عناصر الخطبة
1/ ختم شهر رمضان بتوبة نصوح 2/ فائدة إيراد القصص في القرآن 3/ رمضان والبكاء من خشية الله 4/ زكاة الفطر طهرة للصائم 5/ استحباب التكبير ليلة عيد الفطر إلى صلاة العيداقتباس
إنّ مثَل شهرِ رمضان المبارك كمثَل حبلٍ متين وثيقِ الفَتل، من تمسّك به فكأنّما هو يُمدِد بسببٍ إلى السّماء من الإيمانِ والمسارعةِ إلى الخيرات، ثمّ إنّ الانسجام المتكاملَ مع رَوحانيةِ هذا الشّهر لا يكفله إلاّ الانسجام التامّ مع أُطُر الشريعةِ الغرّاء، وثوابتِها المتينة، والمفهوم الصحيح لمعنى شهرِ رمضان المبارك، ومعنى حرمتِه وعظمته...
إن الحمد لله...
أما بعد:
أيها المسلمون: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله -عزّ وجلّ-؛ إذ بها المعتَصَم وإليها الملتزَم، فما خاب من عمِل بها، ولا حار من لامَست شغافَ قلبه، بها النّجاة وفيها الحياة: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِر) [القمر: 54، 55].
أيّها المسلمون: إنّ مثَل شهرِ رمضان المبارك كمثَل حبلٍ متين وثيقِ الفَتل، من تمسّك به فكأنّما هو يُمدِد بسببٍ إلى السّماء من الإيمانِ والمسارعةِ إلى الخيرات، ثمّ إنّ الانسجام المتكاملَ مع رَوحانيةِ هذا الشّهر لا يكفله إلاّ الانسجام التامّ مع أُطُر الشريعةِ الغرّاء، وثوابتِها المتينة، والمفهوم الصحيح لمعنى شهرِ رمضان المبارك، ومعنى حرمتِه وعظمته.
أيّها المسلمون: إنّ شهرَكم هذا قد تقارب تمامُه وتصرَّمت لياليه الفاضلةُ وأيّامه، وآذن للمَلأ برحيله، وإذا لم يكن هذا الشهر هو شهرَ التّوبة فمتى تكون التّوبة إذًا؟! وإذا لم يكن هذا الشهرُ هو شهرَ التصحيح والتغيير على الأحسن فمتى يكون التصحيح إذًا؟! وسنظلّ نقول: متى إذًا؟! ومتى إذًا؟!
أيّها المسلمون: كتابُ الله -جلّ وعلا- هو إعلامُ المسلمين الصادِق ومنبَع التوجيه والتربيّة الصافية، الذي لا تشوبه مطامِع ولا تكدّره حظوظ، فهو ليس إعلامًا يُذكِي الخنَا أو يُضرم الجريمةَ أو يحلق الأخلاقَ الفاضلة والمُثُل السامية، كلا، إنّه إعلامٌ من ربّ العالمين، لا تُطفَأ مصابيحه، ولا يُهزَم أنصاره، هو الحقّ ليس بالهزل، بالحقّ أنزله الله، وبالحقّ نزل، مَن عمل به أُجِر، ومن حكَم به عدَل، ومن ابتغى الهدى من غيرِه أضلّه الله، به يرفَع الله أقوامًا ويضَع آخرين.
إنّ جموعَ المسلمين عن اليمينِ وعن الشّمال عِزين، شَرقًا وغربًا وشمالاً وجنوبًا، قد أمضَوا خمسةً وعشرين يومًا مع كتابِ ربّهم، ينهلون من منابعِه ويرَون عجائبَه وأمثالَه وأقسامَه وإعجازَه، ولقد أخذَت بألبابهم قصصُ القرآن كلَّ مأخذ، حيث تنوّعت في قصصِ الأنبياء والمرسلين وفي قصصٍ قرآنيّ يتعلّق بحوادثَ غابرة، كقصّة الذين خرَجوا من ديارِهم وهم ألوفٌ حذرَ الموت فقال لهم الله: موتوا، ثمّ أحياهم، وقصّةِ طالوت وجالوت وابنَي آدم وأهل الكهف وذي القرنين وقارونَ وفرعون وهامان وأصحابِ السّبت وأصحاب الأخدود وغيرهم، ومحصَّلةُ هذه القصصِ كلّها العاقبة الحسنى للمؤمنين، والخسرانُ والبوار للمعاندين المستكبرين: (أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمْ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) [الأعراف: 49].
كلُّ هذا القصصِ -عبادَ الله- ليثبّت الله به أفئدةَ العباد ويذكي روحَ الإيمان في قلوبهم، وليبيّن لهم أنّه إنّما خلقَ الجنَّ والإنس ليعبَد وحدَه في الأرض: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [يوسف: 111].
إنّ القرآنَ هو الحياةُ وهو النّجاة في زمنٍ أفلسَت فيه النُظم ووهنَت فيه العولمةُ الحرّة المزعومة، في السّياسة تارةً وفي العلومِ الدنيويّة أخرى، وثالثةً في القهرِ والجبروت، ورابعة في الغزوِ الأخلاقيّ والثقافيّ المترجَم عبرَ وسائل تتلقّفها أقطار المسلمين يمنةً ويسرة إلاّ من رحِم الله.
ويا ليت شِعري هل تدرِك أفئدةُ الكثيرين قولَ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- لعائشة -رضي الله عنها- في ليلةٍ من الليالي: "يا عائشة: ذرينِي أتعبَّد لربّي"، قالت: قلت: والله، إنّي لأحبُّ قربَك وأحبّ ما يسرّك، قالت: فقام فتطهّر، ثمّ قام يصلّي فقرأ القرآنَ، ثمّ بكى حتّى رأيتُ دموعَه قد بلغت حِقويه، ثمّ جلس فحمِد الله وأثنى عليه، ثمّ بكى حتّى رأيتُ دموعَه قد بلغت حجرَه، ثمّ اتّكأ على جنبه الأيمن ووضع يدَه تحت خدّه، ثمّ بكى حتّى رأيت دموعَه قد بلغت الأرض، فدخل عليه بلال فآذنه بصلاةِ الفجر وقال: ما يبكيك؟! قال: "لقد نزلت عليَّ الليلة آيات، ويلٌ لمن يقرؤها ولم يتفكّر فيها: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ) [آل عمران: 190-193]. رواه ابن حبّان بسندٍ جيّد.
اللهمَّ اجعل القرآنَ العظيم ربيعَ قلوبنا، ونورَ صدورنا، وجلاءَ أحزاننا، وذهابَ همومنا وغمومِنا، برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.
أيها المسلمون: لقد علّمنا شهر رمضان أننا نستطيع أن نبكي من خشية الله، وأن نذرف الدمع بين يديه، وأن نجهش في صلاتنا بالبكاء، وعلّمنا أننا نستطيع أن نقوم الليل ونصوم النهار ونكثر من قراءة القرآن، وعلّمنا أننا نستطيع أن نديم المكث في المساجد، وعلّمنا أننا نستطيع أن نترك كثيرًا من شهواتنا ورغباتنا، لقد فضحنا هذا الشهر، وكشف كذب دعاوى الكثيرين ممن يزعم أنه لا يستطيع البكاء أو الصلاة أو قراءة القرآن أو البقاء في المسجد؛ فهل نتعلم هذا الدرس؟! هل ندرك أننا نقدر على فعل الكثير عندما نريد فعله؟! هل نتذكر أن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، وأن في وسعنا أن نفعل الشيء الكثير؟!
أيّها المسلمون: اعلموا أنّ الله قد شرع لكم زكاة الفطر شكرًا لله على نعمة التوفيق للصيام والقيام، وطهرة للصائم من اللغو والرفث، وطُعمة للمساكين، وتحريكًا لمشاعر الأخوة والألفة بين المسلمين، وهي صاع من طعام من برّ أو نحوه من قوت البلد كالأرز وغيره، والصاع النبويّ يساوي بالوزن المتعارَف كيلويْن ومائتي غرام بالاحتياط، فيجب إخراجها عن الكبير والصغير والذكر والأنثى كما في حديث أبي سعيد وابن عمر -رضي الله عنهم-. والأفضل إخراجها ما بين صلاة الفجر وصلاة العيد، وإن أخرجها قبل العيد بيوم أو يومين فلا حرج إن شاء الله، وقد كان عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- يكتب في نهاية شهر رمضان إلى الأمصار يأمرهم بختم شهر رمضان بالاستغفار وصدقة الفطر.
كما يُسَنّ التكبير ليلةَ العيد إلى الصلاة، واستحباب أكلِ ثلاثِ رُطَبات قبل أداء صلاة العيد اقتداءً بنبيّنا -صلى الله عليه وسلم-: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [البقرة: 185].
واحرصوا على أداء صلاة العيد؛ فإنها من تمام ذكر الله؛ قال الله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) [الأعلى: 14، 15]، قال بعض السلف: أي أدى الزكاة، (فَصَلَّى): قيل: المراد به صلاة العيد، فاحرصوا -رحمني الله وإياكم- عليها، فقد ذهب بعض العلماء إلى وجوبها.
تقبّل الله منّا ومنكم صالحَ الأعمال، وجعلنا وإيّاكم وإخوانَنا المسلمين مِن عتقائه من النّار، إنّه سميع مجيب.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، قد قلتُ ما قلت، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأ فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنّه كان غفّارًا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه...
أما بعد:
أيها المسلمون: اتّقوا الله واعلَموا أنّ عشرَكم هذه عناقِد تناقصت، وخرَزُ عقدٍ لم يبقَ منها شيء، فمن كان منكم محسنًا فيه فعليه بالإكمال، ومن كان مقصِّرًا فليختِمها بالإنابة والاستغفار، فهنيئًا لمن تفكّر في ذنوبه فبكى، وأسِف على ما كان منه فرفَع أكفَّ الضّراعة إلى ربّه وشكا.
ألا فاتّق الله -أيها المسلم- فيما بقي، وأقبِل على ربّك إقبالَ التائبَ الآيِب، وانظر كيف سار المتّقون في هذا الشهرِ ورجعتَ، ووصَلوا إلى المقصِد وانقطعتَ، وأجابوا الداعيَ لكنّك قد امتنعتَ، لقد تفكّروا في تفريطِهم فأنّوا، وتلهّفوا إلى رحمةِ الباري فحنّوا.
ألا ترى -أيّها المسلم- أنّ منزلةَ شهر رمضان مع بقيّة الشهور كمنـزلةِ يوسفَ -عليه السلام- مع إخوانِه الأحدَ عشر، وأنّ يعقوبَ -عليه السّلام- لم يرتدَّ بصره بشيءٍ من ثيابهم، وارتدّ بقميصِ يوسفَ -عليه السلام- بصيرًا، فكذلك المذنِب إذا شمّ روائحَ رمضان وجلسَ فيه مع الذّاكرين وقرأ القرآنَ فإنّه يرتدّ إليه قلبه وتحيَى فيه نفسُه المطمئنّة، ويا لله ما أسعدَ من وفّقه الله لقيام ليلة القدر التي هي خيرٌ من ألف شهر.
هذا، وصلّوا -رحمكم الله- على خيرِ البريّة وأزكى البشريّة، محمّد بن عبد الله، صاحبِ الحوض والشّفاعة، فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنّى بملائكته المسبّحة بقدسِه، وثلث بكم -أيّها المؤمنون- من جنه وإنسه، فقال -سبحانه وتعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56]، اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد، كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنّك حميد مجيد.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم