أفتش عن إنسان

مبارك بن عبد العزيز بن صالح الزهراني

2022-10-05 - 1444/03/09
عناصر الخطبة
1/ مظاهر فقدان الإنسانية اليوم 2/ تجسُّد الإنسانية الحقة في النبي الكريم والرسل وأتباعهم بإحسان 3/ مأساة فقدان العالم الإسلامي للإنسانية 4/ الالتزام بالأخلاق الإنسانية يجلب الرفاهية والعز

اقتباس

بحثت عن الإنسان الذي أطلبه والذي تنتظره البشرية فتجد عنده الرحمة التي تضمد جراحها، واللقمة التي تسد جوعتها، والأمن الذي يُذهب خوفها، واللباس الذي يستر عريها، والسخاء الذي يحفظ ماء وجهها، فلم أجد كتاباً يدلنا عليه، ولا كتاباً يصنعه مثل كتاب الله تعالى؛ ولن تجد الإنسانيةَ التي تطلبها وتفتش عنها في أحد من الخــَلق أتم وأكمل من الأنبياء والمرسلين ..

 

 

 

 

الحمد لله الذي سبقت رحمتُه غضبَه، وكان بعباده بَرَّاً لطيفاً، ومنهم قريباً ودوداً، دبَّرَهم بحلمه، وغطاهم بستره، صبر منهم على الأذى، وما قطع عنهم نعمته، مع غفلتهم عنه وذنوبهم؛ فاللهم لك الحمد، كل الحمد لك، حمد الثناء، وحمد النعماء. 

وأشهد أن لا إله إلا أنت، أنت الله الملك القدير، الرحمن الرحيم، الواحد الأحد الصمد؛ والصلاة والسلام على النبي الرؤوف، المحمودِ في القرآن، المذكورِ بالخلق والإحسان، المطبوعِ على أعلى الصفات، وأجمل الخصال، وعلى آله وأصحابه أجمعين إلى يوم الدين.

أما بعد: فإن أصدقَ الحديث كلامُ الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أيها المسلمون: إنَّ الإنسان إذا فقد شيئاً أخذ في البحث عنه، وجهد في التفتيش عليه، وجرت عادت الناس أن يفتِّشوا عن أموالهم إذا فقدوها، وعن مراكبهم إذا سُرقت، وعن أي شيء مادي مما يملكون إذا أضاعوه؛ ولكننا اليوم نفتش تفتيشاً غير ما عهد الناس، نفتش عن شيء أغلى وأعلى من الأموال، وأجلّ من الماديات، إننا نفتش.. إننا نفتش عن إنسان!.

نعم! نفتش عن إنسان الروح والضمير، لا إنسان الجسد والأشباح! إنَّ من أعظم ما يفقده الناس اليوم هو ذلك الإنسان الرحيم، ذلك الإنسان الأمين، ذلك الإنسان الوفي ذو المروءة، إنسان الوصل لا

الفصل، إنسان الصبر لا إنسان الجزع، إنسان الرحمة لا إنسان الوحشية، إنسان الإيثار لا إنسان الأثرة والشح، إنسان الأخوة لا إنسان الحسد والضغينة، إنسان العدل لا إنسان الظلم.

إننا نبحث عن إنسان الأخلاق العالية، والصفات الحميدة، في وسط عالَمٍ يموج بموت الضمير، وغياب الإيمان والأمانة؛ عالمٍ يغص في الرشوة وأكل الأموال بالباطل، لا يعطون الحقوق إلا بعد أن يملؤوا بطونهم والجيوب.

عالمٍ يطفح فيه الظلم ويعصف بالأمم، ظلم الدول للدول، والشعوب لشعوب، والحكام لرعاياهم، والرعايا للحكام، والأب لابنه، والابن لأبيه، والأخ لأخيه، والرعية للرعية، وهلم جرا... عالمٍ تؤخذ فيه حقوق الضعفاء، وترتفع فيه أرصدة الأغنياء والوجهاء، عالمٍ من الوحشية تدمر الإنسان الضعيف، فتأخذ اللقمة من فمه لتضعها في قنبلة أو دبابة.

وهل من وحشية أعظم مما نرى اليوم من القتل، والتشريد، والضرب وأنواع الإهانات والاعتداءات الدموية الضارية؟

عالمٍ ينمو اقتصاده على أجساد الفقراء والعبيد، والمومسات البغايا، عالمٍ تتجلى فيه القسوة والفظاظة أعظم تجلٍّ، حيث ترى القلوب مشاهد الموت والقهر ثم لا تتحرك فيها مشاعر الحزن ولا الأسى، كأنها صُمٌّ صِلابٌ قُدَّتْ مِن جَنْدَلِ.

عالم يغرم بنشر الفضائح الإنسانية، وإشاعة عثرات الناس وزلاتهم على أوسع نطاق، عبر القناة والصحيفة والجوال والإنترنت، فلا يرقبون في أحَد -حين يقفون منه على سقطةٍ- إلاَّ ولا ذمة؛ عالم من الغش في المعاملات والسلع على كافة المستويات، عالم من الأثَرة لا مثيل له، عالم من الانتقام والغضب الوحشي المدمر.

عالم من الخيانة، وعالم من التدليس، وعالم من التحاسد والتنافس العدائي، إنها عوالم من رذائل الأخلاق تلوث الحياة البشرية، وتدمر الإنسانية المسكينة.

هذه بعض مظاهر فقدان الإنسانية لا تعدم أن تراها على الفضائيات، أو تقرأها في الصحف والمجلات، أو تقف عليها في واقع الحياة من حولك، جار يعيش مسغبة وبجانبه جار يعيش ترفاً، أخ في قمة الثراء وأخوه في درك من الفقر والعناء.

أيها المسلمون: بحثت عن الإنسان الذي أطلبه والذي تنتظره البشرية فتجد عنده الرحمة التي تضمد جراحها، واللقمة التي تسد جوعتها، والأمن الذي يُذهب خوفها، واللباس الذي يستر عريها، والسخاء الذي يحفظ ماء وجهها، فلم أجد كتاباً يدلنا عليه، ولا كتاباً يصنعه مثل كتاب الله تعالى؛ ولن تجد الإنسانيةَ التي تطلبها وتفتش عنها في أحد من الخــَلق أتم وأكمل من الأنبياء والمرسلين.
 

فإن بحثتَ عن إنسان البر والوفاء للقريب -وإن كان أشد الأعداء- تجده في إبراهيم -عليه السلام- مع أبيه المشرك بالله تعالى وهو يتوعده قائلاً: (أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) [مريم:46]، فيجيب إبراهيم خليل الرحمن الذي رباه ربه تبارك وتعالى: (سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا) [مريم:47].

وإن بحثتَ عن إنسان البذل والعطاء، لكل عاجز وضعيف من الضعفاء، دون طلبٍ للجزاء، أو إرادة الثناء، تجده في موسى -عليه السلام- حين أغاث الفتاتين في مدين.

وإن بحثت عن إنسان التعالي عن الانتقام، وإنسان الصبر والحلم على القريب، وإن كان آذاه غاية الإيذاء، وأذاقه صنوفاً من البلاء، تجده في يوسف -عليه السلام- مع إخوته لمَّا كان له في مصر التمكين وظهر عليهم فـقَالَ: (لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [يوسف:92].
 

وإن بحثتَ عن إنسان القلب الفائض بالرحمة، النابض بالرأفة لكل موقف حزين، مَن كان لكل مكلوم سندا، ولكل معدوم مكسبا، ولكل كَلٍّ حاملا، وللرحم واصلا، وللضيف مكرما، وفي الأوفياء، من يتمعَّر وجهه على الفقراء المعدمين، تجده في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبلغ ما يكون.

ها هو -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم في مسجده بين أصحابه في صدر النّهار، إذ جاءه قوم حفاة عراة مجتابي النّمار أو العباء، متقلّدي السّيوف، عامّتهم من مضر، بل كلّهم من مضر، وهم في قمة الفقر والفاقة، فتمعّر وجه رسول اللّه -صلّى اللّه عليه وسلّم- لما رأى بهم من الفاقة، إنه قلب إنسان صُنِعَ على عين ربه، فدخل ثمّ خرج، فأمر بلالا فأذّن، وأقام فصلّى، ثمّ خطب فقال: "يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ إلى آخر الآية... (إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء:1]، والآية الّتي في الحشر: (اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ) [الحشر:18]؛ تصدّق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع برّه، من صاع تمره..." حتّى قال: "ولو بشقّ تمرة".
 

أين هذا القلب اليوم عنَّا ونحن نشاهد مناظر البؤس والفقر بأم أعيننا ولا تكاد تنطف قلوبنا بقطرة حزن وشفقة؟! وفي مشهد آخر ينطق بقمة الوفاء حين أبصر النبي -صلّى اللّه عليه وسلّم- أسارى بدر من قريش، أولئك القوم الذين خرجوا لقتاله، ورفعوا السيف عليه، وجردوا جيشهم للقضاء عليه، ها هو يقول بعد أن أظفره الله عليهم: "لو كان المطعم بن عديّ حيّا ثمّ كلّمني في هؤلاء النّتنى لتركتهم له"، كل ذلك وفاء للمطعم بن عدي الذي أجار رسول الله.

ثم انظر إلى إنسانٍ آخر من أتباع الأنبياء كيف يفيض إنسانية، ورحمة، ورأفة، وأمانة؟ في عام الرمادة ألمـــــَّت المسغبة بأهل المدينة، فماذا كان موقف عمر؟ يقول خادمه أسلم: كنَّا نقول: لو لم يرفعِ الله تعالى المَحْل عام الرمادة، لظننا أنَّ عمر يموت همًّا بأمر المسلمين!.

خطَب الناسَ عام الرمادة، فقرقر بطنُه وأمعاؤه من الجوع، حتى سَمعتِ الرعية قرقرةَ بطنه، فطعن بإصبعه في بطنه، وقال: قرقِرْ أو لا تقرقِر، والله لا تشبع حتى يشبعَ أطفالُ المسلمين.

نَما إلى علمه أنَّ جماعة في أقْصى المدينة، قد نَزَل بهم من الضُّرِّ أكثرُ مما نزل بغيرهم، فحمل الفاروق -رضي الله عنه- جِرابينِ من دقيق، وأمر خادمَه أسلم أن يلحقه بقِرْبة مملوءة زيتًا، وأسرع عمرُ في الخُطا، حتى وصل إلى أولئك المحتاجين! لقد حملها هو بنفسه وهو الخليفة! ورقَّ لحالهم، وتأثَّر من خماصتهم، فوضَع بنفسه الطعامَ في القِدر، ونفَخ في النار، حتى كان الدُّخَان يخرج من بيْن لحيته البيضاء، فطبخ للقوم طعامَهم، ووزَّعه عليهم حتى شَبِعوا، وطابتْ عينُه بعدَ ذلك، ثم أمر بهم فحُملوا إلى داخلِ المدينة حتى يكونوا قريبًا منهم!.

وَمَنْ رآهُ أمامَ القِدْرِ مُنْبَطِحَاً *** والنارُ تأخُذُ منْهُ وهو يُذْكِيها
وَقَـدْ تَخَـلَّلَ في أثنـاءِ لِحيتِهِ *** منها الدُّخَانُ، وفوهٌ غابَ في فِيها
رأى هناكَ أميرَ المؤمنينَ عَلَى *** حَالٍ تَروعُ -لَعَمْرو اللهِ- رائيها
يستقبلُ النارَ خوفَ النارِ في غَدِهِ *** والعَيْنُ مِنْ خَشْيَةٍ سَالَتْ مآقِيها

كان -رضي الله عنه- لديه قانون الإنسانية، إذ كان كثيراً ما يقول: كيف يعنيني شأن الرعية، إذا لم يمسَّني ما مسَّها؟! لا يمكن أن يعيش الإنسان ألم أخيه الإنسان إلاَّ إذا ذاق من الآلام مثله، أو تصور أنه مكانه.

عباد الله: وإن من أشد ما أحزن القلب، وأنكى الجراح، أن تجد العالم الإسلامي أكثر بلاد العالم يفقد هذه الإنسانية الرحيمة الوفية الأمنية، فأكثر ما يكون الظلم فيه، وأظهر ما تسلب الحقوق فيه، وأشد معاني القسوة بين ذويه، تنتشر الرشوة في أهله، وتسود أخلاق الأثرة به.

كل هذا في بني الإسلام! وبنو الإسلام يقرؤون في كتاب الله تعالى أوصاف المقربين: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا) [الإنسان:8-10]، (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى) [الليل:17-21].

إنَّ مَن حقَّق هذه الأخلاق الإنسانية حري أن لا يخزيه الله تعالى، ولا يهينه، ولا يذله، نطَقَت بذلك خديجة -رضي الله عنها-: كلّا! أبشِرْ! فواللّهِ لا يُخْزِيكَ اللّهُ أبَدَاً! واللّه إنّك لتصل الرّحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكلّ، وتُكسب المعدوم، وتقري الضّيف، وتعين على نوائب الحقّ.

وكذا الأمم التي تسعى لتحقيق هذه الأخلاق، بينما من فرط فيها يناله خزي الله تعالى، ذلك هو الإنسان الذي يفتش عنه الفقراء، فكن أنت أخي.

كم ينفق اليوم من نفقات في الكماليات والتحسينات أولى بها بطون جائعة، وأكباد عطشى، وأجواف حرَّى! انظر إلى رجال ينفقون المليارات والملايين على الزينات والقصور، والملاعب والترفيه، وفئام من أمتنا يتضورون جوعا، ويقتاتون على القمائم!.
 

 

 

 

 

 

المرفقات

عن إنسان

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات