عقوبات الله للأمم

ناصر بن محمد الأحمد

2010-04-18 - 1431/05/04
عناصر الخطبة
1/ القرية الآمنة التي كفرت بأنعم الله ومآلها 2/ ذكر وقائع تاريخية عن عقاب الله لبعض من هذه الأمة 3/ من أسباب العقوبات الإلهية 4/ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم

اقتباس

فرغدُ العيش وسعةُ الرزق، يتحولُ في طرفةِ عين ولمحةِ بصر، جوعًا يَذهبُ بالعقول، وتتصدعُ له القلوبُ والأكباد، وإذا البطونُ الملأى، والأمعاءُ المتخمة، يتضورُ أصحابُها جوعًا، ويصطلون حسرةً وحرمانًا، وإذا الأمنُ الذي كانوا يفاخرون به الدنيا وينسونَ -في عجبٍ وغرور- المتفضلَ به –سبحانه- والمنعمَ به -جل جلاله- إذا به ينقلبُ رعبًا وهلعًا، لا يأمن المرءُ على نفسِه وعرضِه، فضلاً عن مالهِ وملكه.

 

 

 

إن الحمد لله...

أما بعد:

أيها المسلمون: يقولُ اللهُ تعالى في كتابهِ الكريم: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ) [النحل: 113، 113].

في هاتين الآيتين الكريمتين يعرضُ القرآنُ الكريم مثلاً مضروبًا مَسُوقًا للعظةِ والعبرة، لقريةٍ من القرى كانت تنعمُ بأمنٍ واستقرار، وطمأنينةٍ ورغدٍ من العيش، يأتيها رزقُها من كل مكان، لا يعرفُ أهلُها الجوعَ أو الخوف، ولا الفاقةَ أو الحرمان، فهم في أوجِ لذاتِهم، وغايةِ سعادتهِم، لكنَّ أهلَ القريةِ المغفلين، ظنوا أنَّ ذلك بسببِ حسبهِم ونسبهِم ومكانتهِم عند الله تعالى، وأنهم يستحقون ذلك لفضلهِم وتميزهِم عند الناس، فتجرَّأَ المغفلون، تجرؤوا على انتهاكِ محارمِ الله، وتجاوزِ حدودهِ سبحانه، مغترينَ بإمهالِ اللهِ لهم، وصبرِه على انحرافهِم وظلمهِم وبغيهِم، فبدلاً من أنْ يشكروا ربهم، ويعترفوا بإحسانِه إليهِم، وتفضلِه عليهِم، ويلتزموا حدودَه، ويعرفوا حقوقَه، إذا بهم يتنكرون للمنعِم العظيم، ويتجرؤون في سفهٍ وغرور على العزيزِ الحكيم، الذي يقول: (يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ) [الزمر: 16]، (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) [البقرة: 40]؛ فماذا كانتْ النتيجة، وما هي النهايةُ والعاقبة، بعد ذلك الإمهالِ والصبرِ الجميل؟!

إنَّ القرآنَ الكريم يختصرُ العقوبةَ المدمرة، والنهايةَ الموجعة، في كلمتين اثنتين: (فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) [النحل: 112].

إذًا فرغدُ العيش وسعةُ الرزق، يتحولُ في طرفةِ عين ولمحةِ بصر، جوعًا يَذهبُ بالعقول، وتتصدعُ له القلوبُ والأكباد، وإذا البطونُ الملأى، والأمعاءُ المتخمة، يتضورُ أصحابُها جوعًا، ويصطلون حسرةً وحرمانًا، وإذا الأمنُ الذي كانوا يفاخرون به الدنيا وينسونَ -في عجبٍ وغرور- المتفضلَ به سبحانه، والمنعمَ به جل جلاله، إذا به ينقلبُ رعبًا وهلعًا، لا يأمن المرءُ على نفسِه وعرضِه، فضلاً عن مالهِ وملكه، فانتشر المجرمون ينتهكونَ الأعراض، ويحوزونَ الأموال، وأصبح باطنُ الأرض خيرًا من ظاهِرها، في تلك القريةِ البائسةِ المشؤومة.

والقرآنُ الكريم حين يعرضُ بوضوحٍ وجلاء، مآلَ تلكَ القريةِ الظالمِ أهلُها، ويقررُ أنَّ ما أصابهَم هو بسببِ ما اقترفته أيديهِم، من التمردِ والجحود، ونكران الجميل، حين يعرضُ القرآنُ ذلكَ كلَّه، فهو إنما يخاطبُنا -نحن الحاضرين- ويخاطبُ غيَرنا -حتى يرثَ اللهُ الأرضَ ومن عليها- يحذرُنا أن نقعَ في ذاتِ الخطأ، الذي وقعوا فيه، فنؤولُ لذاتِ المآلِ الذي آلوا إليه، ولقد ذاقت هذه الأمة ألوانًا من العقوباتِ المدمرةِ، التي يشيبُ من هولهِا الوالدان، ولولا أنَّ الذي سطَّرها في كتبهِم ونَقلَ لنا أخبارَها في مصنفاتِهم، هم أئمةُ الإسلامِ المحققون -كابن كثير والذهبي، وغيرهِما- لظننا ذلك ضربًا من الخيالِ والتهويل.

فإليكم طرفًا مما حدثَ لهذه الأمة، حينَ كفرتْ بأنعمِ الله، واستجابتْ لداعي الهوى والشيطان، لعلنا نتعظ ونعتبر، ونلجأ إلى ربنا؛ إذ لا ملجأ من الله إلا إليه:

ذكر ابن الجوزي رحمه الله خبرَ الطاعون الذي أصاب مدينةَ البصرة العراقية، قال: فمات في اليومِ الأول سبعون ألفًا، وفي اليوم الثاني واحد وسبعون ألفًا، وفي الثالث ثلاثةٌ وسبعون ألفًا، وأصبح الناسُ في اليوم الرابع موتى إلا قليل من آحاد الناس، قال أبو النُفيد -وكان قد أدركَ هذا الطاعون- قال: كنَّا نطوفُ بالقبائلِ وندفنُ الموتى، فلما كثروا لم نقوَ على الدفن، فكنَّا ندخلُ الدار، وقد مات أهلُها، فنسدُ بابهَا عليهم.

وفي أحداثِ سنةِ تسعٍ وأربعين وأربعمائة من الهجرة، ذكر ابنُ كثيرٍ رحمه الله خبرَ الغلاءِ والجوعِ الذي أصابَ بغداد، بحيث خلتْ أكثرُ الدور، وسُدَّت على أهلِها الأبواب لموتِهم وفنائهم، وأكلَ الناسُ الجِيفَ والميتة من قلةِ الطعام، ووُجِد مع امرأةٍ فخذُ كلبٍ قد اخضرَّ، وشَوَى رجلٌ صبيةً فأكلَها، وسقطَ طائرٌ ميت فاحتوشته خمسةُ أنفس فاقتسموه وأكلوه، ووردَ كتابٌ من بخارى أنَّه ماتَ في يومٍ واحد ثمانيةَ عشرَ ألف إنسان، والناسُ يمرون في هذه البلاد، فلا يرون إلا أسواقًا فارغة، وطرقاتٍ خالية، وأبوابًا مغلقة، وجاء الخبرُ من أذربيجان أنَّه لم يسلمْ من تلك البلاد إلا العددُ اليسير جدًّا، ووقع وباءٌ بالأهوازِ وما حولها حتى أطبق على البلاد، وكان أكثرُ سببِ ذلك الجوع، فكان الناسُ يشوونَ الكلاب، ويَنبشونَ القبور، ويشوونَ الموتى ويأكلونهم، وليس للناسِ شغلٌ في الليل والنهار إلا غسلُ الأمواتِ ودفنُهم، وكان يدفنُ في القبرِ الواحد العشرونَ والثلاثون.

وذكرَ ابنُ كثيرٍ -رحمه الله- في أحداثِ سنةِ اثنتين وستين وأربعمائةٍ من الهجرة، ما أصابَ بلادَ مصر، من الغلاءِ الشديد والجوعِ العظيم، حتى أكلوا الجيفَ والميتةَ والكلاب، فكان الكلبُ يباع بخمسةِ دنانير، وماتت الفيلة، فأُكلتْ ميتاتُها، وظُهِرَ على رجلٍ يقتلُ الصبيانَ والنساء، ويدفنُ رؤوسَهم وأطرافَهم، ويبيعُ لحومَهم، فقُتلَ وأُكلَ لحمُه، وكانت الأعراب يقدِمون بالطعام، يبيعونَه في ظاهرِ البلد، لا يتجاسرون على الدخول؛ لئلا يُخطفَ ويُنهبَ منهم، وكان لا يجسُر أحدٌ أن يدفنَ ميتَه نهارًا، وإنما يدفنُه ليلاً خُفيةً، لئلا يُنبشَ قبُره فيؤكل.

وفي سنةِ ثلاثٍ وتسعين وخمسمائةٍ من الهجرة، ورد كتابٌ من القاضي الفاضل، إلى ابن الزكي يخبره فيه أنه في ليلةِ الجمعة التاسعِ من جمادى الآخرة، أتى عارضٌ -يعني سحاب- فيه ظلماتٌ متكاثفة، وبروقٌ خاطفة، ورياحٌ عاصفة، فقويَ الجو بها، واشتدَّ هبوبُها، فرجفتْ لها الجدرانُ واصطفقتْ، وتلاقتْ على بعدِها واعتنقتْ، وثار السماء والأرض عجاجًا، حتى قيل: إن هذه على هذه قد انطبقت، ولا يحسب إلا أن جهنم قد سال منها وادٍ، وعاد منها عادٍ، وزادَ عصفُ الريح، إلى أن أطفأَ سُرجَ النجوم، ومَزَّقت أديم السماء، فكنا كما قال الله تعالى: (يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنْ الصَّوَاعِقِ) [البقرة: 19]، ويردونَ أيديهَم على أعينهِم من البوارق، لا عاصمَ لخطفِ الأبصار، ولا ملجأ من الَخطْبِ، إلا معاقلُ الاستغفار، وفرَّ الناس -نساءً ورجالاً وأطفالاً- ونفروا من دورِهم، خفافاً وثقالاً، لا يستطيعونَ حيلةً ولا يهتدون سبيلاً، فاعتصموا بالمساجدِ الجامعة، وأذعنوا للنازلة بأعناقٍ خاضعة، وبوجوهٍ عانية، ونفوس عن الأهل والمال سالية، ينظرون من طرفٍ خفي، ويتوقعون أيَّ خطبٍ جلي، قد انقطعتْ عن الحياةِ عُلَقُهم، وعميتْ عن النجاةِ طُرُقهم، ووردتْ الأخبار، بأنه قد كُسِرت المراكبُ في البحار، والأشجارُ في القفار، وأتلفتْ خلقًا كثيرًا من السُفَّار. إلى أن قال: ولا يحسبُ أحدٌ أني أرسلتُ القلمَ محرفًا، والعلم مجوفًا، فالأمرُ أعظم، ولكنَّ الله سلم. انتهى كلامه رحمه الله.

أيها المسلمون : إن هذه العقوباتِ المهلكة والكوارثَ المفجعة، ليست ضربًا من الخيال، وليس فيها شيء من التهويلِ والمبالغة؛ فالله يقول: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود: 102]، لكن الذي نشأ منذُ نعومةِ أظفاره، في بحبوحةٍ من العيش، لم يذقْ مرارةَ الجوع طرفةَ عين - حريٌ به أن يَعجبَ مما سمعَ كلَّ العجب، لكنْ سلوا الآباء والأجداد، الذين اصطلوا بنارِ الجوع ولهيبِ الظمأ دهرًا طويلاً، وارتعدتْ فرائصهُم وقلوبُهم من قطاعِ الطرق وعصاباتِ السطو في وضحِ النهار، يتضحُ أنَّه ليسَ في الأمرِ غرابةٌ من قريبٍ أو بعيد؛ فاعتبروا يا أولي الأبصار.

أيها المسلمون: إن للعقوباتِ أسبابًا كثيرة، ورد ذكرُ بعضهِا في الكتاب والسنَّة، وجامعُها المعاصي والذنوب، والتكذيب والإعراض؛ فأول هذه الأسباب: الكفر بالملك الوهاب، وتكذيب الرسل الكرام -عليهم الصلاة والسلام-، فقد أهلك الله -عزّ وجل- الأمم السابقة: قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم لوط، وأصحاب مدين، وقرونًا بين ذلك كثيرًا؛ بسبب كفرهم بالله -عز وجل- وتكذبيهم لرسله؛ قال تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً * فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً * وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَاباً أَلِيماً * وَعَاداً وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً * وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنَا تَتْبِيراً * وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً) [الفرقان: 35-40].

ومن أسبابِ العقوباتِ المدمرة، والفواجعِ المهلكة: إقصاءُ الشريعة عن الحكمِ والتشريع، أو تطبيقُها على أضيقِ نطاق، مع المن والأذى، والله يتوعدُ الأمة -إنْ هي فعلتْ ذلك- بالخزيِ والنكالِ في الحياةِ الدنيا، ولعذابُ الآخرةِ أشدُ وأبقى: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [البقرة: 85].

ومن أسبابِ العقوبات في الدنيا قبلَ الآخرة: إشاعةُ الفاحشةِ في الذين آمنوا، وفي ذلك يقولُ ربنا -جل جلاله: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [النور: 19]، ومن إشاعةِ الفاحشة: الدعوةُ للاختلاط ونزعِ الحجاب، وعرضُ الفساد والفنِ الرخيص، وبثُ السمومِ والأفكارِ المستوردة، مما لا يتسعُ المقام لسرده، وفي الأثر: "وما أعلن قومٌ الفاحشة إلا عمتهم الأوجاعُ والأسقامُ التي لم تكن في أسلافهم".

ومن أسبابِ العقوبات: منعُ الزكاة، تلك التي لو قامَ أثرياءُ المسلمين بأدائها، لما وجدتَ بين المسلمين فقيرًا ولا محتاجًا، واسمع إلى عقوبةِ الأمة حين تبخل بزكاةِ أموالِها، قال عليه الصلاة والسلام: "وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطرَ من السماء، ولولا البهائمْ لم يمطروا". وقد يستخفُّ أقوامٌ بهذه العقوبة ويستطرفونها؛ لأنهم اعتادوا تدفقَ المياهِ ووفرتَها في بيوتِهم، لكنهم لو قلبوا النظر يمنةً ويسرة، في البلادِ التي أصابَها القحطُ والجفاف، لعلموا أنهم كانوا واهمين، وعن الصراط لناكبين.

ومن أسبابِ العقوبات كذلك: موالاةُ الكفارِ والتقربُ إليهم بالمودةِ والمحبة، وقد أوضح القرآنُ الكريم أنه لا يتولى الكفار، ولا يتقرب إليهم إلا منافق ظاهر النفاق؛ قال الله تعالى: (بَشِّرْ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمْ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) [النساء: 138، 139]، وقد حدَّثنا التاريخ عن عقوباتٍ حصلتْ لبعض الأمم التي والتِ الكافرين، كما حصل في بلادِ الأندلس عندما والى أمراءُ الطوائفِ النصارى، فنفض الصليبيون البساطَ من تحتِ أقدامهِم، وألقوا بهم في مزبلةِ التاريخ، وأصبحتْ هذه البلاد حسرةً في نفسِ كلِ مسلم، حين يُذكرُ ما فيها من حضارةٍ وآثارٍ للمسلمين، ثم يَذكرُ أولئكَ الأوباش، الذين أضاعوا ذلك الفردوس المفقود؛ بسبب ولائهم لأعداء الله وأعداء الإسلام والمسلمين.

ومن أسبابِ العقوبات كذلك: تركُ الأمرِ بالمعروف والنهيِ عن المنكر، والذي بتركهِ تستفحلُ الفاحشة، وتعمُ الرذيلة، ويستطيلُ الشر، وتخربُ البلادُ والعباد، واسمع لعقوبةِ الأمة حين تتخلى عن فريضةِ الأمرِ بالمعروف والنهيِ عن المنكر، ففي المسندِ وغيرهِ من حديثِ حذيفةَ -رضي الله عنه- قال -عليه الصلاة والسلام-: "والذي نفسي بيده، لتأمرُنَّ بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليبعثن الله عليكم عقابًا منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم". ألا فضّ الله أفواهًا، وأخرس ألسنًا، تريدُ لهذهِ الفريضةِ أن تموت.

قال الإمام الغزالي -رحمه الله-: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين، وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين، ولو طُوِي بساطه، وأُهمِل علمه وعمله، لتعطلت النبوة، واضمحلت الديانة، وعمت الفترة، وفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد، وخربت البلاد، وهلك العباد، ولم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد، وقد كان الذي خفنا أن يكون، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ومن أسبابِ العقوباتِ –كذلك-: انتشارُ الظلمِ في المجتمع، وغيابُ العدلِ فيه، فيأكلُ القويُّ الضعيف، وينهبُ الغنيُ الفقير، ويتسلطُ صاحبُ الجاهِ والمكانة على المسالِم المسكين، وحين تسودُ هذه الأخلاقُ الذميمة، والخصالُ المنكرة، ولا تجدُ من يقولُ للظالِم: أنتَ ظالم، فقد آن أوانُ العقوبة، واقتربَ أجلُها لو كانوا يفقهون؛ فعند الترمذي وأبي داود قال -عليه الصلاة والسلام-: "إن الناسَ إذا رأوا الظالم، فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمهم الله بعقابٍ منه".

ومن أسبابِ العقوبات: فشو الربا وانتشارُه، حيث تعاطاه الكثيرون، وأَلِفه الأكثرون، وقل له الناكرون، واللهُ يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) [البقرة: 278، 279]، ويقول سبحانه: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) [البقرة: 276]، وذهابُ بركةِ المال، ومحقُ عائدهِ ونتاجهِ ملموسٌ مشاهد، يعترفُ به المرابون، ضمنًا وتصريحًا، والعالمُ الإسلامي اليوم يعاني الأزماتِ الاقتصاديةَ الخانقة لتورطهِ بتعاطي الربا، وإعراضِه عن الشرعِ المطهر، واستخفافِه بالوعيدِ الإلهي لأكلةِ الربا ومدمنيه.

ومن أسبابِ العقوباتِ كذلك: ظهور المعازف وشرب الخمور، وقد انتشر الغناء بين الناس حتى عُد أمرًا معروفًا، واستمع -يا رعاك الله- إلى العقوبة المتوعدة لأهله، قال -عليه الصلاة والسلام-: "في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف"، فقال رجل من المسلمين : يا رسول الله: ومتى ذلك؟! قال: "إذا ظهرت القيان والمعازف، وشربت الخمور".

ومن أسباب هلاك الأمم: التنافس في الدنيا والرغبة فيها والمغالبة عليها، عن عمرو بن عوف الأنصاري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها، فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة، فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- انصرف، فتعرضوا له، فتبسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث رآهم، ثم قال: "أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين؟!"، قالوا: أجل يا رسول الله، قال: "فأبشروا، وأملوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم".

ومن أسباب هلاك الأمم: ترك الجهاد والإخلاد إلى الأرض، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم".

أيها المسلمون: أسبابُ العقوباتِ كثيرة، والموضوعُ متشعبٌ وطويل، لكنْ في الإشارةِ ما يُغني عن العبارة، وما لا يُدرك كلُه، لا يتُرك جُله.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما قلت، فإن كان صوابًا فمن الله وحده، وإن كان غير ذلك فمن نفسي ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان، وأستغفر الله إنه كان غفارًا..

 

 

الخطبة الثانية:

 

 

الحمد لله على إحسانه...

أما بعد:

أيها المسلمون: فقد جرت سنة الله -عز وجل- في عباده أن يعاملهم بحسب أعمالهم، فإذا اتقى الناس ربهم -عز وجل- خالقهم ورازقهم، أنزل الله -عز وجل- عليهم البركات من السماء، وأخرج لهم الخيرات من الأرض، قال الله -تعالى-: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ) [الأعراف: 96]، وقال تعالى: (وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً) [الجن: 16]، وإذا تمرد العباد على شرع الله، وفسقوا عن أمره - أتاهم العذاب والنكال من الكبير المتعال؛ فمهما كان العباد مطيعين لله -عز وجل-، معظمين لشرعه، أغدق الله -عز وجل- عليهم النعم، وأزاح عنهم النقم، فإذا تبدل حال العباد من الطاعة إلى المعصية، ومن الشكر إلى الكفر، حلّت بهم النقم، وزالت عنهم النعم، فكل ما يحصل للعباد من إحن ومحن فبما كسبت أيديهم، ويعفو عن كثير، كما قال تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى: 30].

فالله -عزّ وجل- لا يبدل حال العباد من النقمة إلى النعمة، ومن الرخاء إلى الضنك والشقاء، حتى يغيروا ما بأنفسهم من الإيمان إلى الكفر، ومن الطاعة إلى الفسق، كما قال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) [الأنفال: 53].
 

 

 

 

 

المرفقات

الله للأمم

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات