خطر الشائعات

ناصر بن محمد الأحمد

2011-02-17 - 1432/03/14
عناصر الخطبة
1/ الشائعات وحروبها المعنوية 2/ تطور وسائل الاتصالات ودورها في تسريع نشر الشائعات في عصرنا 3/ الصفات الذميمة لمروِّج الشائعة 4/ الآثار السيئة للشائعة على الأفراد والمجتمع وأمنه 5/ استخدام الأعداء الشائعات لهدم الدين 6/ نماذج من الشائعات في عصور الدعوة المختلفة قبل الإسلام 7/ نماذج من الشائعات واجهتها الدعوة بعد الإسلام وآثارها 8/ كيفية استئصال الشائعات والقضاء عليها

اقتباس

ومنذ فجر التاريخ، والشائعات تنشب مخالبها في جسد العالم كله، لا سيما في أهل الإسلام، يروّجها ضعاف النفوس، والمغرضون من أعداء الديانة، ويتولى أعداء الإسلام عبر التاريخ، لاسيما اليهود قتلة الأنبياء، ونقضة العهود، كبر الشائعات، بغيةَ هدم صرح الدعوة الإسلامية، والنيل من أصحابها، والتشكيك فيها، ولم يسلم من شائعاتهم حتى الأنبياء، عليهم صلوات الله وسلامه، فقد تعرّضوا ..

 

 

 

 

أيها المسلمون: منذ أن خلق الله الخليقة وُجد الصراع بين القوى، صراعٌ يستهدف أعماق الإنسانية، ويؤثِّر في كيان البشرية، وإذا كانت الحروب والأزَمات، والكوارث والنكَبات، تستهدف بأسلحتها الفتَّاكة الإنسانَ من حيث جسده وبناؤه، فإن هناك حرباً سافرة مستتِرة تتوالد على ضفاف الحوادث والملِمَّات، وتتكاثر زمن التقلبات والمتغيّرات، وهي أشدّ ضراوة، وأقوى فتكا، لأنها تستهدف الإنسان من حيث عطاؤه، وقيمُه ونماؤه، أتدرون، يا رعاكم الله، ما هي هذه الحرب القذرة؟! إنها حرب الشائعات.

الشائعات من أخطر الحروب المعنوية، والأوبئة النفسية، بل هي من أشد الأسلحة تدميراً، وأعظمها وقعاً وتأثيراً، وليس من المبالغة في شيء إذا عُدَّت ظاهرةً اجتماعية عالمية، لها خطورتها البالغة على المجتمعات البشرية، وإنها جديرة بالتشخيص والعلاج، وحرِيةٌ بالتصدي والاهتمام، لاستئصالها والتحذير منها، والتكاتف للقضاء على أسبابها وبواعثها، حتى لا تقضي على الروح المعنوية في الأمة، التي هي عماد نجاح الأفراد، وأساس أمن واستقرار المجتمعات، وركيزة بناء أمجاد الشعوب والحضارات.

تعتبر الشائعات من أخطر الأسلحة الفتاكة والمدمِّرة للمجتمعات والأشخاص، فكم أقلقت الإشاعة من أبرياء، وكم حطمت الإشاعة من عظماء، وكم هدمت الإشاعة من وشائج، وكم تسببت الشائعات في جرائم، وكم فكَّكت الإشاعة من علاقات وصداقات، وكم هزمت الإشاعة من جيوش، وكم أخَّرت الإشاعة من سيْر أقوام.

ولخطر الشائعات فإننا نرى الدول تهتم بها، والحكام ورؤساء الدول يرقبونها، معتبرين إياها؛ بل إن كثيرا من دول العالم تسخِّر وحَدات خاصة في أجهزة استخباراتها لرصد وتحليل ما يبث وينشر من الإشاعات، بانين عليها توقُّعاتهم لبعض الأحداث، ولن نكون مبالغين إذا قلنا إن الإشاعة ربما تُقيم دولاً، وتسقط أخرى.

إن المستقرئ للتاريخ الإنساني يجد أن الشائعات وُجدت حيث وُجد الإنسان، بل إنها عاشت وتكاثرت في أحضان كل الحضارات، ومنذ فجر التأريخ والشائعة تمثّل مصدر قلقٍ في البناء الاجتماعي، والانتماء الحضاري، لكل الشعوب والبيئات.

ولما جاء الإسلام اتخذ الموقف الحازم من الشائعات وأصحابها، لما لنشرها وبثها بين أفراد المجتمع من آثار سلبيةٍ على تماسك المجتمع المسلم، وتلاحم أبنائه، وسلامة لُحْمته، والحفاظ على بيضته؛ بل لقد عدّ الإسلام ذلك سلوكا مرذولاً منافياً للأخلاق النبيلة، والسجايا الكريمة، والمثل العليا، التي جاءت بها وحثت عليها شريعتنا الغراء، من الاجتماع والمحبة والمودّة والإخاء، والتعاون والتراحم والتعاطف والصفاء؛ وهل الشائعة إلا نسفٌ لتلك القيم؟! ومعول هدم لهذه المثُل؟!.

أيها المسلمون: إذا كان في دنيا النبات طفيليات تلتفُّ حول النبتة الصالحة، لتفسد نموّها، فإن الشائعات ومروّجيها أشدُّ وأنكى، لما يقومون به من خلخلة البُنى التحتية للمجتمع، وتقويض أركانه، وتصديع بنيانه، فكم تجنّوا على أبرياء؟ وأشعلوا نار الفتنة بين الأصفياء؟ وكم نالوا من علماء وعظماء؟ وكم هدّمت الشائعة من وشائج؟ وتسبّبت في جرائم؟ وفكَّكَت من أواصر وعلاقات؟ وحطّمت من أمجاد وحضارات؟ وكم دمّرت من أسر وبيوتات؟ وأهلكت من حواضر ومجتمعات؟ بل، لرب شائعة أثارت فتنا وبلايا، وحروباً ورزايا، وأذكت نار حروب عالمية، وأججت أوار معارك دولية، وإن الحرب أوّلها كلام، ورب مقالة شرّ أشعلت فتناً لأن حاقداً ضخّمها ونفخ فيها.

ومروّج الشائعة، يا عباد الله، لئيم الطبع، دنيء الهمة، مريض النفس، منحرف التفكير، صفيق الوجه، عديم المروءة، ضعيف الديانة، يتقاطر خسَّة ودناءة، قد ترسّب الغلّ في أحشائه، فلا يستريح حتى يُزبد ويُرغي، ويُفسد ويؤذي، فتَّانٌ فَتَّاكٌ، ساع في الأرض بالفساد، يجلب الفتن للبلاد والعباد.

إنه عضو مسموم، ذو تجاسر مذموم، وبذاء محموم، يسري سريان النار في الهشيم، يتلوّن كالحرباء، وينفث سمومه كالحية الرقطاء، ديدنه الإفساد والهمز، وسلوكه الشر واللمز، وعادته الخبث والغمز، لا يفتأ إثارة وتشويشاً، ولا ينفك كذباً وتحريشاً، ولا يبرح تقوّلا وتهويشاً، فكم حصلت وحصلت من جناية على المؤهلين الأكفاء بسبب شائعة دعيٍّ مأفون، ذي لسان شرير، وقلم أجير، في سوء نية، وخبث طوية، وهذا سرّ النـزيف الدائم في جسد الأمة الإسلامية.

ومنذ فجر التاريخ، والشائعات تنشب مخالبها في جسد العالم كله، لا سيما في أهل الإسلام، يروّجها ضعاف النفوس، والمغرضون من أعداء الديانة، ويتولى أعداء الإسلام عبر التاريخ، لاسيما اليهود قتلة الأنبياء، ونقضة العهود، كبر الشائعات، بغيةَ هدم صرح الدعوة الإسلامية، والنيل من أصحابها، والتشكيك فيها، ولم يسلم من شائعاتهم حتى الأنبياء -عليهم صلوات الله وسلامه-، فقد تعرّضوا لحملة من الافتراءات والأراجيف ضد رسالتهم، تظهر حينا، وتحت جُنح الظلام أحياناً، (فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ) [البقرة: 87].

فهذا المسيح -عليه السلام- تُشَكِّك الشائعات المغرضة فيه وفي أمة الصديقة: (ياأُخْتَ هَـارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْء، وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً) [مريم:28]، ويوسف-عليه السلام- نموذج من نماذج الطهر والنقاء ضد الشائعات المغرضة التي تمس العرض والشرف: (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوء وَلْفَحْشَاء، إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) [يوسف:24].

ونبي الله هود-عليه السلام- يشاع عنه الطيش والخفة كما قال تعالى: (إنَّا لَنَراكَ في سَفَهَاهةٍ، وإنَّا لَنَظُنُّكَ من الكاذِببين) [الأعراف:66]، ومرة يشاع عنه أنه أصيب في عقله: (قالوا يا هودُ ما جئْتَنا بِبيِّنة، وما نحن بتاركي آلهتِنا عن قولك، وما نحن لك بمؤمنين * إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء، قال إني أُشهد الله واشْهَدوا أني برئ مما تشركون) [هود:53-54].

والشائعة التي انتشرت أن كفار قريش قد أسلموا، وذلك بعد الهجرة الأولى للحبشة، كانت نتيجتها أن رجع عدد من المسلمين إلى مكة، وقبل دخولهم علموا أن الخبر كذب، فدخل منهم من دخل، وعاد من عاد، فأما الذين دخلوا فأصاب بعضهم من عذاب قريش ما كان هو فارٌّ منه، فلله الأمر من قبل ومن بعد.

وفي معركة أحد، عندما أشاع الكفار أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قُتِل، فتّ ذلك في عضد كثير من المسلمين، حتى إن بعضهم ألقى السلاح وترك القتال، فتأملوا، رحمكم الله! تأثير الإشاعة.

والشائعة الكاذبة التي صُنعت ضد الخليفة الراشد عثمان بن عفان -رضي الله تعالى عنه- ترتب عليه أن تجمع أخلاط من المنافقين ودهماء الناس وجهلتهم، وأصبحت لهم شوكة، وقُتل على إثرها خليفة المسلمين بعد حصاره في بيته، وقطع الماء عنه.

بل كان من آثار هذه الفتنة أن قامت حروب بين الصحابة الكرام، كمعركة الجمل وصفين؛ فمَن كان يتصور أن الإشاعة تفعل كل هذا؟.

بل إنه خرجت على إثرها الخوارج، وتزندقت الشيعة، وترتب عليها ظهور المرجئة والقدرية، ثم انتشرت البدع بكثرة، وظهرت فتن وقلاقل كثيرة، ما تزال الأمة الإسلامية تعاني من آثارها إلى اليوم.

والسيرة العطرة لرسول الهدى -صلى الله عليه وسلم- أنموذج يحمل في طياته نماذج حية لتأريخ الشائعات، والموقف السليم منها، فقد رُميت دعوته المباركة بالشائعات منذ بزوغها، فرُمي بالسحر والجنون والكذب والكهانة، وتفنن الكفار والمنافقون الذين مردوا على النفاق في صنع الأراجيف الكاذبة، والاتهامات الباطلة ضد دعوته -صلى الله عليه وسلم-.

ولعل من أشهرها قصة الإفك، تلك الحادثة التي كشفت عن شناعة الشائعات، وهي تتناول بيت النبوة الطاهرة، وتتعرّض لعرض أكرم الخلق على الله، وعرض الصدّيق والصدّيقة وصفوان بن المعطل -رضي الله عنهم أجمعين-.

وتشغل هذه الشائعة المسلمين بالمدينة شهراً كاملاً، والمجتمع الإسلامي يصطلي بنار تلك الفرية، ويتعذّب ضميره، وتعصره الشائعة الهوجاء عصراً، ولولا عناية الله، لعصفت بالأخضر واليابس، حتى تدخّل الوحي ليضع حداً لتلك المأساة الفظيعة، ويرسم المنهج للمسلمين عبر العصور للواجب اتخاذه عند حلول الشائعات المغرضة: (لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَلْمُؤْمِنَـاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً، وَقَالُواْ هَـاذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ) [النور:12]، إلى قوله سبحانه: (وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَـاذَا، سُبْحَـانَكَ هَـاذَا بُهْتَـانٌ عَظِيمٌ! * يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَداً إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ) [النور:16-17].

تقول عائشة -رضي الله عنها-: "فمكثت شهراً لا يرقأ لي دمعٌ، ولا أكتحل بنوم"، حتى برّأها الله من فوق سبع سماوات -رضي الله عنها وأرضاها-.

إن هذه الحادثة هي حدث الأحداث في تأريخه عليه الصلاة والسلام، فلم يُمكَر بالمسلمين مكرٌ أشد من تلك الإشاعة، وهي مجرد إشاعة مختلقة بيَّن الله تعالى كذبها.

ومن ذلك أيضاً استغلال الكفار والمنافقين لحادث موت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين أخذوا يشنون الحرب النفسية ضد المسلمين عن طريق الشائعات المغرضة، زاعمين أن الإسلام قد انتهى، ولن تقوم له قائمة، حتى أثّر ذلك على بعض الصحابة -رضي الله عنهم-، وظل الناس في اضطراب حتى هيّأ الله الصدّيق أبا بكر -رضي الله عنه- فحسم الموقف بتذكير الأمة بقول الحق تبارك وتعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ، أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَـابِكُمْ؟ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً، وَسَيَجْزِى اللَّهُ الشَّـاكِرِينَ) [آل عمران:144].

أيها المسلمون: وتتطوّر الشائعات بتطور العصور، ويمثّل عصرنا الحاضر عصراً ذهبياً لرواج الشائعات المغرضة، وما ذاك إلا لتطوّر التقنيات، وكثرة وسائل الاتصالات، التي مثَّلت العالم قرية كونية واحدة، فآلاف الوسائل الإعلامية، والقنوات الفضائية، والشبكات المعلوماتية، تتولّى كِبرَ نشر الشائعات المغرضة، والحملات الإعلامية المحمومة، في صورة من أبشع صور الإرهاب النفسي، والتحطيم المعنوي، له دوافعه المشينة، وأغراضه المشبوهة، ضد عقيدة الأمة ومُثلها، وثوابتها وقيمها.

إنها ألغام معنوية، وقنابل نفسية، ورصاصات طائشة، تصيب أصحابها في مقتل، وتفعل في غرضها ما لا يفعله العدوّ بمخابراته وطابوره الخامس، مركّزة على شائعات الخوف والمرض، وإثارة القلق والرعب والحروب، وزرع بذور الفتنة، وإثارة البلبلة بين الناس، لا سيما في أوقات الأزمات، يوافق ذلك فراغ عند المتلقي وفضول، وبطالة وخمول، فتسري الشائعة في الناس مسرى الهواء، وتهيج فيهم هيجان البحر المتلاطم، وتكمن خطورتها أنها سلاحٌ جنوده مغفّلون أغرار، سحرتهم الشائعات ببريقها الخادع، فأصبحوا يرددونها كالبَّبغاوات، دون أن يدركوا أنهم أدوات، يُستخدمون لمصالح أعدائهم، وهم لا يشعرون.

كم كان للشائعات آثارها السلبية على الرأي العام، وصنّاع القرار في العالم، وكم كانت سبباً في أن يصرف الأعداء جبهة الأمة الداخلية عن مشكلاتها الحقيقية لإغراقها في مشكلات مفتعلة، علاوة على تمزيق الوحدة الإسلامية، والعمل على تفتيت الجبهة الداخلية.

أيها المسلمون: الشائعات جريمة ضد أمن المجتمع، وصاحبها مجرم في حق دينه ومجتمعه وأمته، مثيرٌ للاضطراب والفوضى في الأمة، وقد يكون شراً من مروّج المخدرات، فكلاهما يستهدف الإنسان، لكن الاستهداف المعنوي أخطر وأعتى.

وإنك لتأسف أشد الأسف ممن يتلقى الشائعات المغرضة وكأنها حقائق مسلّمة، يجلس أحدهم الساعات الطوال أمام أجهزة الشبكات المعلوماتية بوجهها الكالح، وما يعرف بجهاز الإنترنت، عبر مواقع كثيرة، فيلطّخ سمعه وبصره من الشائعات الباطلة، وتلفيق التهم الصفيقة، مما تجفل القلوب من مجرّد سماعه، وتتحرّج النفوس المؤمنة من مطالعته، فضلاً عن البوح به، وما درى مَن هم هؤلاء الكتّاب، خفافيش الظلام، وكلها أسماء مستعارة، وقد يكون بعضهم أدوات في أيدي من يُعرف باللوبي الصهيوني العالمي، ضد أمن الأمة ومجتمعاتها الإسلامية، وإنه ليُخشى لمن أدمن النظر فيها أن يخسر دينه ودنياه وآخرته، وأن يلتبس عليه الحق بالباطل، فينحرف عن جادة الصواب، والعياذ بالله.

وهل يجوز لنا، ويليق بنا، نحن أهلَ الإسلام، أن نتخلى عن شيء من ثوابتنا؟‍ أو أن تهتزَّ بعض قناعاتنا؟ أو أن نظن غير الحق بأحدٍ من علمائنا وفضلائنا، لمجرّد وشاية كاذبة، أو شائعة مغرضة؟‍ أين عقولنا وتفكيرنا؟ بل أين ديننا وإيماننا؟ كيف نتلقف كل شيء تحت شعار قالوا وزعموا؟.

يقول الإمام الذهبي رحمه الله: "ولو أن كلَّ عالم تركنا قوله بمجرّد خطأ وقع فيه، أو كلام الناس فيه، ما سلم معنا أحد، ونعوذ بالله من الهوى والفظاظة".

ومن هنا تدركون، يا رعاكم الله، خطورة هذه الحرب ضد دين الأمة وأمنها ومجتمعها، مما يتطلب ضرورة التصدي لها، وأهمية مكافحتها، والتخطيط لاستئصال جرثومتها، حتى لا تقضي على البقية الباقية من تماسك المجتمع، وتلاحم أفراده.

إن واجب علماء الأمة ودعاتها، وطلاب العلم فيها وشبابها، كبير وعظيم، فإنهم مستهدفون، فعليهم أن يدركوا أبعاد المؤامرة، وأن لا يكونوا ميداناً خصباً لتواجدها، وانتشارها بينهم، وأن يحرصوا على التثبت والتبيّن، وأن يحذروا مسالك التأويل والهوى، واتباع المتشابه، وأن يقفوا في الأحداث عن علم وبصيرة، وينظروا ببصر نافذ، ونظر ثاقب، وظنّ حسن، بعيداً عن إيغار الصدور، وبث الشائعات والشرور، معتصمين بالكتاب والسنة، متخذين من موقف السلف الأنموذج عند الفتن.

والأمة مطالبة، كلٌ في مجاله، بالقضاء على هذه الظاهرة التي لها آثارها المدمرة ضد أمن الأمة واستقرار المجتمع، كما أن على البيت والمسجد والأسرة والمدرسة ووسائل الإعلام دوراً كبيراً في المحافظة على سلامة المجتمع من شرورها وأخطارها، بدءاً بالوعي، وتقوية الوازع الإيماني، وتبيين الحقائق ونشرها، وعدم التساهل في نقل الكلام وبث الأنباء، لا سيما في أوقات الأزمات، وعدم التهويل والإثارة في التعليقات، والمبالغة في التحليلات، دون تزييف أو التواء، رفعاً للروح المعنوية، وبعداً عن الخور والضعف والانهزامية، كما قال سبحانه: (لَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَـاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَنْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء وَتَّبَعُواْ رِضْونَ اللَّهِ وَللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذلِكُمُ الشَّيْطَـانُ يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ) [آل عمران:173-175].

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه كان حليما غفوراً.

 

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله مبدع الكائنات، وبارئ النسمات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له جزيل العطايا والهبات، وواهب الخيرات والبركات، أمر بالصدقِ وحرّم الأكاذيب والشائعات.

وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله أفضل البريات، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أولي الفضل والمكرمات، والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله، عبادَ الله، واعملوا أن دينكم الإسلامي الحنيف رسم المنهج الصحيح لمواجهة أخطار الشائعات، قاصداً من ذلك بناء المجتمع المسلم المتماسك، فأقام الضمانات الواقية، والحصانات الكافية، التي تحول دون معاول الهدم والتخريب، ومستنقعات الترويج والتأليب، أن تتسلّل إليه، أو تؤثِّر عليه، في غفلة من أهل الوعي والصلاح، فتتناثر حبات عقده الناصح، وتتشتت لبنات بنائه المحكَم، فلا يقوى على التصدي لعاتيات العواصف والفتن، وتلاطمات أمواج المحن، فيوشك أن تغرق سفينته، أو يتغير مسارها الصحيح، أو تحدث فيه الشروخ والخروق، فتطوّح بها بعيداً عن شاطئ السلامة، وساحل النجاة.

وإن من أولى الخطوات في مواجهة حرب الشائعات تربية النفوس على الخوف من الله، والتثبت في الأمور، فالمسلم لا ينبغي أن يكون أذنا لكل ناعق، بل عليه التحقق والتبيّن، وطلب البراهين الواقعية، والأدلّة الموضوعية، والشواهد العملية، وبذلك يُسدّ الطريق أمام الأدعياء، الذين يعملون خلف الستور، ويلوكون بألسنتهم كل قول وزور، ضد كل مصلح ومحتسب وغيور.

أيها المسلمون: نستطيع أن نحدد طريقة التعامل مع الشائعات في أربعة نقاط مستنبطة من قصة الأفك، التي رسمت منهجاً للأمة في طريقة تعاملها مع أية شائعة، إلى قيام الساعة.

أما النقطة الأولى فهي أن يقدم المسلم حسن الظن بأخيه المسلم، قال الله تعالى: (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً) [النور:12].

والنقطة الثانية أن يطلب المسلم الدليل البرهاني على أية إشاعة يسمعها، كما قال تعالى: (لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء) [النور:13].

والنقطة الثالثة أن لا يتحدث بما سمعه ولا ينشره، فإن المسلمين لو لم يتكلموا بأية إشاعة، لماتت في مهدها، قال الله تعالى: (ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا) [النور:16].

أما النقطة الرابعة فهي أن يرد الأمر إلى أولى الأمر ولا يشيعه بين الناس أبداً، وهذه قاعدة عامة في كل الأخبار المهمة، والتي لها أثرها الواقعي، قال الله تعالى: (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به، ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم، ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً) [النساء:83].

إذاً، يا عباد الله، إذا حوصرت الشائعات بهذه الأمور الأربعة، فإنه يمكن أن تنتهي آثارها السيئة المترتبة عليها بإذن الله عز وجل.

 

 

 

 

 

المرفقات

الشائعات

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات