأيقن أن وراء هذه الآيات وتصريفها وتدبيرها إلهاً قادراً خالقاً.

إن كل ما في هذه الدنيا يدل على الله تعالى، فما فيها من نعيم ورخاء، يدل على كرم الله وفضله وإحسانه، وما فيها من بلاء يدل على قوة بأسه، وشدة بطشه، (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ) [الحجر:49-50].
 

قال الحسن البصري -رحمه الله-: كانوا يتفكرون في تقلبات الزمن، ويعتبرون باختلاف الدهر، فيُحدث لهم عبادة وتقرباً. وقال بعض السلف: ما رأى العارفون شيئاً من الدنيا إلا تذكروا به ما وعد الله به من جنسه في الآخرة.

ويحضرنا في هذه الأيام مشهدٌ من مشاهد الاعتبار، وآيةٌ من آيات التفكر، مشهدٌ يصل القلوب بخالقها، وينفذ بها إلى عالم الآخرة؛ حيث كربة الموقف في العرصات، وحيث النارُ بسمومها وعذابها، إنه القيظُ الشديد بسَمومه اللافح، وحرّه المؤذي، وشمسه اللاهبة، وظله اليحموم، ومهما اعتدنا ذلك وألفناه، وعرفنا تفسيره، وتجلّت لنا أسبابه، فذلك لا يُذهب ما فيه من مشهد العظة والذكرى، وفي نار الدنيا ما يذكر بنار الآخرة، (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ) [الواقعة:71-73].

وكذلك كان يفعل -صلى الله عليه وسلم-، كان يجعل من مشاهد الحياة المألوفة صلةً لتذكر عالم الآخرة، بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا اشْتَدَّ الحَرُّ فَأَبْرِدُوا عَنِ الصَّلاَةِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ"، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْبَرْدِ مِنْ زَمْهَرِيرِ جَهَنَّمَ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْحَرِّ مِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ" أخرجهما البخاري ومسلم.

وكما للقيظ في حره وسمومه آية، فله في سببه آية، فما القيظ إلا نتيجةٌ لدنو الشمس نحونا قليلاً، كما أن زمهرير الشتاء من انصرافها عنا قليلاً، حالتان متضادتان سببهما دنو يسير أو انصراف يسير، ولو دنت أكثر لأحرقت، ولو بعدت أكثر لأماتت.

والحَر -أيها المسلمون- قد يكون عذاباً يعذب الله به من يشاء من العصاة؛ ذكر المفسرون في قصة شعيب عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عند قوله تعال: (فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [الشعراء:189]، قال: أرسل الله إليهم سموماً من جهنم، فأطاف بهم سبعة أيام حتى أنضجهم الحَرُّ، فحميت بيوتهم، وغلت مياههم في الآبار والعيون، فخرجوا من منازلهم هاربين والسَّموم معهم، فسلَّط الله عليهم الشمس من فوق رؤوسهم فغشيتهم، وسلَّط الله عليهم الرَّمضاءَ من تحت أرجُلهم حتى تساقطت لحومُ أرجُلهم، ثم نشأت لهم ظُلة كالسحابة السوداء، فلما رأوها ابتدروها يستغيثون بظلها، فوجدوا لها برداً ولذةً، حتى إذا كانوا جميعاً تحتها أطبقت عليهم، وأمطرت عليهم ناراً فهلكوا، ونجى الله شعيباً والذين آمنوا معه.

والحَر كذلك ابتلاء للمؤمنين في أداء الواجبات، ففي السنة التاسعة من الهجرة كانت غزوة تبوك، وكان الجو حاراً، والمسافة بعيدة، والعدو شرساً، فبرز موقف النفاق، وأخذ المنافقون يتلمسون الأعذار في التخلف عن الغزوة، وكان من بين أعذارهم قولهم: (لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ)، يريدون أن يؤثِرُوا الراحة والدعة في المدينة، حيث طيب الثمار، ووفرة الظلال، فذكَّرهم الله تعالى بالحقيقة الأكيدة بقوله تعالى: (قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ) [التوبة:81].

وكذلك المشي إلى المساجد للجُمَع والجماعات، وشهود الجنائز في مواسم الحر الشديد من أعظم صور الابتلاء التي تقرب المسلم من ربه، وتزيده خشية وإيمانا.

أحبتي في الله: ودونكم صورة من صور الابتلاء في هذه الأيام، صورة حية تكشف حقيقة الإيمان في النفوس، وتجسد الصبر لدى المسلم، صورة من الابتلاء تبين بجلاء مدى التسليم والرضا عن التشريع في العسر.

إنها القيام بواجب الصوم حينما يشتد الحَرّ كما في أيامنا هذه؛ فرمضان هذه السنة يوافق لهيب الحر مع طولٍ في النهار، حيث يصل في بعض الدول إلى خمس عشرة ساعة، فيجتمع على المسلم حَرٌّ لاهب، وعطش في النهار شديد.

إن المسلم قد ينشط للعبادة في حال اليسر، فيحتاج إلى شيء من الابتلاء بالعبادة في العسر: (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) [الأنفال:37].

كثير هم أولئك الذين يقبلون على الله وعلى التعبد وأداء الفرائض في حال الرخاء والسعة والأجواء الجميلة الخلابة، لكن كيف هؤلاء حينما يكون الجو لاهباً من الحرارة، والنفوس ضائقة، والصدور ضيقة من جراء الجهد النفسي والجسدي الذي يخلفه الصيف اللاهب؟.

روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، حَتَّى إِنْ كَانَ أَحَدُنَا لَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ، وَمَا فِينَا صَائِمٌ، إِلَّا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَعَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ.

وعَنْ قَتَادَةَ، أَنَّ عَامِرَ بْنَ عَبْدِ قَيْسٍ، لَمَّا حَضَرَه الموت قَالَ: مَا آسَى عَلَى شَيْءٍ إِلَّا عَلَى قِيَامِ الشِّتَاءِ، وَظَمَأِ الْهَوَاجِرِ.

وَلما حضرت حُذَيْفَةَ بن الْيَمَان الْوَفَاةُ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي كنت أخافك، وَأَنا الْيَوْم أرجوك، اللَّهُمَّ إِنَّك تعلم أَنِّي لم أكن أحب الْبَقَاء فِي الدُّنْيَا لجري الْأَنْهَار، وَلَا لغرس الْأَشْجَار، وَلَكِن لظمأ الهواجر، وَقيام اللَّيْل، ومكابدة السَّاعَات.

وَمثل هَذَا يرْوى عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر -رَضِي الله عَنهُ- أَنه لما نزل بِهِ الْمَوْت بَكَى، فَقيل لَهُ مَا يبكيك؟ فَقَالَ: مَا أبْكِي حرصا على الدُّنْيَا، وَلَا جزعا من الْمَوْت، وَلَكِن أبْكِي على مَا يفوتني من ظمأ الهواجر، وَقيام ليَالِي الشتَاء.

هكذا كانوا -رضي الله عنهم-، يفرحون بطول النهار ليصوموا رغم العطش الشديد، والظمأ في الهواجر، فينالوا بذلك درجة الصبر، التي قال الله عنها: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر:10].

إخوتي في الله: لقد أصيبت الأمة اليوم بشباب هدموا ركن الصوم الأعظم، وقد يعتذر بعضهم عن ذلك بشدة الحر، وطول النهار، وهذا أمر مقبوح في شريعة الإسلامية، فالصيام فريضة من فرائض الله التي أوجبها الله على المكلف، ولا خيار له في ذلك ما دام مسلماً إلا أن يكون معذوراً بمرض أو سفر، ولا تثبت قدم العبد في الإسلام إلا على ظهر التسليم والقبول، (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا) [الأحزاب:36].
 

وكذا مَنْ تَرَكَ الصِّيام وهو قادر فقد عصى الله ورسوله وضل ضلالاً مبيناً، وفِعله هذا أمارة على ضعف قدمه في التسليم والاستجابة لشرع الله، (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [النساء:65]، وربنا سبحانه يقول: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) [العنكبوت:2].

ولا بد للمسلم في هذه الدنيا من التمحيص، وكشف حقيقة الإيمان، وهذه سنة الله في عباده، وما من مؤمن إلا ويبلوه الله في هذه الدنيا، والابتلاء يأخذ أشكالاً متلونة، وليست على لون واحد، والصيام في شدة الحر وظمأ الهواجر لونٌ من ألوانِ ابتلاء الإيمان؛ لكشف حقيقة ما في القلب، وإظهار خفاياه، ولأجل تمييز مَن يعبد الله على حَرْفٍ، مِمَّن يعبده بِحَقٍّ ويَقِينٍ وإيمان، والمتأمل البصير يعلم أن الابتلاء بالصيام في شدة الحر ليس من صنوف الابتلاءات الشديدة؛ لأنه بمقدور المسلم، والكلفة والمشقة فيه محتملة ميسورة.

ودونك -أيها المبارك- نموذجاً آخر من البلاء فيما رواه البخاري في صحيحه عن خباب بن الأرت، قال: شكونا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ قال: "كان الرجل فيمن قبلكم يُحفَر له في الأرض، فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويُمشَط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله! لَيتمنَّ هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون".

فأين من يثقل عليه الصيام في شدة الحر من هذا اللون من ألوان الابتلاء؟ وماذا لو عرض على المنشار ليفرق فرقتين؟ هل سيطيق صبراً؟ وهل سيكون صلباً؟ أم سيصده ذلك عن دينه؟ ماذا لو مشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه؟ هل سيصبر على ذلك أم سيصده ذلك عن دينه؟ (وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [البقرة:250].

 

 

 

 

 

المرفقات

ولهيب الحر

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات