القلوب بين الخشية والقسوة

إسماعيل الحاج أمين نواهضة

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: أحوال القلوب
عناصر الخطبة
1/ صفات القلب المنشرح 2/ صفات القلب القاسي 3/ الاعتداء على القرآن بين أعداء الماضي والحاضر 4/ العمل بالقرآن هو السبيل لحفظه من الأعادي 5/ استمرار المحاولات الإسرائيلية لتهويد القدس

اقتباس

إن الله تعالى يشرح للإسلام قلوبًا يعلم منها الخير، ويَصِلُها بنوره فتُشرِق به وتستضيء، والفرق بين هذه القلوب وقلوب أخرى قاسية فرق بعيد: (فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ). حقًّا إن الصدور التي يشرحها الله تعالى للإسلام، ويمدّ لها من نوره ليست قطعًا كالقاسية قلوبهم من ذكر الله، وشَتّان شَتّان بين هؤلاء وأولئك، والآية عامّة فيمن شرح الله صدره بخلق الإيمان فيه.

 

 

 

 

 

قال الله تعالى: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) [الزمر:22-24].

أيها المؤمنون: في الآية السابقة لهذه الآيات بيّن الله تعالى أنه يُنَزّل الماء من السماء، فيُنْبِتُ به للناس زرعًا مختلفًا ألوانه، وفي هذه الآيات يبيّن أنه أنزل ذِكْرًا تَتَلَقّاه القلوبُ الحيّة، فتَتَفَتّح وتنشرح، وتتلقّاه القلوب القاسية، كما تَتَلَقّاه الصخرةُ القاسية التي لا حياة فيها ولا نَدَاوَة.

نعم، إن الله تعالى يشرح للإسلام قلوبًا يعلم منها الخير، ويَصِلُها بنوره فتُشرِق به وتستضيء، والفرق بين هذه القلوب وقلوب أخرى قاسية فرق بعيد: (فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ) [الزمر: 22]. حقًّا إن الصدور التي يشرحها الله تعالى للإسلام، ويمدّ لها من نوره ليست قطعًا كالقاسية قلوبهم من ذكر الله، وشَتّان شَتّان بين هؤلاء وأولئك، والآية عامّة فيمن شرح الله صدره بخلق الإيمان فيه.

وروى مُرّةُ عن ابن مسعود قال: قلنا: يا رسول الله: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) [الزمر:22]، كيف ينشرح صدرُهُ؟! قال: "إذا دخل النورُ القلبَ انشرح وانفتح"، قلنا: يا رسول الله: وما علامة ذلك؟! قال: "الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغُرور، والاستعداد للموت قبل نزوله". فذكر -صلوات الله وسلامه عليه- خِصَالاً ثلاثة، ولا شكّ أن من كانت فيه هذه الخِصَال فهو الكامل الإيمان، فإن الإنابة إنما هي أعمال البِرّ؛ لأن دار الخلود إنما وُضِعت جزاءً لأعمال البِرّ، ألا ترى كيف ذكره الله في مواضع من تنزيله، ثم قال عَقِب ذلك: (جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [لقمان:14].

فالجنة جزاء الأعمال؛ فإذا انشغل العبد في أعمال البِرّ فهو إنابته إلى دار الخلود، وإذا خمد حرصه على الدنيا، وكفّ عن طلبها، وأقبل على ما يغنيه منها فاكتفى به وقنع؛ فقد تجافى عن دار الغُرور، وإذا أحكم أموره متأدّبًا متثبّتًا حَذِرًا، يَتَورّع عما يَرِيبُه إلى ما لا يَرِيبُه؛ فقد استعدّ للموت، وإنما صارت له هذه الرؤية بسبب النور الذي دخل القلب.

وفي شأن القاسية قلوبُهم جاء عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "قال الله تعالى: اطلبوا الحوائج من السُّمَحَاء؛ فاني جعلت فيهم رحمتي، ولا تطلبوها من القاسية قلوبهم؛ فإني جعلت فيهم سخطي"، وقال مالك بن دينار: ما ضُرِب عبدٌ بعقوبة أعظم من قسوة القلب، وما غضب الله على قوم إلا نزع الرحمة من قلوبهم.

أيها المؤمنون: وتُصوِّرُ الآية حال وهيئة تلقّي المؤمنين لهذا القرآن، هذا الكتاب المتناسق الذي لا اختلاف في طبيعته ولا في اتجاهاته، ولا في روحه ولا في خصائصه، فهو مُتَشَابِه، وهو مَثَاني تتكرّر مقاطِعُه وقصِصُه وتوجيهاتُه ومشاهدُه، ولكنّها لا تختلف ولا تتعارض، إنما تُعَاد في مواضع متعدّدة لا تعارُض فيها ولا اصطدام، والذين يخشون ربهم ويتّقونه، ويعيشون في حذر وخشية، وفي تطلّع ورجاء، يتلقّون هذا القرآن في وَجَل وارتعاش، وفي تأثّر شديد تَقْشَعِرُّ منه الجلود، ثم تهدأ نفوسُهُم، وتأنس قلوبُهم بهذا الذكر، فتَلِينُ جلودُهم وقلوبُهم، وتطمئن إلى ذكر الله: (أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد: 28].

أيها المسلمون: قال سعد بن أبي وقّاص: قال أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لو حدثتنا. فأنزل الله -عز وجل-: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) [الزمر: 23]، فقالوا: لو قصصت علينا، فنزل: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) [يوسف:3]، فقالوا: لو ذَكّرْتَنا، فنزل: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) [الحديد: 16]، وهكذا كان أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا قُرِئ عليهم القرآنُ تدمع أعينهم، وتقشعِرُّ جلودُهم.

وعن زيد بن أسلم قال: قرأ أُبيّ بن كعب عند النبي -صلى الله عليه وسلم- ومعه أصحابه فَرَقُّوا، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اغتنموا الدعاءَ عند الرِّقَّة؛ فإنها رحمة". وعن العباس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا اقْشَعَرَّ جلدُ المؤمن من مخافة الله تَحَاتَّت عنه خطاياهُ كما يَتَحَاتُّ عن الشجرة البالية ورَقُها". وعن ابن عباس: ما اقْشَعَرّ جلدُ عبدٍ من خشية الله إلا حرّمه اللهُ على النار. وعن ثابِت البُنَاني قال: إني لأعلم متى يستجاب لي. قالوا: ومن أين تعلم ذلك؟! قال: إذا اقْشَعَرّ جلدي، ووَجِل قلبي، وفاضت عيناي، فذلك حينئذ يُستَجاب لي.

أيها المؤمنون: ثم يعرض القرآن الكريم ما ينتظر أهل الضلال يوم القيامة في مشهد بائس في موعد حصاد الأعمال: (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) [الزمر:24]. والإنسانُ يَقِي وجهَهُ عادة بيديه وجسمه، فأمّا في هذا الموقف فهو لا يملك أن يدفع عن نفسه النار بيديه ولا برجليه، فيدفعها بوجهه، ويتّقي به سوءَ العذاب؛ ما يدلّ على الهول والشدّة والاضطراب، وفي زحمة هذا التعذيب وهذا العذاب يتلقّى التأنيب: (وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) [الزمر: 24].

أيها المؤمنون: إن القرآن الكريم هو هديّة السماء إلى الأرض، هديّة الله تعالى إلى العالمين من الإنس والجن، إنه الهادي إلى الصراط المستقيم، والمُخْرِج من الظلمات إلى النور، وهو حبل الله المتين، والنور المبين، عصمة لمن تمسّك به، ونجاة لمن سار على نهجه وتعاليمه، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، ولكنّ أبصار وبصائر المشركين والكفّار قد عميت وضلّت عن إدراك هذه الحقائق وقت نزوله، فوصفوه بصفات هو منها بَرَاء، قالوا عنه: إنه أساطير الأوّلين، وقالوا عنه: إنه سحر مبين، وقالوا عنه: إنه شِعْر، إلى غير ذلك مما قالوا ظلمًا وافتراءً، فانتشر نورُه في الآفاق، وعَمّ خيرُه أرجاء المعمورة، وخشعت وتصدّعت الجبال من عظمته، فرجع الكافرون والملحِدُون القَهْقَرَى، يجرُّون وراءهم أذيال الخِزي والعار، ولكن سُرعان ما عاد الكثير منهم إلى صوابه، ودخلوا في دين الله أفواجًا؛ لأنهم أدركوا الحقيقة.

واليوم يحاول بعض الأقزام -عَبَثًا- من سَفَلَةِ القوم وسفهائهم أن ينالوا منه من جديد، فمرّة يكتبون على غِرَارِه ما أطلقوا عليه الفُرقان الحق، ومرّة عن طريق تدنيس أوراقه والمسّ بقُدْسِيّته، ومرّة عن طريق تفسيره الخاطئ بغير علم، مُتَنَاسين أنه كلام الله العليّ القدير الجبّار السميع العليم القاهر العزيز الحكيم.

إن هذه المحاولات والممارسات من قِبَل هؤلاء الطغاة المجرمين تُثبِت -دون أدنى شك- العداءَ للإسلام والمسلمين، ولذلك لم يكن غريبًا أن تعمّ موجاتُ غضب عارِمة الشارعَ العربي والإسلامي احتجاجًا على هذه الجرائم البَشِعة والأفعال المشِينة، وأقول: إن العرب والمسلمين إذا أرادوا تعظيم القرآن والحيلولة دون المسّ به، أو مجرّد التفكير بذلك، فعليهم أن يحفظوه بقلوبهم وصدورهم، ويطبّقوا تعاليمه وأحكامه في شؤون حياتهم، وأن يتمَثّلوه عقيدة وعملاً وسلوكًا، عندها لن يَجْرُأ أحد -مهما كانت قوّته وجبروته- على النيل منه بأي وسيلة كانت، لأن المبادئ والعقائد تثبت بثبات وقوة أصحابها، وصَدَقَ العظيمُ القائل: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر: 9]، وهذا وعد من الله تعالى ولن يُخلِف اللهُ وعدَه، ويقول أيضًا: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) [الصف: 8].

 

 

الخطبة الثانية:

 

 

موجودة وحذفت لعدم مناسبتها

 

 

 

 

 

المرفقات

بين الخشية والقسوة

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات