مرحبا رمضان

عبد الرحمن الجليِّل

2022-10-09 - 1444/03/13
التصنيفات: رمضان
عناصر الخطبة
1/ شهر رمضان شاهد لك أو عليك 2/ كيف يُستقبل هذا الوافد؟! 3/ اغتنام رمضان 4/ مِنْ حكم رمضان 5/ مدرسة لتقوية الإرادة

اقتباس

بعد أيام قلائل يطل علينا شهر عزيز على قلب كل مؤمن، شهر الخير والبركة، شهر القُرَب والعبادة، إنه شهر رمضان المبارك، فيه تتفتح خزائن الفضل والرحمة والإحسان، وتقبل ليالي الجود والغفران، بعد أيام قلائل يتهيأ المؤمنون للعبادة المتواصلة، ويخلصون لله الطاعات.

 

 

  

أما بعد:

فقد روى الصحابي الجليل سلمان الفارسي -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطب في آخر يوم من شهر شعبان قائلاً: "يا أيها الناس: قد أظلكم شهر عظيم، شهر مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، شهر جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوعًا، من اقترب فيه بخطوة من الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فريضة فيه كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر والصبر ثوابه الجنة". منكر. سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة.

أيها المسلمون: بعد أيام قلائل يطل علينا شهر عزيز على قلب كل مؤمن، شهر الخير والبركة، شهر القُرَب والعبادة، إنه شهر رمضان المبارك، فيه تتفتح خزائن الفضل والرحمة والإحسان، وتقبل ليالي الجود والغفران، بعد أيام قلائل يتهيأ المؤمنون للعبادة المتواصلة، ويخلصون لله الطاعات.

إن هذا الشهر شاهد يوم القيامة بالإحسان لمن أحسن، وبالإساءة لمن أساء، والعاقبة للمتقين، فطوبى للصائمين، والويل للمفطرين والمجاهرين.

فيه يزكي المسلم نفسه بالصيام ويطهرها بالتقوى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 183].

ما هي إلا أيام قلائل حتى تكتمل دورة الفلك، ويشرف على الدنيا هلال رمضان المبارك، الذي تهفو إليه نفوس المؤمنين، وتتطلع شوقًا لبلوغه.

كنا نودع شهر رمضان الماضي، وكأن صفحاته قد طويت قبل أيام، واليوم يستقبله المسلمون بعد مرور عام، عام مضى ذهبت لذاته وبقيت تبعاته، نُسيت أفراحه وأتراحه، وبقيت حسناته وسيئاته، نعم، ستنقضي الدنيا بأفراحها وأحزانها، وتنتهي الأعمار على طولها وقصرها، ويعود الناس إلى ربهم بعدما أمضوا فترة الامتحان على ظهر الأرض: (كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمْ الضَّلالَةُ) [الأعراف: 29، 30]، ثم تصبح الدنيا ذكريات، وهنا من ينتظر على أمل ولا يدري، فقد يباغته قبل ذلك الأجل، قال تعالى: (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [لقمان: 34].

كيف يُستقبل هذا الوافد القريب؟! يستقبل رمضان بتهيئة القلوب وتصفية النفوس وتطهير الأموال والتفرغ من زحام الحياة.

مرحبًا برمضان، جئت بعد عام كامل، مات أقوام وولد آخرون، سعد أقوام وشقي آخرون، واهتدى أقوام وضل آخرون.

جئت -يا رمضان- لتقول للعيون: صومي عن النظر الحرام، واسكبي الدمع في جنح الظلام، وتقول للألسن: صومي عن الغيبة والنميمة والتيهان واللغو والفحش، جئت تقول للبطون: صومي من أكل الحرام والغشّ.

مرحبًا بشهر صيامه سر بين العبد وبين ربه: "كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به". صحيح الجامع الصغير.

فيا من يريد أن يتعرف على ربه، استبشر بقدوم هذا الشهر، واحرص أن تكون من المعتوقين والمقبولين فيه، وحاول أن تصوم كل جوارحك عن كل ما حرمه عليك ربك.

كان السلف الصالح إذا دخل رمضان بشر بعضهم بعضًا وتهيأوا له، قدوتهم في ذلك رسول الله.

فيا أيها الأبرار والأخيار: استقبلوا هذا الشهر بالتوبة النصوح والاستغفار.

ويا أيها المسلمون، يا مَنْ وُلِد على لا إله إلا الله، ويا من شبّ على لا إله إلا الله: جاء شهر رمضان وأصبح منكم قاب قوسين أو أدنى، فالله الله لا يخرج رمضان منكم وقد خاب الكثير وخسر الكثير.

اغتنموه لكي يعتق الله رقابكم فيه من النار، وخذوه فرصة لا تعوض؛ فإنه مناسبة التوبة والقبول من الله، أكثروا فيه من الذكر والتهليل والتسبيح والتحميد، وتدارسوا فيه القرآن، وأحيوا بيوتكم بآيات الله البينات، واهجروا الأغاني الماجنات الخليعات التي أغوت القلوب عن ربها سبحانه، قال ابن عباس: ويرسل ربنا ريحًا تهز ذوائب الأغصان لمن حرم في الدنيا على آذانه استماع الغناء، فتهتز أغصان تلذّ لسمع الإنسان كالنغمات بالأوزان، يا خيبة الآذان لا تتعرض بلذاذة الأوتار والعيدان.

فاغتنموه عسى أن تعتق رقابكم من النار، وأن تبيض وجوهكم يوم تعرضون على الواحد القهار، طوبى لبطون جاعت في سبيل الله، وهنيئًا لأكباد ظمئت لمرضاة الله، هنيئًا لكم يوم تصومونه -إن شاء الله- إيمانًا واحتسابًا.

إن شهر رمضان هو شهر المغفرة والتجاوز عن الخطيئة، والشحناء والقطيعة من موانع المغفرة الشديدة؛ لذا يستقبل رمضان بتهيئة النفوس وتنقيتها من الضغائن والأحقاد التي خلخلت العرى وأنهكت القوى ومزقت المسلمين شر ممزق، فالذي يطلّ عليه رمضان عاقًّا لوالديه، قاطعًا لأرحامه، هاجرًا لإخوانه، دوره في المجتمع النميمة، هيهات هيهات أن يستفيد من رمضان؛ قال تعالى: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ الأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ) [الأعراف: 43].

أيها الفضلاء: تُرَسِّخ حقيقةُ الصيام الفضائلَ الجليلة طبعًا لا تصنّعًا، وسجية لا تكلفًا، فلنجعل هذا الشهر الكريم انطلاقًا للسمو والترفع عن سفاسف الأمور، والحذر من كل ضلالة وزور.

مِنْ حكم رمضان أن يتفاعل المسلم مع إخوانه في شتى البقاع، ويتجاوب مع نداءات الفقراء والضعفاء، متجاوزًا بمشاعره كل الفواصل، متسلِّقًا بمبادئه كل الحواجز، يتألم لألمهم، ويحزن لأحزانهم، مبتدئًا بالموالاة والمواساة من بيته وموطنه ولإخوانه من بني جلدته صَحْبه وأقاربه، يستقبل رمضان بنفس معطاءة ويد بالخير فياضة، ويبسط يده بالصدقة والإنفاق: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة: 261].

إن شهر رمضان هو شهر النفحات والرحمات والدعوات، المال الحرام سبب البلاء في الدنيا ويوم الجزاء، لا يستجاب معه الدعاء، ولا تفتح له أبواب السماء؛ لذا يستقبل رمضان بتطهير الأموال من الحرام، فما أفظعها من حسرة وندامة أن تلهج الألسن بالدعاء ولا استجابة، وربنا -تبارك وتعالى- يقول: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة: 186]. فانظر في نفسك، وابحث في بيتك، وأدخل يدك في جيبك، وتطهّر من كل مال حرام ليس من مالك، حتى تقف بين يدي الله بقلب خاشع ومال طاهر ودعاء صادق، يصعد في الفضاء وتفتح له أبواب السماء.

إن الذين يستقبلون رمضان على أنه مدرسة لتقوية الإرادة هم الذين يستفيدون منه، فيجدون في نهاره لذة الصابرين، ويجدون في مسائه وفي ليله لذة المناجاة في ساعاتها الغالية، هم الذين تفتح لهم أبواب الجنان في رمضان، وتغلق عنهم أبواب النيران، وتتلقاهم الملائكة ليلة القدر بالبشر والسلام، هؤلاء هم الذين مسح الصيام عن جبينهم وعثاء الحياة، وأزال عن أجسامهم غبار المادة، وأبعد عن بطونهم ضرر التخمة، ودفع عن أنفسهم الحيرة والفتور، وغذى إيمانهم بالقوة والنور.

فاحمدوا الله واسألوه أن يبلغكم رمضان، واغتنموا فرصته، وتعرضوا لنفحات المغفرة والرضوان فيه، وقوموا بحقه كما أمر، واحذروا نهيه وسَخَطه.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

 

 

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله الذي اختار للخيرات أوقاتًا وأيامًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كتب المغفرة لمن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، بعثه الله للناس إمامًا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ما ذكره الذاكرون قعودًا وقيامًا.

أما بعد:

فاتقوا الله -عباد الله-، واستعدوا للموسم العظيم والشهر الكريم، الذي خصه الله من بين سائر الشهور بالتشريف والتكريم.

فيا ذوي الهمم العالية، ويا ذوي المطالب الرفيعة السامية: الغنائم على قدر الجد وهجر البطالة، فالأوقات الفضائل فوات، ألا فشمروا لقِراه بالتوبة والإنابة، وابذلوا في ضيافته مقدوركم من الأعمال المستطابة، وأروا الله الخير من أنفسكم فيه، فإن الله تعالى ينظر إلى جدكم وتنافسكم فيه، ولقد كان السلف يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبله، وكان الحبيب -عليه الصلاة والسلام- يبشر أصحابه بقدوم رمضان فيقول: "أتاكم رمضان شهر مبارك، فرض الله -عز وجل- عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم". صحيح الجامع الصغير.

شهر هذه بعض فضائله حقيق بالإجلال والإكرام، وجدير بأن يصان عن فعل القبائح والإجرام، وأن تغتنم بالطاعات أوقاته، وتبادر بالأعمال الصالحة ساعاته.

ولكن -أيها الأحبة- انعكست المفاهيم، وأصبح استقبال معظم الناس لهذا الشهر الكريم استقبالاً واستعدادًا للمأكولات والمشروبات والمقليات والمعجنات، مبالغة في إعطاء نفوسهم ما تشتهيه، إنه موسم البطون عندهم، ومضمار تتنافس فيه الموائد الزاخرة بصنوف الأطعمة وألوان الأشربة، فتراهم قبل دخول هلال رمضان يفزعون إلى الأسواق من كل فج عميق، يكيلون من الأطعمة ويتزودون من الكماليات، وكأن رمضان حفلة زفاف، أو وليمة نجاح، تبسط فيها الموائد العريضة، وتنشر الأطعمة المتنوعة، ثم ترمى في النفايات، وأكبر دليل على ذلك ازدحام الناس في الأسواق في هذه الأيام لشراء الكماليات التي لا داعي لها، أصبح شهر رمضان معرضًا لفنون الأطعمة والأشربة، وهذا إسراف نهى الله عنه، فوق أنه مدعاة إلى الفقر وجلب الأسقام للبدن، وبعض الناس يستقبله لإقامة الدوري والمباريات وسهر الليالي في لعب الورق، وفي النهار نوم حتى عن الصلاة المكتوبة، لا بصيام يتلذذون، ولا بقيام يتعبدون، ليلهم ضياع، ونهارهم خسران، ما هكذا يستقبل رمضان، استقبلوه بالجد والطاعة، لا الإخلاد إلى الراحة، استقبلوه بتطهير النفوس والقلوب والأبدان والأرواح من أدران المعاصي والسيئات.
 

 

 

  

المرفقات

رمضان

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات