بين المصلحين والمفسدين (2) شؤم المفسدين

الشيخ د إبراهيم بن محمد الحقيل

2022-10-09 - 1444/03/13
التصنيفات: الفكر والثقافة
عناصر الخطبة
1/نظرة الناس للصلاح والفساد 2/ المفسدون من الأقوام السابقة 3/ مفسدو هذا العصر 4/ أفعال المفسدين 5/ شؤم المفسدين .
اهداف الخطبة
بيان شؤم المفسدين على أهل الأرض .
عنوان فرعي أول
هم أهل الفساد
عنوان فرعي ثاني
بما فعل السفهاء منا

اقتباس

أيها الناس: من حكمة الله تعالى في عباده، ومن عظيم ابتلائه لهم أن جعلهم طائفتين مختلفتين، وقسمهم إلى فريقين متحاربين؛ ففريق اختار طريق الأنبياء عليهم السلام في السعي بالصلاح والإصلاح، وفريق سار سيرة الطغاة المستكبرين فسعى بالفساد والإفساد.

 

 

 

 

الحمد لله العليم الحكيم؛ أرسل الرسل مبشرين ومنذرين، وأقام حجته على خلقه أجمعين، نحمده على هدايته، ونشكره على ولايته (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) [البقرة:257] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ ابتلى المؤمنين بالكفار، والأخيار بالفجار؛ حكمة منه وامتحانا (وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) [الأنعام:53]

وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ ختم الله تعالى به النبوات فلا نبي بعده، ولا يسع من بلغته دعوته إلا اتباعه (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِالله وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِالله وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [الأعراف:158] صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فاتقوا الله ربكم، وأخلصوا له عملكم، وأقيموا دينكم، فمن وافاه على ذلك سعد سعادة لا يشقى بعدها أبدا، ومن فرط في حياته، وضيع دينه فلا يلومنَّ إلا نفسه (وَالوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَظْلِمُونَ) [الأعراف:8-9] .

أيها الناس: من حكمة الله تعالى في عباده، ومن عظيم ابتلائه لهم أن جعلهم طائفتين مختلفتين، وقسمهم إلى فريقين متحاربين؛ ففريق اختار طريق الأنبياء عليهم السلام في السعي بالصلاح والإصلاح، وفريق سار سيرة الطغاة المستكبرين فسعى بالفساد والإفساد.

والناس يختلفون في تحديد الصلاح من الفساد، والإصلاح من الإفساد بحسب أديانهم وأفكارهم ومذاهبهم، وإلا فإن الصلاح والإصلاح يدعيه كل أحد، والفساد والإفساد يتبرأ منه كل الناس، والمفسدون في الأرض لا يرون أنفسهم إلا أنهم مصلحون، وملاحدة البشر يرون أن الدين هو المفسد للناس؛ ولذا يحاربونه لتحرير البشرية منه كما يزعمون، وقديما قال فرعون الطاغية وهو رأس في الفساد والإفساد (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الفَسَادَ) [غافر:26].

وإذا كان الاختلاف بين البشر في تحديد الصلاح من الفساد، والمصلح من المفسد قد بلغ هذا الحد؛ فإن الميزان في ذلك شريعة الله تعالى؛ لأن الله سبحانه خالق الخلق ومدبرهم، وهو الذي أنزل الدين وشرعه لهم، وهو من يحاسبهم به ويجازيهم عليه، فكانت معرفة الصلاح والفساد، وتحديد المصلحين من المفسدين عن طريق وحيه وشريعته، وتلك حقيقة يجب أن لا يختلف فيها مسلمان، وفي القرآن العظيم (وَاللهُ يَعْلَمُ المُفْسِدَ مِنَ المُصْلِحِ) [البقرة:220] وفي آية أخرى (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالمُفْسِدِينَ) [آل عمران:63] وفي آية ثالثة (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالمُفْسِدِينَ) [يونس:40] .

فكل مؤمن بالله تعالى، مصدق بموعوده، داعية إلى دينه، محارب لما عارضه فهو صالح مصلح وإن رُمي بغير ذلك، وكل معارض لشريعة الله تعالى، ممالئ لمن يحاربها فهو فاسد مفسد ولو زعم خلاف ذلك.

ومن طبيعة المفسدين في الأرض أنهم يتشاءمون بالمصلحين، ويزعمون أنهم سبب بلاء البشر، وانتكاس حالهم، وتردي أوضاعهم، وقد قال ذلك الأقدمون من المفسدين، وتشاءموا من رسلهم عليهم السلام، وادعوا أنهم سبب ما يصيبهم من البلاء؛ فقبيلة ثمود تطيروا بصالح عليه السلام ومن معه من المؤمنين (قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) [النمل:47] وأصحاب القرية تطيروا برسل الله تعالى إليهم (قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) [يس:18-19] وأخبر الله تعالى عن فرعون وقومه أنهم تطيروا بموسى عليه السلام والمؤمنين معه (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ الله وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) [الأعراف:131] والمفسدون من قريش فعلوا ذلك مع النبي عليه الصلاة والسلام، فتطيروا به، وأرجعوا كل مصائبهم إليه وإلى ما يدعو إليه من توحيد الله تعالى، وإخلاص الدين له (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ القَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا) [النساء:78]

ومن تأمل واقع المفسدين في هذا العصر سواء كانوا ملاحدة أم وثنيين أم أهل الكتاب أم منافقين فسيجد أنهم قد ساروا على ذات الطريق الذي سار عليه إخوانهم المفسدون قبلهم؛ فهم يتطيرون بدين الله تعالى وبشريعته وبحملتها، وبالدعاة إليها، ويُرْجعون كل مصائب الأمة وتأخرَها واختلافها إلى دين الله تعالى والمتمسكين به، ويدعون الناس إلى نبذ أحكام الله تعالى إن أرادوا عزا وتقدما واجتماعا وازدهارا.

والحقيقة المستمدة من الكتاب والسنة: أن سبب بلاء البشر ومصائبهم هم أهل الفساد والإفساد من الكفار والمنافقين، ومن تبعهم في ضلالهم، وسار سيرتهم، وهم سبب رفع الخيرات، وتنزل العقوبات، وهم سبب هلاك من هلك في الأمم الغابرة، وكل بلاء حلَّ في البشر قديما وحديثا فبشؤم كفرهم بالله تعالى، وحربهم على شريعته، وسعيهم لإفساد البشر، والحيلولة بينهم وبين المصلحين بشتى الطرق والوسائل، واقرءوا كتاب الله تعالى تجدوا أن كل المعذبين قبلنا إنما عذبوا بسبب طاعتهم للمفسدين من أقوامهم، وتنكبهم لما دعتهم إليه رسلهم عليهم السلام؛ ففي قصة شعيب عليه السلام (وَقَالَ المَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ) [الأعراف:90]

 

وقد ذكَّرهم شعيب عليه السلام بسير المعذبين من قبلهم، وحذَّرهم من صدهم الناس عن دين الله تعالى فقال لهم: (وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُفْسِدِينَ) [الأعراف:86] ولكنهم لم يصغوا إليه عليه السلام، وساروا سيرة المفسدين من قبلهم فعذبوا كما عذبوا. وهكذا كل الأمم التي عذبت إنما عذبت بسبب طاعة المفسدين، فكانوا شؤما وبلاء على أقوامهم (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ المَصِيرُ) [الحج:48] وفي الآية الأخرى (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا) [الطَّلاق:8-9] فهذا من أعظم شؤم المفسدين على البشر.

والمفسدون من البشر يسعون جادين في نشر فسادهم، ودعوة الناس إليه، حتى يكثر الخبث فيهم، فيكون ذلك سبب عذابهم، وقد قالت زينب بنت جحش رضي الله عنها: "يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث" متفق عليه.

ولا يكتفون بإتيان الخبيث من القول والفعل، ونشره في الناس، ودعوتهم إليه، بل يجاهرون بمنكرهم، ويعلنون به، حتى ترفع العافية عن الناس، ويستوجبوا العقاب بسببهم؛ كما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال:"كل أمتي معافى إلا المجاهرين" رواه البخاري.

والأمة التي يجاهر المفسدون فيها بالمنكرات، ولا ينكر عليهم أحد حَرِيَّة برفع عافيتها، ووجوب عقوبتها.
وجاء في حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "يا أمة محمد، والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته" رواه الشيخان، وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما من أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش" رواه الشيخان.

والمفسدون في الأرض هم الذين ينشرون الفواحش، ويدعون الناس إليها، ويمهدون سبلها بما يشرعونه من انحراف فكري عقائدي يسمونه الحريات والخصوصيات، وبما يعملون عليه من سبل اختلاط النساء بالرجال.

والمفسدون في الأرض هم سبب سلب الخيرات، وقلة البركة في الأرزاق، وهم سبب الجوع والخوف؛ فإن ذلك إنما يقع بسبب الذنوب والمعاصي، وهم أهلها والداعون إليها، وقد قال الله تعالى مبينا شؤم فرعون وملئه على قومهم (كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ العِقَابِ) [آل عمران:11].

وقوم سبأ لم يتبدل نعيمهم وهناؤهم إلى جوع وخوف وعذاب إلا بشؤم المفسدين منهم (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ العَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الكَفُورَ) [سبأ:15-17].

وأهل مكة كانوا في رغد من العيش، وأمن من الخوف، فلما استكبر المفسدون من قريش عن دعوة النبي عليه الصلاة والسلام أصيبت مكة بالجوع والخوف، وهي المعنية بقول الله تعالى: (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) [النحل:112] .

ومن نظر في أحوال العالم المعاصر فسيجد أن كل بلاء الناس، وجوعَهم وخوفَهم، واضطرابَ أحوالهم إنما كان بسبب إفساد المفسدين، الذين يريدون تعبيد الناس لأهوائهم من دون الله تعالى، فمَنْ سعر الحروب، وأفقر الشعوب إلا المستكبرون في الدول القوية!! ومن حال بين الناس وبين دين الحق إلا هم والمنافقون معهم بتزوير الحقائق، والتدليس على الناس!! ولا يزال المفسدون من الكفار والمنافقين جادين في إخراج الناس من دينهم، وصدهم عن الحق إلى باطلهم، ويملكون أقوى وسائل الدعاية في ذلك، رد الله تعالى كيدهم عليهم، وحفظ المسلمين من شرهم ومكرهم إنه سميع مجيب.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ بَلِ اللهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ) [آل عمران:149-150] .

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم....

الخطبة الثانية

الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين.

أما بعد:

فاتقوا الله تعالى وأطيعوه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ) [الحشر:18-19].

أيها المؤمنون: قد أفاض القرآن الكريم في وصف المفسدين من البشر، وبيَّن أسباب ضلالهم، ورداءة أحوالهم، وحذر من أفعالهم، ولم يُسَوِّ الله تعالى بينهم وبين المصلحين، بل ذكر سبحانه أن المؤمنين القائمين بأمر الله تعالى هم خير خلقه عز وجل، كما بيَّن عز وجل أن الكفار والمنافقين هم شر خلقه سبحانه (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَالمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ البَرِيَّةِ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ البَرِيَّةِ) [البيِّنة:6-7] .

وأعظم شؤم جرَّه المفسدون من الكفار والمنافقين على البشرية أن أتباعهم المخدوعين بهم، السائرين خلفهم، يعذبون معهم يوم القيامة بسبب طاعتهم لهم، وقد كانوا في الدنيا يعدونهم بالنجاة من العذاب، وبأنهم إنما يهدونهم سبل الرشاد، فإذا وقفوا بين يدي الله تعالى تبين للأتباع أن هؤلاء المفسدين قد غشُّوهم وكذبوا عليهم، وأوردوهم دار السعير، ثم تبرءوا منهم، كما يتبرأ المجرم من شركائه في الجريمة (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا العَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ) [البقرة:166-167].

وفي مشهد آخر يحكي الله تعالى عنهم فيقول سبحانه: (وَبَرَزُوا للهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ) [إبراهيم:21].

وفي مشهد ثالث يقول الله تعالى واصفا جدالهم (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ القَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا العَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [سبأ:31-33].

وفي مشهد رابع يقول سبحانه عنهم (وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ العِبَادِ) [غافر:47-48 ].

إنها آيات عظيمة فيها الحجة والبرهان على أن المفسدين في الأرض، يتعدى وبالهم أنفسَهم ليصيب أتباعَهم، فهل هناك شؤم أعظم من هذا؟! حين يوردونهم العذاب ثم يتخلون عنهم، ويتبرءون منهم.

إن عذاب الدنيا لا يقع إلا بالمعاصي، والمفسدون في الأرض هم أهل المعاصي، وهم الذين يدعون الناس إليها.

وإن النجاة من عذاب الدنيا لا تكون إلا بطاعة الله تعالى، والاستقامة على دينه، والمفسدون في الأرض يصدون عن دين الله تعالى، ويحاربون الدعاة إليه.

وإن عذاب الآخرة لا يصيب العباد إلا بكفرهم ومعصيتهم، والمفسدون في الأرض هم من يزينون المعاصي للناس، ويدلونهم عليها، ويفتحون لهم أبوابها، ويمهدون سبلها.

وإن النجاة من عذاب الآخرة لا تكون إلا بطاعة الله تعالى بعد رحمته سبحانه، والمفسدون في الأرض يريدون من الناس أن يطيعوهم ولا يطيعوا ربهم، فهم دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم قذفوه فيها، فاحذروهم، واحذروا مسالكهم وحبائلهم، وحذِّروا الناس منهم؛ فإنهم إذا رأوا العذاب تبرءوا من أتباعهم.

وصلوا وسلموا على نبيكم....
 

 

 

 

المرفقات

المصلحين والمفسدين (2) شؤم المفسدين

المصلحين والمفسدين (2) شؤم المفسدين - مشكولة

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات