إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم

حمزة بن فايع آل فتحي

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/ حال الأمة الإسلامية اليوم 2/ غفلة كثير من مثقفي الأمة عن قضاياها 3/ أسباب ضعف الأمة الإسلامية 4/ أسباب النصر والعز والتمكين

اقتباس

لقد حرص أعداؤها -قاتلهم الله- أن يطوّقوها بالهزيمة والعداء في كل مكان، فانهزمت الأمة في كل ميادين الحياة، وانهزمت في نفسها، أفلح أعداؤها في هزيمتها دينيًا وعسكريًا وفكريًا وسياسيًا وإعلاميًا، بل استطاعوا هزيمتها من الناحية النفسية، وأنها ساقة الركب وصُبابة الإناء ومستنقع التخلف والجهل والهوان، فلا تُرشَّح لمجد، ولا تستحق السيادة، ولا تملك مقومات الرقي والازدهار ..

 

 

 

 

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد –صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر: 18].

أيها الناس: من حين أن سقطت أمتنا، وهوت قوتها، وتبعثرت وحدتها، تسلط عليها الأعداء، وسُلبت خيراتها، وتكاثرت عليها المصائب وتلوثت جراحها، ففي الشرق تمزُّق، وفي الغرب مهانة، وفي كل مكان معاناة ومأساة.

فما لهذه الأمة؟! أليست بأمة مسلمة؟! أليس كتابها القرآن؟! ألم تكن عزيزة يومًا من الأيام؟! ألم يقل الله فيهم: (وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ) [الفتح: 22]، وقال الله: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عمران: 110]؟!

لقد نسيت هذه الأمة حياة العز والإباء، وارتضت صنوف الذل والبلاء، وكأنها لم تخلق إلا لها! وكأن الكوارث من دمائها وأشلائها!

ألا مـا لأمتنا مـا لهـا *** فقـد بدَّد البيْن أحوالها
كأنَّ الْمصائب ما قُدَّرت *** ولا النُّوب السود إلا لها
تئنّ لدى فلوات الضياع *** أنين المضيِّعـة أطفـالها
يدنس شارون أقدامهـا *** ويحصد شمعـون أبطالها
نوازل فيهن شقُّ الصدور *** وهيهات نملك إغفـالها

هل تساءلنا: لماذا كل ذلك؟! المصيبة تلو المصيبة، والحدث يخترقه الحدث، فلا نستيقظ إلا على بلية! ولا نقوم إلا وتجابهنا مشكلة! تجابه الأمة المسكينة بالوجود اليهودي في فلسطين، ويلاحقها ثالوث الدمار في أكثر البقاع: الجهل والفقر والمرض، ويحرص أعداؤها على إشغالها بالنعرات والشعارات ودوام المشكلات فيها، فلا هي تخلصت من المجرمين في فلسطين، ولا هي عالجت تخلفها وتقهقرها، ارتضت بالهزيمة أم الهزيمة رضيتها!

لقد حرص أعداؤها -قاتلهم الله- أن يطوّقوها بالهزيمة والعداء في كل مكان، فانهزمت الأمة في كل ميادين الحياة، وانهزمت في نفسها، أفلح أعداؤها في هزيمتها دينيًا وعسكريًا وفكريًا وسياسيًا وإعلاميًا، بل استطاعوا هزيمتها من الناحية النفسية، وأنها ساقة الركب وصُبابة الإناء ومستنقع التخلف والجهل والهوان، فلا تُرشَّح لمجد، ولا تستحق السيادة، ولا تملك مقومات الرقي والازدهار.

فَرَضِي كثيرون بهذه النتيجة، واستطعم مثقفوها لذيذ النوم والجهالة والبلادة، تَعابى لا حولَ ولا قوة، مثقّفها يستحيي من إبانة عقيدته الصحيحة، ويستكين في إبراز أمجادنا ومفاخرنا.

وكان بعض الناس ذات مرة في منطقة قريبة من فلسطين، فقال له السائق: هنا تشوّش إسرائيل على إذاعتنا فلا نسمع شيئًا، فقال له الراكب: ونحن لا نحسن التشويش عليهم؟! فأجاب السائق على وجه السخرية والعجب: نحن نشوّش عليهم! الله يرحم حالنا.

يغفل كثير من المثقفين عن أمتهم وقضاياهم وقالوا: الأمة لا تزال بخير، والله يتولى دينه ويرعاه، وركنوا إلى دنياهم وشهواتهم، فأكلوا وشربوا واعتنوا ببطونهم، وغفلوا عن تبصير الأمة وإيقاظها، بل أسهموا في غفلتها وسطحيتها؛ بإهمالهم الواجب المنوط بهم، ولم يجدّدوا وعي هذه الأمة ولا تحرقوا على حالها وذلتها، والله المستعان.

إن ثقافة هؤلاء -وإن كانت عميقة- إلا أنها على هامش الأحداث، لا في العير ولا النفير، إما أن تكون معلومات مخدَّرة، أو أنها ثقافة مهينة منهزمة، فحينئذ لا فرق بينهم وبين عوامنا.

ويُقضى الأمر حين تغيب تيمٌ *** ولا يستأمرون وهم شهودُ

قال تعالى: (إِنَّ اللَّه لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) [الرعد: 11].

أيها الإخوة الكرام: لماذا أمتنا تعاني ما تعاني من الويلات والنكبات؟! ولماذا هي غاصة في المشكلات؟!

ولكي نعرف الجواب المقنع الصحيح استعرضوا حال الأمة مع ربها تعالى، هذا القرآن منهجنا القويم وصراطنا المستقيم يقول: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) [الشورى: 30].

فما الذي أحدثته الأمة حتى أصابها ما أصابها؟! لقد بعدت هذه الأمة المسلمة عن دينها بعدًا كبيرًا، فلا هي عبدت الله حق عبادته، ولا هي قدرته حق قدره.

لقد أصبح الإسلام في حياتها شعارًا تتميز به الأمم، وليس سلوكًا وتطبيقًا، وبات القرآن في نظرها للتلاوة فحسب، وليس المشعل لإسلامها، الماحي لضعفها، الهادي لمجدها وفخارها، (لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ). ومارست هذه الأمة ألوانًا من الصدود والإعراض، وانغمست في أعماق الدنيا، وتلطخت بالمعاصي والقاذورات، دونما حياء أو إشفاق، وحرص أعداؤها على توسيع دائرة التمزق فيها، صنعوا منها دويلات متناحرة، ومسلمين متباغضين، ونسوا قرآنهم الذي يتلونه صباحا ومساء: (إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات: 10]، فذابت الأخوة الإيمانية في شعارات القومية والإقليمية والعرقية، وجعلت من تلك الشعارات والمناهج أصنامًا تلوذ إليها: "إعادة فلسطين"، أو "لمّ الشمل"، أو "النضال القومي"، وما أغنت عنهم شعاراتهم التي رغبوا بها عن الإسلام.

أمتِي كم صنمٍ مَجدتـه *** لَم يكن يَحمل طهرَ الصنمِ

وطفقت الأمة الممتحنة تستبدل بعزة دينها ذلةَ الشعارات التي صنعها الاستعمار، وأجّجها أفراخ الاستعمار الذين استغربوا في عقولهم وأخلاقهم وانتماءاتهم.

من كان يصدّق أن هذه الأمة ترفع شعارًا غير الإسلام، أو تنزوي تحت مظلة جاهلية أو شيطانية تضاد بها منهج الله تعالى، وتحرم نفسها من رحمة الله ونصره وتأييده؟!

إذن فهذه الأمة -يا مسلمون- ما أصلحت نفسها مع ربها فحلَّ بها ما حلّ، فلقد أضاعت دينها وأهملت القرآن، وما قامت بواجب النصرة، وقد قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد: 7]، فأمتنا المسكينة تجني ما كسبت أيديها وما صاغتها عقولها وتوجهاتها، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) [الرعد: 11].

فهل غيرت هذه الأمة ما بنفسها؟! وهل صفّت إيمانها من الشوائب والمكدرات؟! كلا، إنها لم تغير ما بها، ولم تجدد إيمانها، ولم تطهر واقعها، وسنة الله تعالى ونظامه في كل أمة أن لا تحصِّل صلاحها ولا فلاحها حتى تطهّر ذاتها وتصلح أحوالها، (فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ) [الفتح: 10]، وقال تعالى: (وَلاَ تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ) [النحل: 92].

اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.

(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ)...

 

 

 

 

الخطبة الثانية:
 

 

 

 

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

إخوة الإسلام: مهما حميت الظروف واشتدت الأرزاء فلا تزال سفينة النجاة قريبة منا، ولا يزال سراج الهداية في طريقنا نحن، الذي سيطول السفينة ويستضيء بالسراج ويعصم نفسه من الهلاك.

إن سفينة النجاة هي الإسلام الصادق، ليس المتوارث عن الآباء والأجداد، فإن أكثرهم يقولون: نحن المسلمون، وما أقل فعالهم وتضحياتهم!! أما سراج الهداية فإنه القرآن، من استرشد به رشد، ومن استهدى به هُدي، ومن تعزز به عزّ وحاز مجدًا وأصاب شرفًا: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) [الزخرف: 44].

وإن هذا الكتاب لهو حياة الأمة لو حملته بصدق: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا) [الشورى: 52]، وإنه لعزها وفلاحها لو استهدت به وجعلته إمامها: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ) [البقرة: 63]، فأين القوة في حمل القرآن؟! وأين الجد في العمل به؟! وأين الصدق في تأمله وتدبره؟! (إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [الإسراء: 9].

ما ضعفت أمتنا في عصر من العصور إلا وأدركت أن ذلك بما كسبت أيديها، وأنها غافلة عن ربها، وأنها أهملت كتابه وذكراه، فإن أحست بالذنب وعادت إلى قرآنها هبت فيها الحياة من جديد، وتماسك بنيانها وقوى جنابها: (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج: 40].

أيها المسلمون: عودوا إلى دينكم، واعتزوا بقرآنكم، وأصلحوا ذات بينكم، فما بكم من آفة فبما كسبت نفوسكم وفعلت أيديكم، فاستغفروا الله وتوبوا إليه، فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الأنفال: 33].

إن التوبة والاستغفار -يا مسلمون- طريق التغيير والإصلاح وباب الفلاح، فما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة، قال تعالى في بعض الأمم: (فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ) [الأنعام: 6]، كانت ذنوبهم سببًا لهلاكهم وتدميرهم، وقال تعالى: (كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [المطففين: 14]، كسبهم من المعاصي والذنوب حال دون صلاحهم واتعاظهم وانتفاعهم بالمواعظ والتوجيهات: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ) [يونس: 57]، فهل وعينا هذه الموعظة المباركة وجعلناها مداد الإيمان ووقود اليقين وشعل الحماس والغيرة؟! وهل جعلنا منها زكاة للأنفس وطهارة للأفئدة وعنوانا للجد والعمل والمقاومة؟!

إن هذا القرآن المجيد ضمن لنا التغيير والإصلاح، وضمن لنا الرفعة والظهور، فهو الذي بعث في قلوب العرب سرج الإيمان والشجاعة، فهابهم الناس وتخوفهم الأعداء، حتى قال أحد فرسان المشركين لما رآهم: "رأيت البلايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع، يتلمظون تلمظ الأفاعي، ولن يقتل منهم رجل حتى يقتل رجلاً منكم، فروا رأيكم". هكذا غيّر القرآن النفوس وأصلحها، وجعلها فياضة بالإيمان ريانة بالجهاد، سباقة للخيرات والتضحيات.

اللهم آتِ نفوسنا تقوها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها...
 

 

 

 

 

المرفقات

الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات