يوسف (قال رب السجن أحب إليّ)

عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري

2022-10-10 - 1444/03/14
عناصر الخطبة
1/ الحكمة من قصص القرآن 2/ خطر المترفين 3/ من آثار المترفين الإباحية والانحلال 4/ كيف تنتشر الدياثة في المجتمع 5/ النجاة من كيد المترفين

اقتباس

إن المترفين من أهل القصور إذا تحكموا في المجتمع، فإنهم ينشرون فيه الإباحية والانحلال وبسلوكياتهم الشائنة القذرة التي تصبح حديث المجالس ومحط اهتمامات الناس الفارغين بسلوكياتهم تلك، يضعفون نوازع الفضيلة في نفوس الناس والمجتمع في بداية الأمر، وهو مازال متصفًا بالبراءة وبقدر كبير من النقاء، فإن أفراده غالبًا ما يستقبلون تلك الأحوال بالاستنكار، ويستقبلون تلك الأخبار بالتقزز والنفور ..

 

 

 

 

أما بعد: فقال الله تعالى: (وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآَتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ * قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [سورة يوسف:30-34].

ها نحن نعود إلى سابق عهدنا بسورة يوسف وقصته الكريمة، وفي حقيقة الأمر نحن لا نروي لكم مجرد قصة أو نروي سورة، وإنما نحاول استنباط الدروس والعبر منهما لحياتنا المعاصرة ومشكلاتنا الحاضرة، انطلاقًا من أن هذا هو مغزى سوق هذه القصة وأمثالها في كلام ربنا -عز وجل-، فكما ذكرنا مرارًا إنها ليست مجرد قصة تخيلها قصاص أو لفق حبكتها أديب، إنما هي دروس وعبر وهداية لنا من ربنا -عز وجل- وتفصيل لكل شيء: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [يوسف:111].

في هذه الآيات التي تلوناها عليكم من سورة يوسف تصوير لمشهد ليس من مشاهد القصة فحسب، إنه من مشاهد الحياة، تصوير لمشهد من مشاهد حياة الترف والنعيم، حياة الطبقة المترفة من أهل القصور وماذا يمكن أن يفعلوه بالمجتمع إذا استعبدوه وتسلطوا عليه، إنهم بإيجاز يخربونه ويقودونه نحو الدمار والهلاك، وإذا ما رأيت مجتمعًا أي مجتمع سلط الله عليه المترفين فتحكموا في مقدراته وملكوا أمره، فاعلم أنه سائر سيرًا حثيثًا إلى الهلاك والدمار، قال تعالى: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) [الإسراء:16].

إن المترفين من أهل القصور إذا تحكموا في المجتمع، فإنهم ينشرون فيه الإباحية والانحلال وبسلوكياتهم الشائنة القذرة التي تصبح حديث المجالس ومحط اهتمامات الناس الفارغين بسلوكياتهم تلك، يضعفون نوازع الفضيلة في نفوس الناس والمجتمع في بداية الأمر، وهو مازال متصفًا بالبراءة وبقدر كبير من النقاء، فإن أفراده غالبًا ما يستقبلون تلك الأحوال بالاستنكار، ويستقبلون تلك الأخبار بالتقزز والنفور، ولكن مع استمرارها وتكرارها فإن استنكارهم لها يضعف حتى يصل إلى الحد الذي يسمعون فيه، وربما يرون الموبقات التي يرتكبها المترفون من أهل القصور ولا ينبض لهم عرق، تلك الغيرة التي كانت تتأجج في الصدور وتلك النخوة، إنهما الآن يبردان ويهمدان حتى تنحط مشاعر الناس والعياذ بالله، ربما تنحط مشاعر الناس فيصلون إلى الحد الذي يعتادون فيه الخبث، بل وربما يتقبلونه لأنه باستمراره وتكراره دون أن يغير فإنهم يألفونه ثم يتقبلونه ثم يتشوفون إليه وهكذا، وبالتدريج يتم للمترفين القضاء على تلك البراءة في المجتمع، وتلويث ذلك النقاء.

إن المترفين من أهل القصور لا ينشرون الإباحية والانحلال في المجتمع فحسب، بل إنهم ينشرون الدياثة، تأمل نموذجًا من دياثة المترفين كما تصورها هذه السورة سورة يوسف: (فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) [يوسف:28].

هذا هو كل ما فعله ذلك المترف، هذا هو كل ما فعله العزيز لما تكشف له انحلال زوجته وفسادها وخيانتها لزوجها ومراودتها لفتاها، نوّه بكيدها ولم يجرؤ على مخاطبتها مباشرة بذلك مراعاة لخاطرها الملوث، فصرف الحكم إلى جنسها من النساء: (إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ) أي أيتها النساء، (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ)، ثم بعد ذلك: (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا) ليس هناك عقاب للمسيء، ليس هناك أي تدارك للخلل ولا مبادرة لإصلاح الفساد، ولكن لفلفة للقضية ودفن لنارها تحت الرماد، فتلك المرأة الخائنة لم تلق من العقوبة ما يردعها عن تكرار محاولاتها الآثمة، ويوسف البريء النقي بقي في مكانه بعلم العزيز وموافقته، والقضية صدر الأمر إلى يوسف بلفلفتها بالسكوت عليها.

هذا نموذج من دياثة المترفين، وهذه الدياثة إذا استحكمت في الرجال فماذا يفعل النساء؟! إذا استحكمت الدياثة في الرجال فإن الوقاحة والجرأة على الخبث تستحكم في النساء، تأملوا ماذا فعلت امرأة العزيز بعد ذلك، لقد أعلنت عن جريمتها، بل إنها تتباهى بجريمتها بكل جرأة ووقاحة، وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ)، (قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ) [يوسف:32].

هكذا يكون حال النساء عندما تصبح الدياثة ظاهرة عامة في المجتمع والعياذ بالله، ولكن كيف تصبح الدياثة ظاهرة عامة في المجتمع، اسألوا أذناب القردة والخنازير، وتأملوا إلى أي شيء يدعون المجتمع، لماذا يصرون ويلحون على إخراج المرأة المسلمة من بيتها؟! لماذا يصرون على تمزيق حجابها؟! لماذا يصرون على تعليمها كيف تراقص؟! الأمريكان أذناب القردة والخنازير يريدون نشر الانحلال والدياثة العامة في المجتمع، اسألوهم لتعرفوا كيف ينتشر الانحلال وتصبح الدياثة ظاهرة عامة في المجتمع، وحينئذ الويل للآباء، والويل للأزواج، والويل للإخوان والأعمام إذا رأوا بناتهم ورأوا زوجاتهم ورأوا أخواتهم يتمرغون أمام أعينهم في وحل القاذورات الإفرنجية، إذا ما أخذت النخوة أي واحد منهم فإنه يسجن ويعاقب، إذا ما اشتعلت الغيرة في أي واحد منهم، الغيرة للعرض وللفضائل وللدين، فإنه سوف يسجن وينكل به: (وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ) [يوسف:32].

من أراد أن يشاهد هذا الذي أحدثكم به فليلق نظرة على جيراننا، على المجتمعات من حولنا التي ابتليت بأذناب القردة والخنازير، وتحكم فيها دعاة الانحلال من المترفين، ألقِ نظرة تشاهد هذا الذي أقوله وأحذرك منه، نسأل الله -عز وجل- أن يقينا شر هذه الفتن، ألقِ نظرة على المجتمعات من حولك تجد هذا الذي أحدثك عنه واضحًا للعيان.

أيها المؤمنون: اتقوا الله في أنفسكم، واتقوا الله في أعراضكم، واتقوا الله في أخلاقكم، واحذروا المترفين من أهل القصور، احذروا المترفين من أذناب القردة والخنازير دعاة الانحلال، أولئك الذين يهلك الله بهم القرى ويدمر بهم الأمم، فإن الناس في أي مجتمع إذا ما اعتادوا الخبث، إذا ما أصبحوا يرون الخبث في ذويهم وفي مجتمعاتهم، فلا ينبض لهم عرق ولا تتحرك فيهم نخوة، فإن الهلاك حينئذٍ قد حطّ على هذا المجتمع والعياذ بالله.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:
 

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

ماذا تفعل -يا أيها المؤمن المتمسك بالنقاء والطهر، الثابت على دين الله- إذا كنت في مجتمع يسير سيرًا حثيثًا نحو الانحلال؟! إذا كنت في مجتمع أسباب الانحلال فيه تحاصرك من كل مكان؟! الإعلام والتعليم والسوق والبيت والأقارب والجيران والمعارف والأصدقاء والصديقات، إذا كان الجميع يضغطون عليك لأن تفعل؟! وربما يتهددك دعاة الانحلال أذناب القردة والخنازير، يتوعدونك بمختلف النعوت والأوصاف إذا لم تستسلم، متزمت متشدد متطرف أصولي: (إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) [الأعراف:82]، هذه أوصاف تجدونها متفشية اليوم في المجتمعات الإسلامية وخاصة في وسائل الإعلام التي يديرها أذناب القردة والخنازير، هذا حصار نفسي من العدو، حصار نفسي، وهناك حصار اجتماعي، وهناك حصار سياسي، كل هذا على المؤمن لكي يفعل: (وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ) [يوسف:32]، يضعونه في سجن، هذا الحصار إذا لم يستسلم ويقبل بالانحلال والانهيار، عليك -يا أيها المؤمن- أولاً وقبل كل شيء أن تلجأ إلى ربك -عز وجل-، تطلب منه بصدق وإخلاص أن يحميك من كيد هؤلاء، من كيد دعاة الانحلال، من كيد أذناب القردة والخنازير، أن يصرف عنك كيدهم والسوء الذي يريدون استدراجك إليه أنت وأهلك وبناتك وأولادك، الجأ إلى ربك أولاً كما فعل يوسف الصديق وقال: (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ)، فإنك لما بقيت وحدك في الميدان بقدراتك الذاتية دون معونة إلهية، دون ربك، نسيت ربك فلم تلجأ إليه بالدعاء واللجوء والاستعاذة، فإنهم منتصرون عليك لا محالة، أنت هالك لا محالة، فابدأ باللجوء إلى ربك، واطلب منه الحماية والعصمة من هذا الذي يدعونك إليه، فإن أي شيء يصيبك هو أهون من أن تستجيب إلى ما يدعونك إليه.

ثم عليك بالثبات على هذا النقاء إذا كنت في مجتمع يجري نحو القاذورات، عليك بالثبات على دين الله إذا كنت في مجتمع يبتعد عن الله، عليك بالثبات واعلم أن الله -عز وجل- ناصرك ومعينك إذا علم صدقك وإخلاصك ولجوءك إليه وبَذْلَك لكافة ما تستطيع من الوسائل كما استجاب لعبده الصديق يوسف عبده ونبيه فصرف عنه كيدهن، إنه هو السميع العليم.

 

 

 

الخطبة الثانية:

أما بعد:

فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وعليكم -أيها المسلمون- بالجماعة، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذَّ في النار، واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام -رضوان الله عليهم أجمعين-.

يا ابن آدم: أحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه، وكن كما شئت فكما تدين تدان، ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال -جل من قائل-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "من صلى عليّ واحدة صلى الله عليه بها عشرًا"، اللهم صلّ وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة: أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي، وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين، وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن الصحابة أجمعين، وعن التابعيين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
 

 

 

 

 

 

 

المرفقات

(قال رب السجن أحب إليّ)

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات