الدَّين.. تحذير ووصايا

حسين بن عبدالعزيز آل الشيخ

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/ حفظ الشريعة لحقوق العباد 2/ حرمة مال المسلم 3/ تحذير الإسلام من الدَّين 4/ ترك النبي -صلى الله عليه وسلم- الصلاة على صاحب الدين 5/ مطل الغني ظلم 6/ وصايا للمدنيين 7/ وصايا للمحسنين والدائنين 8/ فضل التيسير على المعسرين 9/ التحذير من التهاون لحقوق العمال

اقتباس

ويجيء التشديد من الشرع في آثار انتهاك تلك الحقوق أو الإخلال بها، يقول نبي الإسلام محمد -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه البخاري عنه: "من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلل منها، فإنه ليس ثَمَّ دينار ولا درهم، من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته، فإن لم يكن له حسنات، أخذ من سيئات أخيه، فطرحت عليه، فطرح في النار" ..

 

 

 

 

إخوة الإسلام: إن المستقرئ لموارد الشريعة المحمدية الغرّاء كليات وجزئيات، يستبين له أن المقصد الأعلى من التشريع هو حفظ نظام الأمة وحياتها، واستدامة صلاحها واستقامتها، ابتداءً بصلاح العقيدة والعمل، وانتهاءً بصلاح أحوال الناس وشؤونهم، بشتى أنواعِها، ومختلف صورها، في انتظام كامل لجلب الصلاح وتكثيره، ودفع الفساد وتقليله.

ألا وإن من وسائل شريعة الإسلام في تحقيق ذلك، أنها جاءت معطيةً حقوقَ العباد مكانتَها الأسمى من الاعتناء والاهتمام، ومنزلتها العظمى من التقدير والاحترام، ومن ذلك ما قامت به شريعة الإسلام من تأمين أصحاب الحقوق، وكيفية انتفاعهم بها على طريق فطري عادل، لا تجد فيه النفوس نفرة، ولا تحسّ في حكمِه بهضيمة.

ومن هذا المنطلق حرصت تعاليم الإسلام الخالدة وتوجيهاته السامية على حقوق العباد حفظًا وصيانةً وتقديرًا وإكرامًا، حتى قرر أهل العلم قاعدتهم المشهورة: "حقوق العباد مبنية على التضييق والمشاحة، وحقوق الله مبنية على التيسير والمسامحة".

وإلى جانبٍ من جوانب تعظيم حقوق العباد ينبّه المولى -جل وعلا- في موضعين من كتابه على ذلك، فيقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْولَكُمْ بَيْنَكُمْ بِلْبَـاطِلِ) [النساء:29]، ويشير إلى ذلك رسوله -صلى الله عليه وسلم- حيث يقول: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسٍ منه". رواه ابن حبان والحاكم في صحيحهما. ويقول -صلى الله عليه وسلم- في قاعدة التشريع: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا"، ويؤكد -صلى الله عليه وسلم- أيضًا هذا المعنى بقوله الجامع: "فعلى اليد ما أخذت حتى تؤديه". صححه الحاكم. وهو متأيِّد بحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أدّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك". حديث صحيح عند المحققين.

عباد الله: وإن من مضامن حقوق العباد التي أرسى الإسلام أصولها، ونظم قواعدها، وجعل لها من الأسس والضمانات ما يكفلها، قضية الديون الخاصة بالآدميين، نعم، إن الإسلام حذّر كل الحذر من التهاون في أداء الدين، أو المطل والتأخير في قضائه، أو التساهل وعدم الاكتراث في أدائه.

إن دين الآدمي في نظر الإسلام أمانة عظمى، ومسؤولية كبرى، يقول -جل وعلا-: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمَـانَـاتِ إِلَى أَهْلِهَا) [النساء:58].

بوب البخاري في صحيحه قائلاً: "باب أداء الديون"، ثم ساق هذه الآية بكمالها، والله -جل وعلا- يقول آمرًا عباده أمرًا جازمًا: (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدّ الَّذِى اؤْتُمِنَ أَمَـانَتَهُ) [البقرة:283]، (يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِلْعُقُودِ) [المائدة:1].

بل ويجيء التشديد من الشرع في آثار انتهاك تلك الحقوق أو الإخلال بها، يقول نبي الإسلام محمد -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه البخاري عنه: "من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلل منها، فإنه ليس ثَمَّ دينار ولا درهم، من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته، فإن لم يكن له حسنات، أخذ من سيئات أخيه، فطرحت عليه، فطرح في النار".

إن نظرة الإسلام لدَيْن الآدمي عظيمة، ولآثاره كبيرة، حتى استثناه الله -جل وعلا- من قاعدة المكفّرات، وأصول الماحيات، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "يغفر الله للشهيد كل ذنب إلا الدَّين". رواه مسلم. وفي رواية له: "القتل في سبيل الله يكفر كل شيء إلا الدين".

وفي حديث أبي قتادة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قام فيهم فذكر أن الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله أفضل الأعمال، فقام رجل فقال: يا رسول الله: أرأيت إن قتلت في سبيل الله تكفَّر عني خطاياي؟! فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "نعم، إن قتلت في سبيل الله، وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر"، ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كيف قلت؟!" قال: أرأيت إن قُتلت في سبيل الله، أتكفر عني خطاياي؟! فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "نعم، وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر، إلا الدين، فإن جبريل قال لي ذلك". رواه مسلم.

ومن منطلق هذا المنهج الرباني، والوحي الإلهي، كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يصلي على جنازة مَنْ عليه دين، عن جابر قال: توفي رجل منا، فغسلناه وحنطناه وكفّناه، ثم أتينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلنا له: تصلي عليه، فخطا خطًى ثم قال: "أعليه دين؟!"، قلنا: ديناران، فانصرف، فتحملهما أبو قتادة، فأتيناه فقال أبو قتادة: هما عليّ، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "حقَّ الغريم، وبرئ منهما الميت"، قال: نعم، فصلى عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. حديث صحيح.

وفي حديث أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يؤتى بالرجل المتوفى عليه الدين، فيسأل -صلى الله عليه وسلم-: "هل ترك لدينه قضاءً؟!"، فإن حُدِّث أنه ترك وفاءً صلى عليه، وإلا قال: "صلوا على صاحبكم"، فلما فتح الله عليه الفتوح قال: "أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفي وعليه دين فعليّ قضاؤه". متفق عليه.

قال أهل العلم: وامتناعه -صلى الله عليه وسلم- من ذلك لأن صلاته شفاعة، وشفاعته لا تردّ، بل هي مقبولة، والدَّين لا يسقط إلا بالتأدية.

إخوة الإسلام: المماطلة من الغني في أداء الدَّين ظلمٌ شنيع، والتسويف والتأخير في توفية الحق عند الوجدان اعتداء فظيع، قال -صلى الله عليه وسلم-: "مطل الغني ظلم". متفق عليه. وفي حديث آخر: "لَيُّ الواجد يحلّ عرضه وعقوبته".

قال أهل العلم: المطل هو المدافعة، والمراد في الحديث تأخير ما استحق أداؤه بغير عذر من قادر على الأداء.

إخوة الإسلام: إن ثمة توجيهات ربانية ووصايا نبوية في قضايا الدين، تُنظر من واقعية لا مثالية، وتنطلق من قاعدة الإحسان والرحمة والشفقة، وتنبثق من أصل اليسر والمرونة والسعة:

منها: الحرص على أن ينطلق العبد في الدين عند الحاجة إليه من مقاصد حسنة، وعزيمة صادقة على الوفاء، ومن نية طيبة في القضاء، لا يبيِّت نية سيئة، ولا يخفي مقصدًا خبيثًا، قال -صلى الله عليه وسلم-: "من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدّى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله". رواه البخاري.

قال أهل العلم: "وتأدية الله عنه تشمل تيسيره تعالى لقضائه في الدنيا، وأداءه عنه في الآخرة، بأن يرفع دينه بما شاء الله إذا تعذَّر على العبد القضاء".

أخرج ابن ماجه وابن حبان والحاكم مرفوعًا: "ما من مسلم يدانُ دينًا، يعلم الله أنه يريد أداءه، إلا أداه الله عنه في الدنيا والآخرة".

والحذر الحذر -أمة محمد- من تبييت نية سيئة أو مقاصد خبيثة، بعدم الوفاء بحقوق العباد، فمن وقع في ذلك عرّض نفسه للإتلاف الوارد في الحديث الآنف: "ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله".

قال أهل العلم: "والإتلاف هنا يشمل إتلاف النفس في الدنيا بإهلاكها، ويشمل أيضًا إتلاف طيب عيشه وتضييق أموره، وتعسّر مطالبه، ومحق بركته، فضلاً عما يحصل له من العذاب في الآخرة".

عباد الله: ومن تلك التوجيهات أمر الشريعة النبيلة بحسن الأداء، والإكرام للدائن عند القضاء، جاء في حديث أبي رافع، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- استسلف من رجل بكرًا، فقدمت عليه إبلاً من إبل الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره، فلم يجد إلا خيارًا، قال -صلى الله عليه وسلم-: "أعطه إياه، فإن خيار الناس أحسنهم قضاءً. رواه مسلم.

معاشر المحسنين: وإن من وصايا الشريعة المحمدية التيسير على أهل الإعسار والفاقة، والتسهيل لأهل الفقر والحاجة، فمن واجبات الإسلام إمهال المعسر عن أداء الدين، والإلزام بإنظار المدين إلى ميسرة، قال تعالى: (وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ) [البقرة:280]. والعسرة هي ضيق الحال من جهة عدم المال.

إخوة الإسلام: التيسير على المعسرين فضله كبير، وأجره عظيم، جاء في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ومن يسّر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة".

ومن أعظم أنواع التيسير الحط من الدين كلاًّ أو جزءًا، قال تعالى: (وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ) [البقرة:280]، جاء في الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كان تاجر يبايع الناس، فإذا رأى معسرًا قال لفتيانه: تجاوزوا عنه لعل الله أن يتجاوز عنا، فتجاوز الله عنه". وفيهما عن حذيفة وأبي مسعود الأنصاري -رضي الله عنهما- أنهما سمعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "مات رجل، فقيل له: بم غفر الله لك؟! فقال: كنت أبايع الناس، فأتجاوز عن الموسر، وأخفف عن المعسر"، وعند مسلم من حديث أبي قتادة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من سرَّه أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه"، وفيه أيضًا في حديث أبي اليسر الطويل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أنظر معسرًا أو وضع عنه أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله".

إخوة الإسلام، معاشر الأغنياء: تفقدوا المساكين، وتفحصوا المزامين، واسوهم بما أعطاكم الله، ويسروا عليهم بما حباكم الله -جل وعلا-، فعند مسلم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة"، وفي المسند: "من أراد أن تستجاب دعوته، وتكشف كربته، فليفرج عن معسر".

فالتزموا تلكم الوصايا -رعاكم الله-، وانهجوا نهجها تسعدوا وتفوزوا، وتنتظم أحوالكم، ويستقم مجتمعكم.

بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعنا بما فيه من الآيات والفرقان، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

 

 

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه.

اللهم صلّ وسلم وبارك وأنعم عليه، وعلى آله وأصحابه وإخوانه.

أما بعد:

فيا أيها المسلمون: أوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَـابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّـاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللَّهَ) [النساء:131].

إخوة الإسلام: ومن الحقوق الواجبة التي أكّد الإسلام على الحرص عليها، والعناية بشأنها، وأكد على عدم المطل بها، أو التسويف في أدائها عند استحقاقها، أجرة الأجراء، وحقوق العمال الضعفاء، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "قال الله -عز وجل-: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرًّا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يعطه أجره". رواه البخاري.

وفي حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه". حديث صحيح له شواهد.

فالتزموا -رعاكم الله- تلك الوصايا، ثم اعلموا أن الله -جل وعلا- أمركم بأمر عظيم، ألا وهو الصلاة والسلام على النبي الكريم.
 

 

 

 

 

المرفقات

.. تحذير ووصايا

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات