ردع المائل عن شواذ المسائل

الشيخ عبدالله بن محمد البصري

2022-10-06 - 1444/03/10
عناصر الخطبة
1/ شرطا قبول العمل 2/ التساهل في قبول الفتوى دون دليل 3/ تساهل المفتين وترقيع الفتاوى 4/ مفتي الفضائيات والصحف 5/ ضرورة التحاكم إلى كتاب الله تعالى وسنة نبيه 6/ اعتبار فهم سلف الأمة للكتاب والسنة 7/ اعتبار حجية الإجماع 8/ الترخص المذموم وتتبع الزلات 9/ مشروعية الأخذ بالرخصة إذا تحققت دواعيها

اقتباس

وَقَد كَانَ المُسلِمُونَ عَلَى مَرِّ عُصُورِهِم عَلَى نَهجٍ كَرِيمٍ، يَطلُبُونَ فِيهِ الحَقَّ فَيَلزَمُونَهُ، وَيَتَحَرَّونَ الصَّوَابَ فَيَأخُذُونَ بِهِ، حَرِيصِينَ عَلَى أَن يَعبُدُوا رَبَّهُم عَلَى عِلمٍ وَبَصِيرَةٍ، مُتَحَرِّينَ لما يُرضِيهِ وَلَو خَالَفَ مُشتَهَى نُفُوسِهِم، وَمَا زَالُوا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى غَشَتِ النَّاسَ في السَّنَوَاتِ المُتَأَخِّرَةِ غَوَاشٍ مِن جَهلٍ وَاتِّبَاعِ هَوَىً وَقِلَّةِ دِيَانَةٍ، وَإِخلادٍ لِلدُّنيَا وَنِسيَانٍ لِلآخِرَةِ، فَضَعُفَ لَدَيهِمُ استِشعَارُ المَسؤُولِيَّةِ، وَظَهَرَ مِنهُم التَّهَاوُنُ بِالأَمَانَةِ ..

 

 

 

 

 
أَمَّا بَعدُ: فَأُوصِيكُم -أَيُّهَا النَّاسُ- وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: (وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) [البقرة: 282].

أَيُّهَا المُسلِمُونَ: خَلَقَ اللهُ النَّاسَ لِعِبَادَتِهِ كَمَا قَالَ سُبحَانَهُ: (وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعبُدُونِ) [الذاريات: 56].

وَإِنَّ لِلعِبَادَةِ شَرطَينِ لا بُدَّ مِن تَحَقُّقِهِما لِتُقبَلَ وَيُؤجَرَ العَبدُ عَلَيهَا:

أَوَّلُهُمَا: الإِخلاصُ للهِ دُونَ سِوَاهُ.

وَثَانِيهِمَا: المُتَابَعَةُ لِرَسُولِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- وَالَّتَمَسُّكُ بما جَاءَ بِهِ.

وَلِهَذَا جَاءَ الحَثُّ عَلَى التَّفَقُّهِ في الدِّينِ، وَجُعِلَ فِقهُ المَرءِ في الدِّينِ مِن إِرَادَةِ اللهِ بِهِ الخَيرَ، قَالَ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ-: "مَن يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ".

وَلأَنَّ التَفَقُّهَ في الدِّينِ قَد لا يَسَعُ كُلَّ أَحَدٍ وَلا يَستَطِيعُهُ كُلُّ مُكَلَّفٍ، كَانَ المُؤمِنُ مُلزَمًا بِسُؤَالِ العُلَمَاءِ عَمَّا لا يَعلَمُهُ، وَاستِفتَائِهِم فِيمَا أَشكَلَ عَلَيهِ، قَالَ سُبحَانَهُ: (فَاسأَلُوا أَهلَ الذِّكرِ إِن كُنتُم لا تَعلَمُونَ) [النحل: 43]، وَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّمَا شِفَاءُ العِيِّ السُّؤَالُ".

وَإِنَّهُ مَا أَرَادَ المُستَفتي بِاستِفتَائِهِ مَعرِفَةَ الحَقِّ وَالعَمَلَ بِهِ، وَلا حَرِصَ عَلَى سُؤَالِ مَن يَعلَمُ أَو يَغلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ أَهلٌ لِلفَتوَى، ثُمَّ انتَبَهَ لِجَوَابِ المُفتي وَفَهِمَهُ فَهمًا وَاضِحًا فَأَخَذَ بِهِ، إِلاَّ هُدِيَ إِلى صِرَاطٍ مُستَقِيمٍ، وَمَا طَلَبَ أَحَدٌ الرُّخَصَ وَتَتَبَّعَ زَلاَّتِ العُلَمَاءِ، وَاشتَغَلَ بِشَوَاذِّ المَسَائِلِ وَمُفرَدَاتِهَا، وَجَعَلَ حَاكِمَهُ هَوَى نَفسِهِ وَشَهوَتَهَا، إِلاَّ ضَلَّ وَتَزَندَقَ وَخَلَعَ رِبقَةَ الإِسلامِ مِن عُنُقِهِ.

وَقَد كَانَ المُسلِمُونَ عَلَى مَرِّ عُصُورِهِم عَلَى نَهجٍ كَرِيمٍ، يَطلُبُونَ فِيهِ الحَقَّ فَيَلزَمُونَهُ، وَيَتَحَرَّونَ الصَّوَابَ فَيَأخُذُونَ بِهِ، حَرِيصِينَ عَلَى أَن يَعبُدُوا رَبَّهُم عَلَى عِلمٍ وَبَصِيرَةٍ، مُتَحَرِّينَ لما يُرضِيهِ وَلَو خَالَفَ مُشتَهَى نُفُوسِهِم.

وَمَا زَالُوا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى غَشَتِ النَّاسَ في السَّنَوَاتِ المُتَأَخِّرَةِ غَوَاشٍ مِن جَهلٍ وَاتِّبَاعِ هَوَىً وَقِلَّةِ دِيَانَةٍ، وَإِخلادٍ لِلدُّنيَا وَنِسيَانٍ لِلآخِرَةِ، فَضَعُفَ لَدَيهِمُ استِشعَارُ المَسؤُولِيَّةِ، وَظَهَرَ مِنهُم التَّهَاوُنُ بِالأَمَانَةِ، فَتَسَرَّعُوا في تَلَقُّفِ الفَتَاوَى الشَّاذَّةِ، وَتَهَاوَنُوا بِقَبُولِ الأَقوَالِ الفَاذَّةِ، وَتَسَاهَلُوا بِاتِّبَاعِ مَن يَقُولُ عَلَى اللهِ بِغَيرِ عِلمٍ، وَتَمَادَوا في اختِيَارِ مَا تَمِيلُ إِلَيهِ نُفُوسُهُم، وَارتَاحُوا لما تُملِيهِ عَلَيهِم شَهَوَاتُهُم، وَبَدَلاً مِن أَن تَحكُمَ الشَّرِيعَةُ أَهوَاءَهُم وتُهَذِّبَهَا، انقَلَبَتِ المَوَازِينُ لَدَى بَعضِهِم رَأسًا عَلَى عَقِبٍ، وَصَارُوا يُحَكِّمُونَ أَهوَاءَهُم في مَسَائِلِ الخِلافِ؛ فَيَأخُذُونَ أَهوَنَ الأَقوَالِ وَأَيسَرَهَا عَلَى نُفُوسِهِم، دُونَ استِنَادٍ إِلى دَلِيلٍ شَرعِيٍّ وَلا حُجَّةٍ وَاضِحَةٍ؛ بَل تَقلِيدًا لِمَن زَلَّ من العُلَمَاءِ، أَوِ استِئنَاسًا بِتَخلِيطِ مَن ضَلَّ مِنَ الأَدعِيَاءِ.

بَل وَصَلَ الحَالُ بِبَعضِ هَؤُلاءِ إِلى أَنَّ يَتَّخِذَ لِنَفسِهِ مَذهَبًا يَقُومُ عَلَى التَّلفِيقِ بَينَ آرَاءِ الفُقَهَاءِ وَالتَّرقِيعِ بَينَ أَقوَالِ العُلَمَاءِ، فَإِذَا طُوَلِبَ بِالدَّلِيلِ الرَّاجِحِ وَحُجَجِ الشَّرعِ الوَاضِحَةِ، تَنَصَّلَ مِن ذَلِكَ بِإِلقَاءِ المَسؤُولِيَّةِ عَلَى مَن أَفتَاهُ، وَرَمَى بِكَامِلِ العُهدَةَ عَلَيهِ، مُعتَقِدًا أَنَّ قَولَ ذَلِكَ المُفتي سَيَكُونُ حَجَّةً لَهُ يَومَ القِيَامَةِ بَينَ يَدَي رَبِّهِ.

وَقَد زَادَ في انتِشَارِ هَذِهِ الظَّاهِرَةِ أَمرَانِ: أَوَّلُهُمَا كَثرَةُ المُفتِينَ في الفَضَائِيَّاتِ وَمَوَاقِعِ الشَّبَكَةِ العَالَمِيَّةِ، مِمَّن جَهِلُوا أَو تَسَاهَلُوا، فَنَشَرُوا الفَتَاوَى الشَّاذَّةَ وَالرُّخَصَ المُخَالِفَةَ؛ وَثَانِيهِمَا فَرِيقٌ مَفتُونٌ مِن أَهلِ الأَهوَاءِ، مِمَّن يَتَكَلَّمُونَ بِأَلسِنَتِنَا وَيَكتُبُونَ في صُحُفِنَا، حَمَلُوا أَفكَارًا غَرِيبَةً، وَانتَحَلُوا تَوَجُّهَاتٍ مُرِيبَةً، اِنبَهَرُوا بِالحضَارَةِ الغَربِيَّةِ الكَافِرَةِ، وَأَرَادُوَا نَقلَهَا لَنَا بِعُجَرِهَا وَبُجَرِهَا، فَهَجَمُوا عَلَى كُلِّ شَيءٍ في الدِّينِ أُصُولاً وَفُرُوعًا، وَتَجرَّؤُوا عَلَى العِلمِ وَهَجَمُوا عَلَى العُلَمَاءِ؛ فأَهمَلُوا أُصُولاً وَأَحدَثُوا فُصُولاً، وَجَاؤُوا بِمَنهَجٍ جَدِيدٍ سَمَّوهُ حُرِّيَّةَ الرَّأيِ وَالفَتوَى، وَمَا هُوَ إِلاَّ الأَخذُ بِالرُّخَصِ وَالتَتَبُّعُ لِلشَّوَاذِّ.

وَإِنَّ المُسلِمِينَ -وَقَد رَضُوا بِاللهِ رَبًّا وَبِالإِسلامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ نَبِيًّا رَسُولاً- إِنَّهُم لَمُطَالَبُونَ بِالتَّحَاكُمِ إِلى كِتَابِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَسُنَّةِ رَسُولِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- في جَمِيعِ مَسَائِلِ، مُلزَمُونَ بِالتَّسلِيمِ وَالانقِيَادِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، لا إِيمَانَ لَهُم بِغَيرِ ذَلِكَ، وَلا بَرَاءَةَ لِذِمَمِهِم إِلاَّ بِجَعلِهِ طَرِيقًا لهم وَمَنهَجًا؛ قَالَ سُبحَانَهُ: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَينَهُم ثُمَّ لا يَجِدُوا في أَنفُسِهِم حَرَجًا مِمَّا قَضَيتَ وَيُسَلِّمُوا تَسلِيمًا) [النساء: 65]، وَقَالَ -جَلَّ وَعَلا-: (فَإِنْ تَنَازَعتُم في شَيءٍ فَرُدُّوهُ إِلى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُم تُؤمِنُونَ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيرٌ وَأَحسَنُ تَأوِيلاً) [النساء: 59].

وَإِنَّ مِنَ الأَهَمِّيَّةِ بِمَكَانٍ في هَذَا الشَّأنِ اعتِبَارَ فَهمِ السَّلَفِ الصَّالِحِ لِنُصُوصِ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَعَدَمَ التَّطَاوُلِ عَلَيهِ أَو التَّقلِيلِ مِن شَأنِهِ؛ فَهُمُ السَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ وَهُم خَيرُ القُرُونِ، لُغَتُهُم أَفصَحُ اللُّغَاتِ، وَلَهجَتُهُم أَصدَقُ اللَّهَجَاتِ، وَفَهمُهُم خَيرُ الفُهُومِ وَأَزكَاهَا، هُمُ الَّذِينَ عَاصَرُوا النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- وَعَايَشُوا نُزُولَ الوَحيِ بَينَ يَدَيهِ، وَفَقِهُوا الدِّينَ وَعَرَفُوا مَقَاصِدَ التَّشرِيعِ، وَسَارُوا عَلَيهِ في حَيَاتِهِم وَمَنهَجِهِم وَسُلُوكِهِم، وَزَكَّاهُمُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- وَأَمَرَ بِاتِّبَاعِ سُنَّتِهِم وَالتَّمَسُّكِ بها فَقَالَ: "خَيرُكُم قَرني، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُم، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُم"، وَقَالَ: "فَعَلَيكُم بِسُنَّتي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المَهدِيِّينَ مِن بَعدِي، تَمَسَّكُوا بها وَعَضُّوا عَلَيهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُم وَمُحدَثَاتِ الأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ بِدعَةٍ ضَلالَةٌ".

وَأَمرٌ آخَرُ -أَيُّهَا المُسلِمُونَ- ذَلِكُم هُوَ اعتِبَارُ حُجِّيَّةِ الإِجمَاعِ وَعَدَمُ خَرَقِهِ أَوِ التَّقلِيلِ مِن شَأنِهِ، كَيفَ وَقَدِ استَقَرَّ أَنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- لا تَجتَمِعُ عَلَى ضَلالَةٍ؛ قَالَ تَعَالى: "وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيرَ سَبِيلِ المُؤمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلىَّ وَنُصلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَت مَصِيرًا".

وَأَمَّا ثَالِثَةُ الأَثَافي لِمَن أَرَادَ الحَقَّ وَابتَغَى لِنَفسِهِ النَّجَاةَ، فَهِيَ الرُّجُوعُ في المَسَائِلِ المُتَنَازَعِ فِيهَا إِلى العُلَمَاءِ الرَّبَّانِيِّينَ، المَشهُودِ لَهُم بِالعِلمِ وَالتَّقوَى، قَالَ سُبحَانَهُ: (وَإِذَا جَاءَهُم أَمرٌ مِنَ الأَمنِ أَوِ الخَوفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَو رَدُّوهُ إِلى الرَّسُولِ وَإِلى أُولي الأَمرِ مِنهُم لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَستَنبِطُونَهُ مِنهُم وَلَولا فَضلُ اللهِ عَلَيكُم وَرَحمَتُهُ لاتَّبَعتُمُ الشَّيطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً) [النساء: 83]، وَقَالَ -جَلَّ وَعَلا-: (فَاسأَلُوا أَهلَ الذِّكرِ إِن كُنتُم لا تَعلَمُونَ * بِالبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ).

وَأَمَّا تَتَبُّعُ الرُّخَصِ وَجَعَلُهَا دِينًا وَدَيدَنًا، بِأَن يَختَارَ المَرءُ مِن كُلِّ مَذهَبٍ مَا هُوَ الأَهوَنُ عَلَيهِ دُونَ عِلمٍ وَلا نَظَرٍ وَلا فِقهٍ، وَلا دَافِعٍ مِن قُوَّةِ الدَّلِيلِ أَو صَادِقِ البَرَاهِينِ؛ بَل تَشَهِّيًّا وَجَهلاً، وَرَغبَةً في اتِّبَاعِ الأَيسَرِ وَالأَخَفِّ عَلَى النَّفسِ، فَإِنَّ هَذَا هُوَ التَّرَخُّصُ المَذمُومُ؛ الَّذِي اشتَدَّ نَكِيرُ العُلَمَاءِ الرَّبَّانِيِّينَ عَلَى مَن قَالَ بِهِ أَو فَعَلَهُ؛ قَالَ أَمِيرُ المُؤمِنِينَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ-: ثَلاثَةٌ يَهدِمنَ الدِّينَ: زَلَّةُ العَالِمِ، وَجِدَالُ المُنَافِقِ، وَأَئِمَّةٌ مُضِلُّونَ. وَقَالَ سُلَيمَانُ التَّيمِيُّ: لَو أَخَذتَ بِرُخصَةِ كُلِّ عَالِمٍ اجتَمَعَ فَيكَ الشَّرُّ كُلُّهُ. وَقَالَ إِبرَاهِيمُ بنُ أَبي عُلَيَّةَ: مَن تَبِعَ شَوَاذَّ العِلمِ ضَلَّ. وَقَالَ الإِمَامُ الأَوزَاعِيُّ: مَن أَخَذَ بِنَوَادِرِ العُلَمَاءِ خَرَجَ مِن الإِسلامِ. وَقَالَ العِزُّ بنُ عَبدِ السَّلامِ: يَجُوزُ تَقلِيدُ كُلِّ وَاحِدٍ مِن الأَئِمَّةِ الأَربَعَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنهُم-، وَلا يَجُوزُ تَتَبُّعُ الرُّخَصِ. وَقَالَ الإِمَامُ الذَّهَبيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: مَن تَتَبَّعَ رُخَصَ المَذَاهِبِ وَزَلاَّتِ المُجتَهِدِينَ فَقَد رَقَّ دِينُهُ. وَقَالَ الإِمَامُ ابنُ القَيِّمِ: لا يَجُوزُ لِلمُفتي تَتَبُّعُ الحِيَلِ المُحَرَّمَةِ وَالمَكرُوهَةِ، وَلا تَتَبُّعُ الرُّخَصِ لِمَن أَرَادَ نَفعَهُ، فَإِنْ تَتَبَّعَ ذَلِكَ فَسَقَ وَحَرُمَ استِفتَاؤُهُ.

أَلا فَاتَّقُوا اللهَ -أَيُّهَا المُسلِمُونَ- وَليَكُنْ طَلَبُ الحَقِّ رَائِدَكُم وَهَدَفَكُم، وَاعلَمُوا أَنَّهُ لا احتِجَاجَ بِأَقوَالِ العُلَمَاءِ وَلا آرَائِهِمُ المُخَالِفَةِ لِلنُّصُوصِ الشَّرعِيَّةِ؛ لأَنَّنَا مُتَعَبَّدُونَ بِالأَدِلَّةِ الشَّرعِيَّةِ، مَأمُورُونَ بِاتِّبَاعِهَا، وَاللهُ تَعَالى قَد أَمَرَ نَبِيَّهُ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ- بِالحُكمِ بما أَنزَلَهُ عَلَيهِ، فَقَالَ لَهُ: (وَأَنِ احكُمْ بَينَهُم بما أَنزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهوَاءَهُم) [المائدة: 49].

فَلا تَهُولَنَّكُم تِلكَ العِبَارَاتُ الرَّنَّانَةُ، وَلا تَخدَعَنَّكُمُ الأَقوَالُ البَرَّاقَةُ، الَّتي يَتَشَدَّقُ بها بَعضُ المَفتُونِينَ مِمَّن يُرِيدُونَ تَطوِيعَ الفَتوَى بِحُجَّةِ مُسَايَرَةِ الوَاقِعِ وَمُوَاكَبَةِ العَصرِ، أَو مِمَّن يُنَادُونَ بِتَغيِيرِ الفِقهِ الإِسلامِيِّ لِيَكُونَ –بِزَعمِهِم- فِقهَ تَيسِيرٍ وَوَسَطِيَّةٍ، وَمَا كُلُّ ذَلِكَ في الحَقِيقَةِ إِلاَّ تَميِيعٌ لِلدِّينِ وَتَنَصُّلٌ مِن شَرِيعَةِ رَبِّ العَالَمِينَ، عُطِّلَت بِهِ حُدُودٌ وَتُرِكَت فِيهِ أَحَادِيثُ، وَفُتِحَ بِهِ لِلجُهَّالِ مَجَالٌ لِلتَطَاوُلِ عَلَى الدِّينِ وَالسُّخرِيَةِ بِأَهلِهِ، وَظَهَرَت فَتَاوَى يَستَنكِرُهَا أَصحَابُ الفِطَرِ السَّلِيمَةِ مِنَ العَامَّةِ، فَضلاً عَن أَهلِ العِلمِ وَالخَاصَّةِ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ: (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيكَ الكِتَابَ مِنهُ آيَاتٌ مُحكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِم زَيغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنهُ ابتِغَاءَ الفِتنَةِ وَابتِغَاءَ تَأوِيلِهِ وَمَا يَعلَمُ تَأوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ في العِلمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِن عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلبَابِ * رَبَّنَا لا تُزِغ قُلُوبَنَا بَعدَ إِذ هَدَيتَنَا وَهَب لَنَا مِن لَدُنْكَ رَحمَةً إِنَّكَ أَنتَ الوَهَّابُ) [آل عمران: 7، 8].

 

 

الخطبة الثانية:

أَمَّا بَعدُ:

فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالى وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ، وَرَاقِبُوا أَمرَهُ وَنَهيَهُ وَلا تَنسَوهُ، وَتَحَرَّوا مَن تَثِقُونَ في دِينِهِ وَتَقوَاهُ فَاستَفتُوهُ، وَانظُرُوا مَن يَتَتَبَّعُ الشَّاذَّ مِن أَقوَالِ العُلَمَاءِ وَيَتَعَلَّقُ بِزَلاَّتِهِم فَاحذَرُوهُ، وَاعلَمُوا أَنَّهُ لا عَيبَ في الأَخذِ بِالرُّخَصِ الشَّرعِيَّةِ المُعتَبَرَةِ، الَّتي جَاءَ بها الشَّارِعُ الحَكِيمُ تَخفِيفًا عَلَى المُكَلَّفِينَ وَتَسهِيلاً لِلأَحكَامِ، وَتَيسِيرًا لِلعَمَلِ وَدَفعًا لِلمَشَقَّةِ وَالحَرَجِ، فَهِيَ مِن رَحمَةِ اللهِ بِالعِبَادِ وَفَضلِهِ عَلَيهِم؛ لِئَلاَّ يَقَعَ عَلَيهِم حَرَجٌ فِيمَا كُلِّفُوا بِهِ أَو يُصِيبَهُم مِنهُ عَنَتٌ؛ قَالَ -عَزَّ وَجَلَّ-: (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ العُسرَ) [البقرة: 185]، وَقَالَ تَعَالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيكُم في الدِّينِ مِن حَرَجٍ)، وَقَالَ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ-: "عَلَيكُم بِرُخصَةِ اللهِ الَّتي رَخَّصَ لَكُم".

وَلا خِلافَ عِندَ جُمهُورِ أَهلِ العِلمِ في مَشرُوعِيَّةِ الأَخذِ بِالرُّخَصِ الشَّرعِيَّةِ إِذَا وُجِدَت أَسبَابُهَا وَتَحَقَّقَت دَوَاعِيهَا، وَالمَشَقَّةُ تَجلِبُ التَّيسِيرَ، وَالحَرَجُ مَرفُوعٌ وَالضَّرَرُ يُزَالُ، وَإِذَا ضَاقَ الأَمرُ اتَّسَعَ، وَإِنَّمَا العَيبُ وَاللَّومُ في الاحتِجَاجِ بِوُجُودِ الخِلافِ في مَسأَلَةٍ مَا لِيَأخُذَ المَرءُ فِيهَا بما شَاءَ مِن أَقوَالٍ، قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: لَو جَازَ اتِّبَاعُ أَيِّ مَذهَبٍ شَاءَ لأَفضَى إِلى أَن يَلتَقِطَ رُخَصَ المَذَاهِبِ مُتَّبِعًا لِهَوَاهُ وَيَتَخَيَّرَ بَينَ التَّحلِيلِ وَالتَّحرِيمِ وَالوُجُوبِ وَالجَوَازِ؛ وَذَلِكَ يُؤَدِّي إِلى الانحِلالِ مِن رِبقَةِ التَّكلِيفِ. وَقَالَ الإِمَامُ الشَّاطِبيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: فَإِنَّ في مَسَائِلِ الخِلافِ ضَابِطًا قُرآنيًّا يَنفِي اتِّبَاعَ الهَوَى جُملَةً، وَهُوَ قَولُهُ تَعَالى: (فَإِنْ تَنَازَعتُم في شَيءٍ فَرُدُّوهُ إِلى اللهِ وَالرَّسُولِ) [النساء: 59]، وَالرَّدُّ إِلى اللهِ سُبحَانَهُ هُوَ الرَّدُّ إِلى كِتَابهِ، وَالرَّدُّ إِلى الرَّسُولِ هُوَ الرَّدُّ إِلَيهِ نَفَسِهِ في حَيَاتِهِ وَإِلى سُنَّتِهِ بَعدَ وَفَاتِهِ.

إِنَّ عَلَى المُسلِمِ -عِبَادَ اللهِ- أَنَّ يُسَلِّمَ قِيَادَهُ لِنُصُوصِ الشَّرعِ حَيثُ تَوَجَّهَت بِهِ؛ مُتَجَرِّدًا لِلحَقِّ مُبتَعِدًا عَنِ الهَوَى وَالتَّعَصُّبِ، جَاعِلاً نَهجَهُ وَمَقصِدَهُ طَلَبَ الحَقِّ بِدَلِيلِهِ، وَمَن فَعَلَ ذَلِكَ هُدِيَ وَوُفِّقَ: (وَمَن يَعتَصِم بِاللهِ فَقَد هُدِيَ إِلى صِرَاطٍ مُستَقِيمٍ) [آل عمران: 101]، وَأَمَّا تَتَبُّعُ الرُّخَصِ فَإِنَّهُ مُخَالَفَةٌ صَرِيحَةٌ لأُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَهَدمٌ لِمَقَاصِدِهَا؛ لأَنَّه اتِّبَاعٌ لِلهَوَى، وَالشَّرِيعَةُ قَد جَاءَت لِتُخرِجَ الإِنسَانَ مِن دَوَاعِي الهَوَى وَنَهَت عَنِ اتِّبَاعِهِ، ثُمَّ إِنَّ في تَتَبُّعِ الرُّخصِ تَركَ اتِّبَاعِ الدَّلِيلِ؛ وَهَذَا مُخَالِفٌ لِقَولِهِ تَعَالى: (فَإِن تَنَازَعتُم في شَيءٍ فَرُدُّوهُ إِلى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُم تُؤمِنُونَ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيرٌ وَأَحسَنُ تَأوِيلاً) [النساء: 59]، وَفيهِ تَركُ مَا هُوَ مَعلُومٌ إِلى مَا لَيسَ بِمَعلُومٍـ وَفيهِ انخِرَامُ نِظَامِ السِّيَاسَةِ الشَّرعِيَّةِ الَّذِي يَقُومُ عَلَى العَدَالَةِ وَالتَّسوِيَةِ؛ بِحَيثُ إِذَا انخَرَمَ أَدَّى إِلى الفَوضَى وَالمَظَالِمِ وَتَضيِيعِ الحُقوُقِ بَينَ النَّاسِ.

أَلا فَاتَّقُوا اللهَ وَخَافُوا لِقَاءَهُ، وَتَذَكَّرُوا: (إِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الكُبرَى * يَومَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى * وَبُرِّزَتِ الجَحِيمُ لِمَن يَرَى * فَأَمَّا مَن طَغَى * وَآثَرَ الحَيَاةَ الدُّنيَا * فَإِنَّ الجَحِيمَ هِيَ المَأوَى * وَأَمَّا مَن خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفسَ عَنِ الهَوَى * فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأوَى) [النازعات: 34-41].
 

 

  

 

المرفقات

المائل عن شواذ المسائل

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات