هاذم اللذات

رياض بن يحيى الغيلي

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/ حقيقة الموت 2/ آلام الموت 3/ ضعف الموت 4/ فتنة الموت 5/ مصائب الموت 6/ الاتعاظ بالموت

اقتباس

الموت ضعفٌ يصيب العبد بسبب الألم، يتشوش العقل، ينعقد اللسان، العينان تجحظان، الشفتان تتقلصان، الأطراف تضعف، يتراخى الجسد، وتبدأ وتيرة التنفس بالانخفاض، وتتعالى في المكان أصوات الحشرجات، ويتحرك الصدر المثقل ببطء، وتتزامن مع حركات الجسد انتفاضة جسدية كانتفاضة السمكة في شبكة الصياد، ويبدأ اللون الأزرق في التسرب إلى ملامح الوجه الجامدة، وتصير العيون المفتوحة خافتة البريق، و تتراخى وتضعف الأصابع المشدودة ..

 

 

 

 

 

الحمد لله رب العالمين، يا رب! يا رب! يا رب! اللهم إياك نعبد، ولك نصلِّي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك، ونخشى عذابك، إن عذابك الجد بالكفار ملحق.

اللهم لك الحمد كله، ولك الشكر كله، وإليك يرجع الأمر كله، علانيته وسره، فأهلٌ أنت أن تُحمَد، وأهلٌ أنت أن تُعبَد، وأنت على كل شيء قدير.

لك الحمد بالإسلام، ولك الحمد بالقرآن، ولك الحمد بالمال والأهل والمعافاة، كبَتَّ عدونا، وأظهرت أمننا، وجمَّعْتَ فرقتنا، ومن كل ما سألناك ربنا أعطيتنا، فلك الحمد والشكر كثيراً كما تعطي كثيراً.

اللهم لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا، ولك الحمد على كل حال.

لك الحمد كالذي نقول، وخيراً مما نقول، ولك الحمد كالذي تقول.

اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيُّوم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق، ووعدك حق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد -صلى الله عليه وسلم- حق، والساعةُ آتيه لا ريب فيها.

رباه! سبحانك! سبحانك! أنت الباقي وكل ما في الوجود فناء، سبحانك! سبحانك!
شُخُوصٌ وَأَشكالٌ تمرُّ فَتَنْقَضِي *** فَتَفْنَى جَمِيعَاً والمُهَيْمِنُ بَاقِ

وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له، ينادى يوم القيامة بعد فناء خلقه ويقول: أنا الملك أنا الجبار، أنا المتكبر. ثم يقول: لمن الملك اليوم؟! فيجيب على ذاته -سبحانه- لله الواحد القهار.

وأشهد أن القائد القدوة محمداً رسول الله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة فكشف الله به الغمة، ولبَّى نداء ربه حتى أجاب مناديه، ومشى طوال أيامه ولياليه على شوك الأسى، يخطو على جمر الكيد والعنت، يلتمس الطريق لهداية الضالين، وإرشاد الحائرين، حتى عَلَّم الجاهل، وَقوَّم المعوج، وَأمَّن الخائف، وطَمْأَن القلق، ونشر أضواء الحق والخير والتوحيد والإيمان، كما تنشر الشمس ضياءها في سائر الأكوان؛ ومع ذلك خاطبه ربه بقوله:(إِنَّكَ مَيتُ وَإِنَّهُم مَيِّتُونَ) [الزمر:30].
 

اللهم صَلِّ وسلم على هذا النبي الكريم، صاحب الخلق العظيم، وارْضَ يا ربنا عن الذين أيدوه وناصروه، واتبعوا النور الذي أنزل معه، أولئك هم المفلحون.

أوصيكم -عباد الله- ونفسي بتقوى الله، وأستفتح بالذي هو خير (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة:7-8]، اللهم سدِّد قلبي ولساني، اللهم اجعل الصدق والإخلاص رائدي في كلامي، اللهم افتح قلوب السامعين وأسماعهم لسماع كلمتي، رباه، رباه، لا تجعلها صيحة في وادٍ، ولا نفخة في رماد.

وبعد: أحبتي في الله: يا جند التوحيد، ويا تلاميذ محمد! حديثي معكم اليوم، حديث ذو شجون، بل هو ذكرى للذاكرين، ذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد؛ حديثي اليوم عن النهاية، نعم، النهاية! نهاية كل حي، نهاية كل نفس، حديثي اليوم معكم أيها الأحبة عن الموت.

الموت، أتدرون ما هو الموت؟ الموت لغة: ضدُّ الحياة، وأما الموت اصطلاحاً: خروج الروح من الجسد، خروج الروح من الجسد؛ وقيل: هو سلب وكشف، أما أنه (سلب) فلأن العبد يُسْلَب من محبوباته، من أهله وماله وولده وجاهه ومنصبه، قال جبريل عليه السلام: "يا محمد عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب ما شئت فإنك مفارقه". وأما أنه (كشف): فلأن العبد إذا مات انكشف له ما كان خافيا عليه قبل موته، قال تعالى: (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) [ق:22].

الموت نهاية كل حي، (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص:88]، (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلَالِ وَالإِكْرَامِ) [الرحمان:26-27]، (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [العنكبوت:57].

الموت هو الداء الذي لا شفاء منه: (كَلَّا إِذَا بَلَغَت التَّرَاقِيَ -بلغت الروح عظام الترقوة- * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ -من يرقيه ومن يشفيه- * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ -وأيقن أنه لا طبيب ينفع، ولا علاج يدفع- * وَالْتَفَّتْ السَّاقُ بِالسَّاقِ -أي شُدت إحدى قدميه بالأخرى وقد كان عليها جوالا- * إِلَى رَبِّكَ يَومَئِذٍ الْمَسَاقُ) [القيامة:26-30].

أيها الموحدون والموحدات: هذا هو الموت، فما صفة الموت؟ كيف يكون ألم الموت؟ الموت أيها الأحبة: ألمٌ، وضعفٌ، وفتنةٌ، ومصيبة.

ألمٌ لأنه ثلاثة آلاف سكرة، كل سكرة تعدل ألف ضربة بالسيف، ألمٌ وصفَه كعبُ الأحبار، وهو يُحتضَر، لعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فقال: يا أمير المؤمنين ؛ كغصنٍ كثيرة أشواكه، أدخلت في جوف رجل، فأصاب كل شوكة كل عرق فيه، ثم نزعت منه مرة واحدة، أبقى منه ما أبقى، وأخذ منه ما أخذ.

ألمٌ وصفه عمرو بن العاص، وهو يحتضر، لابنه فقال: يا بني، الموت أعظم من أن يوصف، لكَأنَّ على كتفي جبل رضوى، وكأن في جوفي شوكة عوسج، وكأن روحي تخرج من ثقب إبرة، وكأن السماء أطبقت على الأرض وأنا بينهما.

ألمُ وصفه أحد الصالحين بعد موته، رؤي في المنام فقيل له: كيف وجدتَّ طعم الموت؟ قال: أواه! أواه! وجدته والله شديدا، والذي لا إله إلا هو! لهو أشدُّ من الطبخ في القدور، والنشر بالمناشير، أقبل ملك الموت نحوي حتى استل الروح من كل عضو مني، فلو أني طُبخت في القدور سبعين مرة لكان أهون علي!.

ويُرى آخر بعد موته في المنام فيقال له: كيف وجدت نفسك ساعة الاحتضار؟ قال: كعصفور في مقلاة لا يموت فيستريح، ولا ينجو فيطير.

ألمٌ عانى منه سيد الخلق، وحبيب الحق، بأبي هو وأمي -صلى الله عليه وسلم- فكان يقول: "لا إله إلا الله! إن للموت لسَكرات". اللهم هوِّن علينا سكرات الموت. فرحماك رحماك يا الله! رحماك رحماك يا الله! رحماك رحماك يا الله!.

والموت أيها الأحبة: ضعفٌ، وأي ضعف! إنها اللحظة التي يضعف فيها الأقوياء، إنها الساعة التي يضعف فيها المتجبِّرون، إنها الساعة التي يضعف فيها الزعماء والقادة والجنرالات والجنود والحرس، إنها اللحظة التي يقف عندها الجميع عاجزون.

الموت ضعفٌ يصيب العبد بسبب الألم، يتشوش العقل، ينعقد اللسان، العينان تجحظان، الشفتان تتقلصان، الأطراف تضعف، يتراخى الجسد، وتبدأ وتيرة التنفس بالانخفاض، وتتعالى في المكان أصوات الحشرجات، ويتحرك الصدر المثقل ببطء، وتتزامن مع حركات الجسد انتفاضة جسدية كانتفاضة السمكة في شبكة الصياد، ويبدأ اللون الأزرق في التسرب إلى ملامح الوجه الجامدة، وتصير العيون المفتوحة خافتة البريق، و تتراخى وتضعف الأصابع المشدودة، والجسد كله يعلن الرحيل، رحيل الروح.

يريد العبد في هذه اللحظات أن ينفس عن نفسه بالصراخ فلا يستطيع؛ لأنه ضعيف! الموت ضعف، لأن مَن حولك عندما تحضرك الوفاة أيضاً ضعفاء، عاجزون، حائرون؛ الأطباء ضعفاء، الأهل والأبناء ضعفاء، الأقرباء والأصدقاء ضعفاء، والحي الدائم في هذه اللحظات يتحدى: (فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) [الواقعة:83-87]، وهنا التحدي، هنا الإعجاز!.

أيها الأحبة: وكما أن الموت ألمٌ، وضعفٌ، فالموت فتنة، الموت فتنة، الموت فتنة، واسمعوا إلى الحبيب الهادي -صلى الله عليه وسلم- حين يقول: "إن الشيطان يأتي أحدكم قبل موته، فيقول له: مت يهوديا، مت نصرانيا".

أبو جعفر القرطبي عندما حضرته الوفاة قال له رواده: قل لا إله إلا الله. فقال: لا، قيل له: قل لا إله إلا الله، قال: لا. فلما أفاق وعرف بالذي كان يقوله قال: لست إياكم أعني، أتاني شيطان عن يميني يقول لي: مت يهوديا فإنه خير الأديان، فكنت أقول له: لا، ثم أتاني آخر عن شمالي يقول لي: مت نصرانيا فإنه خير الأديان، فكنت أقول له: لا.

الموت فتنة لأن الشيطان في هذه اللحظات يلهيك عن ذكر الله، ويزين لك الدنيا وملذاتها، وشهواتها، ونعيمها، حتى تنشغل عن النطق بالقول الثابت: لا إله إلا الله.

ذكر القرطبي: أن أحد المحتضرين، ممّن بدنياه انشغل، وغرّه طول الأمل، لما نزل به الموت، واشتد عليه الكرب، اجتمع حوله أبناؤه، يودعونه، ويقولون: قل لا إله إلا الله، فأخذ يشهق، ويصيح، فأعادوها عليه، فصاح بهم وقال: الدار الفلانية أصلحوا فيها كذا، والبستان الفلاني ازرعوا فيه كذا، والدكان الفلاني اقبضوا منه كذا، ثمّ لم يزل يردد ذلك حتى مات!.

وذكر ابن القيم أن أحد تجار العقار، ذُكّر بلا إله إلاّ الله عند احتضاره فجعل يردّد: هذه القطعة رخيصة، وهذا مُشْتَرٍ جيّد، وهذا كذا، وهذا كذا، حتى خرجت روحه، وهو على هذه الحال!.

وقال ابن القيم أيضاً: واحتضر رجل ممن كان يجالس شراب الخمور، فلما حضره نزعُ روحه، اقبل عليه رجل ممن حوله، وقال: يا فلان، يا فلان، قل لا إله إلا الله، فتغير وجهه، وتلبد لونه، وثقل لسانه؛ فردد عليه صاحبه: يا فلان، قل لا إله إلا الله، فالتفت إليه وصاح: لا، اشرب أنت ثمّ اسقني، اشرب أنت ثمّ اسقني، وما زال يردّدها، حتى فاضت روحه إلى باريها!.

وذكر أن رجلاً فاسقاً كان مفتوناً بشرب الخمر، ولا يكاد يخرج من بيت الخمار، فلما مرض، ونزل به الموت، وخارت قواه، سأله رجل ممن حوله: هل بقي في جسمك قوة؟ هل تستطيع المشي؟
فقال: نعم، لو شئت مشيت من هنا إلى بيت الخمار. فقال صاحبه: أعوذ بالله! أفلا قلت أمشي إلى المسجد؟ فبكى، وقال: غلب ذلك عليَّ، لكل امرئ من دهره ما تعودا، وما جرت عادتي بالمشي إلى المسجد.

أيها المؤمنون الأعزاء: والموت أيضا مصيبة، أتدرون كيف يكون الموت مصيبة؟ الموت مصيبة لأن العبد إذا مات، أغلق عليه باب العمل، وفتح عليه باب الحساب، فاليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل، يتمنى المرء أن يسبِّح لله تسبيحة واحدة، يتمنى أن يسجد لله سجدة واحدة، يتمنى أن يذكر الله لحظة واحدة.

يتمنى أن يعافى يوماً واحداً، بل ساعة واحدة، ليعمل صالحاً، حتى يزحزح عن النار، (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [المؤمنون:99-100]، ومنهم من يقول: (لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ)، فيُجَاب: (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا) [المنافقون:10-11]، (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ؟) [فاطر:37].

ومنهم من يقول: (يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الزمر:56-58]، فيُجاب: (بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ) [الزمر:59].

صلى أحد السلف ركعتين خفيفتين لم يرض عنهما، بجوار قبر، فلما أخذته سنة من النوم، رأى صاحب القبر يقول له في المنام: يا هذا، صليت ركعتين خفيفتين لم ترض عنهما؟ إنهما لأحب إلينا من الدنيا وما فيها.

مر عمرو بن العاص -رضي الله عنه- بالمقبرة فبكي ثم رجع فتوضأ ثم صلي ركعتين، فيقول أصحابه لم فعلت ذلك؟ قال: تذكرت قول الله (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ) [سبأ:54]، وأنا أشتهي الصلاة قبل أن يحال بيني وبينها.

 

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين؛ وأشهد ألا إله إلا الله، الحكم العدل، الحق المبين؛ وأشهد أن محمداً رسول الله، إمام المتقين، وسيد المرسلين، وقائد المجاهدين، صلوات الله وسلامه عليه وآله وصحابته وأزواجه أجمعين.

أما بعد: أيها المؤمنون الأعزاء: الموت مصيبة، الموت مصيبة؛ لأن العبد إذا مات خرج كل شيء من تحت ملكيته إلى غيره.

وانْظُرْ لِمَنْ مَلَكَ الدُّنْيَا بِأَجْمَعِهَا *** هَلْ رَاحَ مِنْهَا بِغَيْرِ القُطْنِ وَالكَفَنِ؟

دخل علي بن أبي طالب -كرَّم الله وجهه- المقبرة فقال: يا أهل القبور، ما الخبر عندكم؟ إن الخبر عندنا أن أموالكم قد قسّمت، وأن بيوتكم قد سكنت، وأن زوجاتكم قد زوجت، هذا خبر ما عندنا، فما خبر ما عندكم؟ ثم بكى، ثم قال: والله لو استطاعوا أن يجيبوا لقالوا: إنا وجدنا أن خير الزاد التقوى!.

وكان عبد الرحمن بن يزيد خِلاً لعبد الملك بن مروان، فلما مات عبد الملك، وتصدَّع الناس عن قبره، وقف عبد الرحمن بن يزيد على قبر عبد الملك، وقال: أنت أمير المؤمنين، أنت عبد الملك بن مروان، لقد أصبحت لا تملك من ثيابك إلا ثوبين، ولا تملك من أراضيك وأطيانك إلا أربعة أذرع في ذراعين! ثم انقلب إلى أهله، واجتهد في العبادة، وترك صحبة الملوك، إلى صحبة ملك الملوك -سبحانه-.

أيها الأحباب: الموت مصيبة؛ لأن العبد إذا مات، تحسّر على كل صلة شغلته عن الله -عز وجل-، مَن كان نعلا للطغاة، يأتمر بأمرهم، وينتهك الحرمات لأجلهم، يكون حاله لحظة الموت: (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا) [الأحزاب:67-68].

من كانت له صحبة شغلته عن الله يكون حاله لحظة الموت: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا) [الفرقان:27-29].

من قدّم الزوجة والولد على الله يكون حاله لحظة الموت: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) [عبس:34-37]؛ يقول عكرمة: يلقى الرجل زوجته يقول لها: أي زوج كنت لك؟ تقول: نِعم الزوج! فيقول لها: فإني أسألك اليوم حسنة واحدة أنجو بها مما أنا فيه. فتقول: ما أيسر ما طلبت! ولكني أتخوف مما تتخوف منه. يلقى الرجل ولده يقول له: أي والد كنت لك؟ فيقول: نعم الوالد! فيقول له: فإني أسألك اليوم حسنة واحدة أنجو بها مما أنا فيه. فيقول: ما أيسر ما طلبت! ولكني أتخوف مما تتخوف منه.

الموت مصيبة لأنه يأتي فجأة دون أن يعطيك فرصة للاستعداد له، الموت مصيبة لأن فيه فراق الأحباب والأصحاب.

أيها المؤمنون، أيتها المؤمنات: هذا هو الموت، ليس منه مفر، وليس منه مهرب! وأختم وقفتي معك -أيها الحبيب- بهذه الأبيات المؤثرة:

أيا من يدعّي الفهمْ *** إلى كم يا أخي الوهمْ
تعبِّي الذنبَ بالذنبْ *** وتُخطي الخطأَ الجَمْ

أما بان لك العيبْ؟ *** أما أنذرك الشيبْ
وما في نصحه ريبْ *** ولا تنعُ فقد صمْ.

أما نادى بك الموتْ *** أما أسمعك الصوتْ
أما تخشى من الفوتْ *** فتحتاطَ وتهتمْ

فكم تسكرُ في السهوْ *** وتختالُ من الزهوْ
وتنصبُّ إلى اللهوْ *** كأن الموتَ ما عمْ

أتسعى في هوى النفسْ *** وتختالُ على الأنسْ
وتنسى ظلمةَ الرمسْ *** ولا تذكرُ ما تمْ

ستذري الدمَ لا الدمعْ *** إذا عاينتَ لا دمعْ
يقي في عرصة الجمعْ *** ولا خالٌ ولا عمْ

كأني بك تنحطْ *** إلى اللحدِ وتنغطْ
وقد أسلمك الرهطْ *** إلى أضيق منسمْ

هناك الجسمُ ممدودْ *** ليستأكله الدودْ
إلى أن ينخر العودْ *** ويمسي العظمُ قد رمْ

فبادرِ أيها الغمرْ *** لما يحلوُ به المرْ
فقد ولى بك العمرْ *** وما أقلعت عن ذمْ

وزود نفسَك الخيرْ *** ودع ما يعقبُ الضيرْ
وهيِّئْ مركب السيرْ *** وخفِّفْ لجة اليمْ

بِذا أوصِيكَ يَا صاحْ *** وقدْ بُحْتُ كمَنْ باحْ
فطُوبى لفتىً راحْ *** بذا القرآن يهتمْ

 

 

 

 

 

 

المرفقات

اللذات

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات