بين التطير والتفاؤل (2)

سليمان بن حمد العودة

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/وسائل دفع التطير واتقاء التشاؤم 2/ البديل المشروع للتطير 3/ أهمية الفأل والحث عليه

اقتباس

بالفأل الحسن والعمل الصالح يشرق وجه الحياة، وترفرف رايات السعادة على الأحياء، بهذا الفأل الصالح تنشرح الصدور، وتزول الكآبة عن النفوس، وبه ينجلي الضيق، وتنقشع سحب الوهم والتشاؤم، ويكون ذلك عوناً لحسن علاقة العبد مع ربه، وعلاقة الخلق مع بعضهم.. وكل ذلك طرف من هدي الإسلام، ولون من ألوان خلق المصطفى عليه الصلاة والسلام؛ ولذا فالمسلون أحق بهذا الفأل من غيرهم من شعوب الأمم الأخرى ..

 

 

 

 

الحمد لله رب العالمين من توكل عليه كفاه ومن لاذ به سلمه وعافاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خلق كل شيء بقدر، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله دعا الأمة إلى كل خير وحذرها من كل شر، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وآل بيته الطاهرين، ورضي عن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب:70-71].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة:35].

إخوة الإسلام: وسبق الحديث عن التطير والتشاؤم، وما فيهما من خلل في المعتقد والسلوك، دون أن يدفعا مكروهاً أو يجلبا محبوباً.

ومن حق الذين سمعوا التحذير والنهي عن باب من أبواب الشرك وسلوك يعقد الحياة، ويشل حركة الأحياء، ويصيبهم بنوع من الإحباط والضيق.. من حق هؤلاء أن يسمعوا وسائل دفع التطير وكيف يتقون التشاؤم، ألا وإن من أعظم الأسباب التي يدفع بها التطير:

1- التوكل على الله، قال أبو السعادات: يقال: توكل بالأمر إذا ضمن القيام به، ووكلت أمري إلا فلان، أي: ألجأته واعتمدت عليه فيه، ووكل فلان فلاناً إذا استكفأه أمره ثقة بكفايته، أو عجز عن القيام بأمر نفسه.

والتوكل المشروع فريضة يجب إخلاصه لله تعالى؛ لأنه من أفضل العبادات وأعلى مقامات التوحيد..، ولقد أمر الله به في غير آية، وأعظم مما أمر بالوضوء والغسل من الجنابة، بل جعله شرطاً في الإيمان والإسلام ما في قوله تعالى: (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) [يونس:84].

وكلما قوي إيمان العبد كان توكله أقوى، وإذا ضعف الإيمان ضعف التوكل، والمتأمل يلحظ أن الله يجمع بين التوكل والعبادة وبين التوكل والإيمان، وبين التوكل والتقوى، وبين التوكل والإسلام وبين التوكل والهداية، فظهر أن التوكل أصل لجميع مقامات الإيمان والإحسان، ولجميع أعمال الإسلام، وأن منزلته منها كمنزلة الجسد من الرأس، فكما لا يقوم الرأس إلا على البدن فكذلك لا يقوم الإيمان ومقوماته إلا على ساق التوكل.

وكيف يتطير أو يتشاءم من يعي قوله تعالى: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُه) [الطلاق:3]، أي كافية قال بعض السلف: جعل الله لكل عمل جزاء من نفسه، وجعل جزاء التوكل عليه نفس كفايته فقال: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُه)، ولم يقل فله كذا وكذا من الأجر -كما قال في الأعمال- بل جعل نفسه -سبحانه- كافي عبده المتوكل عليه، وحسبه، وواقيه؛ فلو توكل العبد على الله حق توكله وكادته السماوات والأرض وما فيهن - لجعل له مخرجاً وكفاه ونصره.

يا أخا الإسلام: إذا انفتح عليك باب للتطير والتشاؤم، وأوغر الشيطان صدرك بالقلق والوساوس - فافتح على نفسك باب التوكل على الله؛ ثقة بما عنده، ورضاً بما يقسمه، واعتماداً عليه في تفريج الكربات؛ ومن توكل على الله كفاه.

2- العلم بأن كل شيء يسير بقدر الله؛ قال الله تعالى: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) (القمر:49)، وقال تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) [الحديد:22].

ومن حكم ذلك حتى لا يشتد فرح الإنسان لما آتاه الله فقد يكون فيه حتفه، ولا تذهب نفسه حسرات على ما فاته؛ فقد يكون فيه نجاته. وهنا تنقطع مادة التطير ويحس المسلم بالطمأنينة والرضا، يقول عليه الصلاة والسلام: "كل شيء بقدر حتى العجز والكيس" والمعنى أن كل شيء بتقدير الله في الأزل ولا بد أن يقع ما قدره الله، والمراد بالعجز: التقصير فيما يجب فعله بالتسويف، وهم عام في أمور الدنيا والدين.

والكيس: هو النشاط والحذق، أو كمال العقل وشدة معرفة الأمور، أو تمييز ما فيه الضر والنفع. وهذا الشعور بتقدير الله الأزلي لما يحدث في هذا الكون ينبغي أن يشعره بالرضا واليقين وأن يدفع عنه الطيرة والتشاؤم، دون أن يقعد به عن فعل الأسباب المأمور بها شرعاً؛ فالعلم والتوكل شيء، والجهل والتواكل شيء آخر؛ فليعلم.

3- ومما يعين على دفع التطير -بإذن الله- أن يدافع ما يجد في نفسه من تطير؛ أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "الطيرة شرك، الطيرة شرك، والطيرة شرك، وما منا إلا، ولكن يذهبه الله بالتوكل"، والمعنى: وما منا إلا ويعتريه التطير، ولكن من وقع له ذلك وسلم الله، ولم يعبأ بالطيرة. فلا يؤاخذ بما عرض لها.

وعلى المسلم في سبيل علاج التطير ألا يتابع هذه الخطرات، ولا يستسلم للوساوس وألا تصده عما هم به؛ فقد جاء في صحيح مسلم عن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله: كنا نتطير، قال: ذاك شيء يجده أحدكم في نفسه فلا يصدنكم".

4- والاستخارة المشروعة يدفع الله بها وينفع، وهي من تمام التوكل على الله وتفويض الأمر إليه، وهي خير بديل عن الطيرة والتشاؤم.

والمراد بالاستخارة: طلب خير الأمرين لمن احتاج إلى أحدهما، وهي مشروعة في الأمور التي لا يدري العبد وجه الصواب فيها أما ما هو معروف خيره كالعبادات وصنائع المعروف فلا حاجة للاستخارة فيها.

عباد الله: مع عظيم فضل الله علينا في هذه الاستخارة، وشدة حاجتنا إليها في كثير من أمورنا - فما أعظم تفريط بعض الخلق فيها، وزهدهم في دعائها. وهذا جابر بن عبدالله رضي الله عنه يقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: "إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم يقول: اللهم إني استخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم؛ فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إنت كنت تعلم أن هذا الأمر -ويسميه- خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري -أو قال في عاجل أمري وآجله- فاقدره لي. وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري -أو قال في عاجل أمري وآجله- فاصرفه عني واصرفني عنه، وأقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به، ويسمى حاجته" قال النووي يرحمه الله: وإذا استخار مضى بعدها لما ينشرح له صدره.

5- أيها المسلم والمسلمة: الدعاء بشكل عام عبادة مشروعة، ولا يرد القضاء إلا الدعاء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وهو طريق من طرق دفع التطير؛ كيف لا، وقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم دعاء ندعو به؛ لدفع التطير في المرأة، والدابة، والخادم؛ فقد روى البخاري في خلق أفعال العباد، والنسائي في عمل اليوم والليلة والبغوي في شرح السنة، وابن ماجه في سننه، والحاكم صححه ووافقه الذهبي والنووي في الأذكار وصححه، وجود إسناده العراقي، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا تزوج أحدكم امرأة: أو اشترى خادماً فليقل: اللهم إني أسألك خيرها وخير ما جبلتها عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتها عليه، وإذا اشترى بعيراً فليأخذ بذروة سنامه وليقل مثل ذلك".

6- الانتقال من المكان الذي يظن أنه مشؤوم، وذلك لإبطال الوهم بالشؤم؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله إنا كنا في دار كثير فيها عددنا، كثيرة فيها أموالنا، فتحولنا إلى دار أخرى فقل فيها عددنا، وقلت فيها أموالنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذورها ذميمة"، قال ابن عبدالبر: وعندي أنه إنما قاله خشية عليهم التزام الطيرة.

 

 

 

 

الخطبة الثانية

 

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً طاهراً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وخيرته من خلقه.. اللهم صل وسلم عليه وعلى إخوانه من الأنبياء.

إخوة الإسلام: يبقى بعد ذلك علاج عملي لدفع الطيرة والتشاؤم ألا وهو الفأل الحسن فحين نهى الشارع عن الطيرة والشؤم جعل الفأل البديل والعلاج، والسبب في ذلك أن الطيرة سوء ظن بالله تعالى، والفأل حسن ظن بالله، والمسلم مأمور بحسن الظن بربه، والفأل خلق من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم تمثله في حياته ودعى الناس إليه، وفي الحديث: كان صلى الله عليه وسلم يحب الفأل ويكره الطيرة". والفأل هو الكلمة الحسنة يسمعها الإنسان ويستبشر بها. وكان صلى الله عليه وسلم يعجبه الفأل؛ ففي الحديث -المتفق على صحته- عن أنس بن مالك رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل" قالوا: وما الفأل: قال "كلمة طيبة"، وفي لفظ: "الكلمة الحسنة".

والمتأمل في سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- يجد فيها نماذج للفأل، والبعد عن التشاؤم والتطير، وعلى سبيل المثال لا الحصر قال عليه الصلاة والسلام عن جبل أحد "هذا جبل يحبنا ونحبه"، ومن المعلوم أن وقعة أحد الشهيرة كانت عند هذا الجبل، وبها أصيب المسلمون كما قال تعالى: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُم) [آل عمران:165]، فقد انجلت المعركة عن سبعين شهيداً من المسلمين، ولم يسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين في هذه الغزوة؛ إذ كسرت رباعيته، وشج في وجهه، وسال دمه، وكسرت البيضة على رأسه؛ كما ثبت ذلك في الأخبار الصحاح. ومع ذلك كله فلم يتشاءم الرسول صلى الله عليه وسلم أو يتطير من هذا المكان – بل قال حين رجع من الحج، أو حين عاد من تبوك وأشرف على المدينة "هذا جبل يحبنا ونحبه".

قال السهيلي يرحمه الله: كان صلى الله عليه وسلم يحب الفأل الحسن والاسم الحسن ولا اسم أحسن من اسم مشتق من "الأحدية" قال: ومع كونه مشتقاً من الأحدية، فحركات حروفه الرفع أحد، وذلك يشعر بارتفاع دين الأحد وعلوه، فتعلق الحب من النبي صلى الله عليه وسلم به لفظاً ومعنى فخص من بين الجبال بذلك والله أعلم.

إخوة الإسلام: قد يسأل سائل عن الفرق بين الفأل والتطير عن السر في استحباب الأول وتحريم الثاني، وقد أجاب عن ذلك ابن الأثير يرحمه الله فقال: الفأل فيما يرجى وقوعه من الخير، ويحسن ظاهره ويسر، والطيرة لا تكون إلا فيما يسوء، وإنما أحب النبي صلى الله عليه وسلم الفأل؛ لأن الناس إذا أمَّلوا فائدة من الله، ورجوا عائدته عند كل سبب ضعيف أو قوي - فهم على خير، وإن لم يدركوا ما أملوا فقد أصابوا في الرجاء من الله وطلب ما عنده، وفي الرجاء لهم خير معجل؛ ألا ترى أنهم إذا قطعوا أملهم ورجاءهم من الله كان ذلك من الشر؟
فأما الطيرة فإن فيها سوء الظن، وقطع الرجاء، وتوقع البلاء، وقنوط النفس من الخير، وذلك مذموم بين العقلاء، منهي عنه من جهة الشرع ا.هـ.

ألا فتفاءلوا -معاشر المسلمين-، وأملوا خيراً، وأحسنوا الظن بربكم، وقدموا بين يدي هذا الفأل عملاً صالحاً تتقربون به إلى بارئكم، ومهما أظلمت الدنيا في وجوهكم أو حاول الشيطان أن يقنطكم - فثقوا أن فرج الله قريب، وأن مع العسر يسراً، ولن يغلب عسر يسرين، وأن الله يبلو الناس بالشر والخير فتنة ليعلم الصابرين والشاكرين، وليميز الخبيث من الطيب..

وإذا اغتر بعض الخلق برحمات الخلق وأعطياتهم - انفرد المؤمنون بالتعلق برحمة الله ووثقوا بحسن عطائه؛ فالله هو المعطي وهو المانع، والله يقول -وهو أصدق القائلين-: (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [فاطر:2]، ويقول -جل شأنه-: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس:58].

إخوة الإيمان: بالفأل الحسن والعمل الصالح يشرق وجه الحياة، وترفرف رايات السعادة على الأحياء، بهذا الفأل الصالح تنشرح الصدور، وتزول الكآبة عن النفوس، وبه ينجلي الضيق، وتنقشع سحب الوهم والتشاؤم، ويكون ذلك عوناً لحسن علاقة العبد مع ربه، وعلاقة الخلق مع بعضهم.. وكل ذلك طرف من هدي الإسلام، ولون من ألوان خلق المصطفى عليه الصلاة والسلام؛ ولذا فالمسلون أحق بهذا الفأل من غيرهم من شعوب الأمم الأخرى؛ فهل يفقه المسلمون دينهم، وهل يتجنبون مواطن الخلل في عقائدهم وسلوكياتهم ذلك المرتجى -الله من وراء القصد وهو حسبنا ونعم الوكيل-.

هذا وصلوا ...

 

 

 

 

 

 

المرفقات

966

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات