وحصل ما في الصدور

مبارك بن عبد العزيز بن صالح الزهراني

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ سر بلاغة الربط بين القبور والصدور 2/ الأثر القوي للآية الكريمة في الموعظة والتذكير والتأثير 3/ طائفة من قلوب الخير السليمة 4/ طائفة من القلوب الشريرة

اقتباس

إنها آية واعظة تطرد النفاق، وتغسل القلب من الحسد والحقد والضغينة، تُذهب كبرياء النفوس المغرورة بجمالها أومالها أو جاهها؛ آية لا مكان للرياء معها في القلب، ولا منزل للعُجْبِ معها في الصدر، آية تزكِّي القلب من احتقار الناس، ومن الشماتة بالخلق .. بمثل هذه الآيات تزكى النفوس، وتطهر القلوب، وتستقيم حياة الإنسان، وتصلح أحواله، وتتفجر في القلب ينابيعُ البر والخير من الصدق والإخلاص، والخوف والإخبات ..

 

 

 

 

الحمد لله الذي خلق فهدى، يعلم السر وأخفى، يسَّر للعباد الذكرى، وأنذرهم هول الأخرى، شرح الصدور بالهدى، وابتلى خلقه بالسراء والضرَّا؛ أشهد ألا إله إلا هو المطلع على النجوى، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أولي النهى.

أما بعد:

عباد الله: ما أعظم مواعظ الله في كتابه المنزل! وما أنفعها للعبد حين يتأمل! ففي كل آية موعظة زاجرة، وعبرة بينة؛ واليوم نعيش مع آية عظيمة توقظ الضمائر، وتهز النفوس، وترتجف منها القلوب، فيها وعد ووعيد، فيها إيمان وتوحيد، فيها خوف وترغيب، فيها تعظيم وتمجيد، يقول تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم: (أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ) "نعم" (وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ) [العاديات:9-10].

هذه هي موعظة الله تعالى التي نتدارسها اليوم ونتذاكرها، فكيف بنا لو عاينا الأمور، وقد بعثرت القبور، وحصل ما في الصدور، وأوقفنا للتحصيل بين يدي الملك الجليل، فطارت القلوب؛ لإشفاقها من سالف الذنوب، وهتكت عنا الحجب والأستار، وظهرت منا العيوب والأسرار، هنالك تجزى كل نفس بما كسبت.

فيا لها من موعظة! قرن الله تعالى فيها بين القبور والصدور في حدث عظيم لا مثيل له، وموعظة بالغة ، تقرع القلوب، وتغشى النفوس هولاً وخوفاً، فالقبور تبعثر ويخرج من فيها، والصدور تفتش وتبلى ليظهر ما فيها، القبور يخرج منها الأجساد والصدور يخرج منها النيات والعزائم والإرادات، القبور بين قبر مظلم وقبرٍ منير والصدور كذلك بين صدر أسود مظلم وآخر أبيض منير، القبور تبعثر ليحصل ما في الصدور ويجزى العباد على ما في ضمائرهم.

ولذا فإنَّ مما يصلح القلوب ذكر القبور، كان صفوان بن سليم يأتي البقيع، فيمر بمحمد بن صالح التمار، فتبعه في ذات يوم، فقال محمد: فقلت في نفسي سأنظر ما يصنع، فجاء صفوان على قبر من القبور في البقيع، فلم يزل يبكي حتى رحمته من كثرة البكاء، وظننت أنه قبر بعض أهله، فهو يأتي لزيارته، ويتذكر هذا القريب الحبيب فيبكي ويرق لذلك، يقول: ومر به مرة أخرى فتتبعته ففعل مثل ذلك، فذكرت ذلك لمحمد بن المنكدر فقال: كلهم أهله وإخوته، إنما هو رجل يحرك قلبه بذكر الأموات كلما عرضت له قسوة"، فما أعظمها من موعظة!.

عباد الله: (وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ)، أي: ظهر وبان ما فيها، وما استتر فيها من كمائن الخير والشر، فصار السر علانية، والباطن ظاهرًا، وبان على وجوه الخلق نتيجة أعمالهم، قد وميزت وأبرز ما في صدور الناس من خير وشر، إنها آية تبعثر عن قلوبنا غفلتها، وتوقفنا على الحق الذي يجب أن نكون عليه .

عبد الله : توهم نفسك وقد خرجت من قبرك تجيب الداعي في هول من الحشر عسير، واقفاً تنتظر حسابك، وتترقب أين يساق بك! فبينما أنت على حالك إذ نادى منادٍ باسمك للعرض على ربك: (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ) [الحاقة:18]، فتقوم إلى ربك سبحانه، تنتظر النظر في حالك، وتحصيلَ ما في صدرك، فالقلوب يومئذ أصناف، والصدور يومئذ أنواع، قلوبُ نورٍ تُجزَى بالرضوان، وصدور خير وبر تثاب الغفران؛ وقلوبُ ظلمةٍ تُجزَى بالنيران، وصدور شرٍ ومنكرٍ تحيق بها غضبة الرحمن.

ألا إنَّ من قلوب النور والخير والسرور:

قلبٌ ممتلئٌ خوفاً من الله سبحانه، قد حجز صاحبه عن العصيان، وكان ممن يقول في دنياه: (إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً) [الإنسان:10]، قد خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى، فيا له من كرامة عند ربه! وما أعظم مكانته عند الله تعالى!.

وقلبٌ عُرِضَ على ربه فوجد فيه خشيةً منه قد أيقظت الجنان، وعصمت اللسان، وسائر الأركان، فله من الله الرضوان وجزيل العطايا والغفران، (جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) [البينة:8].

وقلب جاء به صاحبه فإذا هو يحمل فيه حباً لله تعالى قد ملك عليه الفؤاد، وأشغله عن كل محبوب من العباد، فما أعظم رضوان الله تعالى عنه يومئذ!.

وقلب تجمل بالإخلاص له -سبحانه- في كل عمل، لم يشرك بالله شيئاً، فله الجنة، وما أعظم نعيمها!.

وقلب جاء به صاحبه فإذا هو لم يسكن فيه إلا ذكر الله تعال،. فهنيئاً له سكنى دار السلام، مشمولاً بالرضوان!.

وقلب جاء به صاحبه إلى ربه فإذا هو قد استنار برضاه عن الله سبحانه، كان راضياً عن الله في قضائه، راضياً عن الله في شرعه، راضياً عن الله في رسله، فقد وجب له من الله تعالى أن يرضيه.

وقلب جاء به صاحبه فإذا هو قلبٌ مخمومٌ لا غلَّ فيه ولا حسدَ ولا حقدَ ولا ضغينةَ، له دار السلام، قد نزعت من قلوب أهلها الأحقاد، وطهرت من الغل.

وقلب جاء به صاحبه مليءٌ بالرحمة على العباد، والرأفة بالخلق.

وقلب جاء به صاحبه فإذا هو قلب منيبٌ، دائم التوبة والأوب، منكسر لربه، (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) [ق:31-33].

وقلب جاء به صاحبه يومئذ فإذا هو قلبٌ صادقٌ مع ربه ومع نفسه ومع الخلق، سره وعلانيته سواء.

وقلب جاء به صاحبه يومئذ فإذا هو قلبٌ يحمل الأمانة الحقة قد أدى حق ربه وأدى حق الخَلق، العدو والصديق، لم يغدر ولم يخن ؛ فهو من العذاب في أمن، ومن النصب في أمن، ومن الحزن في أمن .

وأما القلوب المسودة والصدور المظلمة:

فهي تلك الصدور والقلوب التي جاءت تحمل رياءً للخلق، وحرصاً على السمعة والاشتهار، وحباً للدنيا أنساها نصيبَها من الآخرة، قصداً للدنيا في كل عمل، لا يعمل عملاً إلا ورجا أن يكون له من ورائه مال أو جاه أو ثناءٌ، إنها تدنست بالشرك فيا خسارته ويا ندامته حين تحق عليه غضب الله تعالى! وإن كان يظن أنه ادخر طاعات، وقرأ الآيات، وجاهد في سبيل الله تعالى، لقد نسف الرياء العمل وأذهبه هباءً منثوراً .
 

وصدور تحمل حباً لغير الله قد أقعدها عن الاستجابة لأمر الله تعالى، وصدور جاءت تحمل تسخطاً وجزعاً وقنوطاً من قضاء الله وقدره، فيا شؤمها! شؤماه! ويا ويلهاَ ويلاه! وصدور جاءت تحمل حسداً وحقداً وغلَّاً، وصدور جاءت تحمل كبرياءً وعجباً ونفاقاً، وصدور جاءت تحمل خيانةً، وصدور جاءت تحمل كراهية لقضائه أو شرعه أو أؤليائه وأهل دينه، وصدور جاءت تحمل سوء ظنٍ بالله تعالى، وصدور جاءت تحمل قسوة وغلظةً، خاويةً خاليةً من ذكره تعالى.

 

 

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

 

 

بمثل هذه الآيات تزكى النفوس، وتطهر القلوب، وتستقيم حياة الإنسان، وتصلح أحواله، ويتفجر في القلب ينابيع البر والخير من الصدق والإخلاص، والخوف والإخبات، بمثل هذه الآيات يعظم في قلب العبد مخافة ربه، ويجل فيه قدر مولاه.

استعرض أنت الآن ما يدور في صدرك، وكن له مراقباً، ومحصياً، ألا إنك ستجد -ولا شك- ما تخجل منه، وتستحي من إظهاره، فكيف يكون خجلك وحالك النفسي حين يظهر على الملأ ويخرجه المولى؟ لا ليظهره فقط، بل ليحاسبك عليه، فيا للهول! وما أعظم الموقف!.

إن الإنسان في حين الغفلة ينسى قلبه ومشاعره وخلجاته وإراداته، ويطويها كما يطوي الزمن، وينساها كما ينسى أحداث زمانه، كحالنا مع القبور، ننساها حين نخرج منها ولا نذكرها إلا حين موت الأحباب والأصحاب. أمَا والذي سيُخرج ما في القبور، يوم البعث والنشورـ ليُخْرجنَّ ما في أنفسنا! وليُحصلَنَّ ما في صدورنا! وإن نسيناها أو غفلنا عنها.

إنها آية واعظة تطرد النفاق، وتغسل القلب من الحسد والحقد والضغينة، تذهب كبرياء النفوس المغرورة بجمالها أومالها أو جاهها؛ آية لا مكان للرياء معها في القلب، ولا منزل للعجب معها في الصدر، آية تزكِّي القلب من احتقار الناس ومن الشماتة بالخلق.

فقوموا على قلوبكم بالرعاية والمراقبة؛ فإنها سوف تكشف يوم العرض على الله تعالى، قال أبو حفص النيسابوري -رحمه الله-: حرست قلبي عشرين سنة، ثم حرسني عشرين سنة!.
 

 

 

 

 

المرفقات

ما في الصدور

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات