عناصر الخطبة
1/ صيحات تحذير من أضرار الفراغ 2/ منشأ مشكلة الفراغ 3/ أضرار الفراغ ومفاسده 4/ سوء استغلال أوقات الفراغ 5/ الفراغ سلاح ذو حدين 6/ فوائد استغلال الفراغ في الخير 7/ لا فراغ في حياة المسلم 8/ لا بد من التخطيط السليم لاستثمار الفراغ 9/ واجب المؤسسات التعليمية والتربوية 10/ وسائل مفيدة لملء الفراغاقتباس
الفراغ داء قتال للفكر والعقل والطاقات الجسمية، فالنفس لا بد لها من حركة وعمل، فإذا كانت فارغة من ذلك تبلَّد الفكر، وثقل العقل، وضعفت حركة النفس، ويصبح الفراغ -عباد الله- مشكلة حقيقية ظاهرة في الإجازة الصيفية، حيث يجد الشباب مساحة من الوقت كثيرة واسعة، ولا يجد ما يملؤها به من جادّ العمل وجيِّده، وقد يكون هذا الفراغ قاتلاً ...
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فهي السعادة في الدارين، والنجاة يوم يقوم الناس لرب العالمين: (ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
عباد الله: دارَ الزمان دورتَه، وأقبل الصيف بحر نهاره الطويل وليله القصير، ومع هذه البداية تتعالى الصيحات محذرة من أضرار الفراغ على النشء، وما قد يسببه لهم من جنوح وانحراف، وقتُ الفراغ باتساعه الخطير الذي أفرزته الحضارة المعاصرة غدا خطرًا وعبئًا كبيرًا على حركة المجتمع، وهو في العصر الحاضر يتجاوز فراغ الوقت إلى فراغ النفس وفراغ القلب وفراغ القيم والمبادئ وفراغ الأهداف الجادة.
لقد نشأت مشكلة الفراغ عن انعدام الهدف من الحياة، فليست مشكلة الفراغ أصيلة نابعة من فطرة الإنسان، وإنما هي مشكلة طارئة نابعة من جنس الحضارة المعاصرة.
الفراغ يجعل الإنسان يشعر بأنه لا فائدة له، وأنه عضو مشلول في المجتمع لا ينتج ولا يفيد، فالإنسان الفارغ لا يترقب شيئًا تهفو إليه نفسه كنتيجة لعمله، فهو بلا هدف في الحياة، وأيُّ حياة هذه التي لا هدف لها.
الفراغ وسيلة من وسائل إبليس، يوسوس بها للإنسان، فيثير فيه كوامن الغريزة ويُلهبها فتحرقه؛ إذ إن وفرة الوقت دون عمل أيًّا كان يوقع صاحبه في أسر الوساوس الشيطانية والهواجس النفسية الخطيرة.
الفراغ داء قتال للفكر والعقل والطاقات الجسمية، فالنفس لا بد لها من حركة وعمل، فإذا كانت فارغة من ذلك تبلَّد الفكر، وثقل العقل، وضعفت حركة النفس، ويصبح الفراغ -عباد الله- مشكلة حقيقية ظاهرة في الإجازة الصيفية، حيث يجد الشباب مساحة من الوقت كثيرة واسعة، ولا يجد ما يملؤها به من جادّ العمل وجيِّده، وقد يكون هذا الفراغ قاتلاً، بل يرى كثير من الباحثين أن وقت الفراغ عامل رئيس في الانحرافات المختلفة، ففشو المخدرات مثلاً واستفحالها في كثير من المجتمعات المسلمة ناتج عن غياب السيطرة الرشيدة على مشكلة وقت الفراغ.
من السهل أن ينقاد شاب يعيش في فراغ ليقع فريسة لتأثير الآخرين، ومن قرأ سير أولئك الذين وقعوا فريسة أصحاب المذاهب المنحلة والأفكار الفاسدة يجدهم كانوا من الشباب الذين يعانون من الفراغ، وشهد علماء الاجتماع أن نسبة الجرائم والمشكلات الخلقية تتناسب طردًا مع زيادة الفراغ في أي زمان ومكان؛ ولذا ينتشر بين الشباب ظاهرة إشغال وقت الفراغ بعيدًا عن المراقبة والإشراف والتوجيه، بالتجول في الشوارع والأسواق دون مسوّغ نافع، فيمارسون هدر الوقت وتتبع العورات، وكذا الجلوس في المقاهي وعلى جوانب الطرقات، مع إفساح المجال للعنصر الفاسد أن يؤدي دوره، ويصولَ ويجولَ، يشجِّعهم على المفاسد، يجرُّهم إلى العادات الضارة، إنها قد تكون ساعات قاتلة، بل هي قاتلة.
وقد يقضي الشاب جلَّ وقته مع الفضائيات، فتنقطع علاقاته العاطفية والاجتماعية، وسيعاني من الصراع مع ذاته أولاً، ثم مع أهله ومجتمعه، وسيشعر بالنقص والكبت والحرمات، ثم يصبح مصدر إزعاج بخروجه على المألوف، وانعدام التزامه وجهله بحقوقه وحقوق الآخرين، ومن ثم الهروب إلى الممنوع.
وبهذا نعلم أن من حق الآباء والمربين إذًا أن يحذروا آفات الفراغ، وأن يحصنوا النفوس من شرورها، ومن المؤسف حقًّا أن الناس ينتبهون نوعًا ما إلى إهدار المال، ويعرفون مدى خسارته، بينما لا يدركون معاني إهدار الوقت، وما أصدق كلمة الفاروق عمر بن الخطاب حينما قال لعامله: "إن هذه الأيدي لا بد أن تُشغل بطاعة الله قبل أن تشغلك بمعصيته".
الفراغ -عباد الله- لا يبقى فراغًا أبدًا، فلا بد أن يُملأ بخير أو شر، وما لم يشغل نفسه بالحق شغلته بالباطل، فطوبى لمن ملأه بالخير والصلاح.
إن السيطرة الرشيدة على وقت الفراغ وتصريفه في قنواته المناسبة يضمن للأمة ارتقاءها بطاقات أبنائها، ويكسبها مناعة ولقاحًا في وجه السموم والأوبئة الفكرية، ويتيح للأمة القدرة على سد منافذ الانحراف السلوكي؛ ولهذا حرص الإسلام على شغل أوقات الفراغ بعد الواجبات بالعمل النافع المثمر، بحيث لا يجد الإنسان الفراغ الذي يشكو منه، ويحتاج في ملئه إلى تبديد الطاقة أو الانحراف، بل إن الأصل في حياة المسلم أنه لا يوجد فيها وقت فراغ، ذلك أن الوقت والعمر في حياة المسلم ملك لله، والتربية الإسلامية تعوّد الناشئ ليرى كل ساعات الحياة ولحظاتها أمانة في عنقه، يشغلها بالخير، دعا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- دعوة صريحة إلى أن نستفيد من ساعات فراغنا قبل أن تمضي فقال: "اغتنم خمسًا قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك". أخرجه الحاكم من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-.
تأمل هذا العمق التربوي من معلم البشرية نبينا محمد –صلى الله عليه وسلم- في توجيه بليغ يجعل الفراغ موسمًا للاستثمار، وتجارة رابحة يدّخر فيها المسلم من الصحة ليوم السقم، ومن الشباب للهرم، ومن الغنى للفقر، إنها دعوة للإفادة من ساعات الفراغ قبل أن تمضي فلا تعود، اغتنمها قبل حلول مرض مقعِد أو كبر مفنِّد أو بلاء مشغل، ولقد صدَّق فعلُ رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قولَه في الحث على الاستفادة من الوقت، فلم يكن في حياته ثمة فراغ، بل كيف يُتصور الفراغ في حياته –صلى الله عليه وسلم- وهو يتلقى عن ربه قوله تعالى: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَنصَبْ * وَإِلَى رَبّكَ فَرْغَبْ) [الشرح: 7، 8]؟!
هذا خطاب لكل مسلم، أي: لا تبقَ -أيها المسلم- فارغًا أبدًا، فإذا فرغت من عمل فابدأ في عمل آخر، إذا فرغت من عمل دينك فاشتغل بعمل دنياك، وإذا فرغت من عمل دنياك فاشتغل بعمل دينك، وإذا فرغت من حاجة بدنك، فخذ غذاءً لقلبك أو متعة لروحك، وإذا فرغت من شأن نفسك فأقبل على شأن أسرتك، ثم على شأن مجتمعك وأمتك، وهكذا لا فراغ أبدًا إلا استجمام وتأهب للعمل، تقول عائشة -رضي الله عنها- عن الرسول الأسوة –صلى الله عليه وسلم-: "ولا رُئِيَ قط فارغًا في بيته". ويقول ابن مسعود -رضي الله عنه-: "إني أكره أن أرى الرجل فارغًا لا في عمل دنيا ولا آخرة". وروي أيضًا: "إني لأبغض الرجل أن أراه فارغًا، ليس في شيء من عمل الدنيا ولا في عمل الآخرة". ورأى شريح القاضي جيرانًا له يجولون فقال: ما لكم؟! فقالوا: فرغنا اليوم، فقال شريح: "وبهذا أُمِر الفارغ؟!".
لا شك -عباد الله- أن هذه النصوص تشكل دافعًا يحفِّزنا لتوظيف دقائق أعمارنا في عمارة الأرض، أو إنجاز عمل نافع لنا أو لغيرنا من الناس، أو للترويح المشروع عن أنفسنا ومن نعول، فإذا أصبح ذلك نموذجًا متَّبعًا في أمة فإن مجموع إنتاجية أفرادها سيحدث لها تقدمًا في ميدان العلم والتقنية والعمل الخدمي للناس، يقول الشافعي -رحمه الله- راسمًا للأجيال قاعدة تربوية: "إذا لم تشغل نفسك بالحق شغلتك بالباطل". إذا لم تَدُرِ النفس في حركة سريعة من مشروعات الخير والبر والتطوع لم تلبث أن تنهبها الأفكار الطائشة وتلفها دوامة الترهات، والأفضل أن يرسم الإنسان لنفسه منهجًا يستغرق وقته ويسد منافذ الشيطان؛ ليجعل من وقت الفراغ فراغًا عاملاً، يعود على جسمه بالصحة، وعلى عضلاته بالقوة، وعلى بدنه بالنشاط والحيوية، وعلى مجتمعه بالنفع والفائدة.
إن كثيرًا من شباب الأمم الناهضة ينتهزون أوقات الإجازات والفراغ لتنمية الملكات، واستغلال المواهب، وتوسيع الأفكار، وتثقيف العقول بالجديد من العلوم والمعارف والآداب.
كلنا يعلم أن الفراغ قضية واقعة لا نستطيع إنكارها، إلا أننا نستطيع بالتخطيط السليم التخلص من الملل، وتوجيه الرغبات الكامنة، وإحياء الملكات المخبوءة، والتنمية الشخصية للملكات والإمكانات، وتعزيز العادات الطيبة، وتعليمهم تحمل المسؤولية ضمن برامج هادفة ووسائل متنوعة، تجمع بين التوجيه والإرشاد والترويح والاستجمام، وإذا نهض بهذا الواجب أهل التربية والاجتماع والإصلاح شكلوا واحة تجتذب الشباب إليها عبر ما يطرحونه من برامج وأنشطة تلبي رغبات وطموح أبنائها، حتى لا يكونوا عرضة للآثار السلبية للصيف وفراغه، وإهدار طاقات الأمة الفاعلة، يقول علي -رضي الله عنه-: "من أمضى يومًا في غير حق قضاه، أو فرض أدّاه، أو مجد بناه، أو حمد حصله، أو خير سمعه، أو علم اقتبسه، فقد عقَّ يومه".
وهكذا -عباد الله- لا توجد هذه المشكلة في حياة المسلم، لا يمكن أن يوجد فراغ في قلب عامر بذكر الله، ولا في روح متعبِّدة لله.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمد الشاكرين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله إمام المتقين والصابرين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله.
إن خطورة الفراغ وثقل الإجازة يلقي بالمسؤولية والتبعة على مؤسساتنا التعليمية والاجتماعية والخدمية، وعلى الآباء والمربين، في توظيف أوقات الفراغ، ووضع برامج تنسجم وتطلعات الأمة في استثمار طاقات الأبناء وتستوعبهم في محاضنها.
من الوسائل المفيدة لملء الفراغ القراءة الهادفة، حضور المحاضرات والندوات، أداء حقوق الوالدين ومزيد من برهم، صلة الرحم، الاشتراك في الأنشطة الاجتماعية المفيدة، تعلم حرفةٍ مهنية، الإحسان إلى الضعفاء والمساكين والملهوفين والأيتام، الاجتهاد في طلب العلم، السعي للإصلاح بين الناس، زيارة الحرمين، أداء العمرة، كذا الدروس العلمية والدورات في المساجد نعمة يجب الاستفادة منها واستثمارها، وهذا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقدم بعض مجالات النشاط التطوعي فيقول: "تبسُّمك في وجه أخيك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وإماطتك الحجر والشوك والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة". أخرجه الترمذي من حديث أبي ذر -رضي الله عنه-.
ألا وصلوا -عباد الله- على رسول الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَـائِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً) [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم