اقتباس
فإن من العدل والإنصاف؛ أن نصرخ في وجوه أدعياء حقوق الإنسان؛ لقد سبقكم إلى ذلك الإسلام ودعا إليه؛ فقد حث الإنسان على العدل، ونصرة المظلوم، وإعانة الفقير، وإفشاء السلام، وحفظ المال العام والخاص، وضمن حقوق...
واهم من ظن أن البشرية لم تعرف حقوق الإنسان؛ إلا بعد مجيء منظمات حقوق الإنسان الغربية؛ كما أنه متخرص جاهل، لم يتأمل في كتاب الله -سبحانه وتعالى- حق التأمل، ولم يتدبر في شرع الله؛ حيث إن الإسلام قد أرسى هذه الحقوق أربعة عشر قرناً؛ حين أوجب الله تلك الحقوق في القرآن الكريم وأكد عليها نبيه -صلى الله عليه وسلم- في السنة المطهرة، وكان محل إعجاب كل المنصفين؛ حتى من الغربيين أنفسهم.
عباد الله: والمتأمل في كتاب الله بإنصاف وتجرد؛ يجد أن الكريم -سبحانه وتعالى- كرم الإنسان أعظم تكريم، وميّزه أعظم تمييز، وفضّله على سائر خلقه بخصائص عظيمة ومزايا جليلة، تكريما منه -سبحانه وتعالى- وتفضلاً؛ فقال في كتاب العزيز: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) [الإسراء : 70]؛ فجعل -سبحانه وتعالى- للإنسان حقوقاً وخصه بها، وأوجبها له في كتابه العزيز وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وجعل له ضميرا، ولم يدعه كالبهيمة، بل ترك له حرية الاختيار وأكرمه بالعقل الذي يختار به الطريق الذي يسعده في الدارين، وحمله تبعات ذلك الاختيار: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) [البقرة:256].
وهذا هو التكريم العام؛ أما التكريم الخاص؛ فهو للذين استجابوا لله ورسوله واتبعوا سبيلهما؛ وقد جعل معيار الحصول على ذلك التكريم مدى تمسكه بدين ربه وهداه ومحبته لخالقه ومولاه ومراقبته له في جهره ونجواه؛ فقال -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)[الحجرات: 13].
وحتى تستبين دعاوى الحقوقيين وتستفيق عقول المنصفين؛ منهم خاصة والبشرية عامة؛ تعالوا لننظر في الحقوق التي تؤكد؛ أن الإسلام قد كفلها للإنسان وفرضها له قبل أربعة عشر قرنا؛ فمن ذلك: أولاً: أن الله تعالى كفل له حق الحياة؛ فسخر لاستقامتها السماوات والأرض الليل والنهر والشمس والقمر قال -تعالى-: (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) [لقمان:20]؛ بل إن الإسلام عصم دمه وماله وعرضه، قال -صلى الله عليه وسلم-: "فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ بَيْنَكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا" (رواه البخاري ومسلم)
ثانيا: ومن الحقوق التي رعاها الإسلام له؛ حق المسكن؛ قال -تعالى-: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا) [النحل: 80]؛ بل وحرم الدخول عليه إلا بإذن صاحبها؛ فقال: (لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا…) [النور:27]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إذا استأذن ثلاث مرات فإن أُذن له وإلَّا فليرجع" (أخرجه البخاري).
ثالثا: ومما كفله الإسلام للإنسان من الحقوق؛ حق التعلم والتعليم: وقد كان أول ما نزل من القرآن الكريم الدعوة للمعرفة والقراءة، قال -تعالى-: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) [العلق:1-3].
رابعا: ومن الحقوق كذلك حق العمل والكسب؛ فقال- جل في علاه-: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) [الملك:15]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده" (أخرجه البخاري).
خامساً: ومن الحقوق التي جعلها الله للإنسان؛ حق التملك والتصرف، وهذا تأكيد على حق الفرد في التملك، قال -تعالى-: (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) [الحديد: 7].
أيها الناس: فإن من العدل والانصاف؛ أن نصرخ في وجوه أدعياء حقوق الإنسان؛ لقد سبقكم إلى ذلك الإسلام ودعا إليه؛ فقد حث الإنسان على العدل، ونصرة المظلوم، وإعانة الفقير، وإفشاء السلام، وحفظ المال العام والخاص، وضمن حقوق الأطفال والنساء والضعفاء، ولذلك صح في أثر له شواهده أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في حلف الفضول، وهو حلف تداعت إليه قريش في الجاهلية، بأن لا يجدوا مظلوما من أهلها، أو من غيرهم من سائر الناس؛ إلا قاموا معه حتى ترد عليه مظلمته، قال -صلى الله عليه وسلم- بعد أن أصبح نبيا رسولا: "لقد شهدت مع عمومتي حلفاً في دار عبد الله بن جدعان ما أحبّ أن لي به حُمْر النَّعَم، ولو دُعيت به في الإسلام لأجبت".
فعذراً يا أدعياء حقوق الإنسان؛ إن شريعة الإسلام هي: مصدر الحقوق وحمايتها، وكل الحقوق مأخوذة منها؛ سواء من نصوص خاصة أو من نصوص عامة، أو من القواعد العامة للشريعة؛ فما تقرره فهو الحق، وما تنفيه؛ فليس بحق وإن رأيتموه حقا. وشتان بين من مصدره الشريعة الغراء التي تحث على العدل والعفة والتكافل والرحمة وبين من مرجعه أهل الكذب والأهواء اللذين يدعون إلى الظلم والاختلاط، ونزع الحجاب، والحرية في المعاشرة مع من شاءت؛ حالهم، كما قيل:
هرَبوا مِن الرِّقِّ الذي خُلِقُوا لَهُ ****وَبُلُوا بِرِقِّ النَّفْسِ والشَّيْطانِ
ومن يقرأ التاريخ يدرك؛ أنه لم يمر على الإنسانية ما يرعى الحقوق ويحيطها مثل الإسلام، وليس هذا مجال للتتبع ولكن أذكر شيئا من ذلك على عجل، أولها حقُّ التعبير بلا وجلٍ ولا خوف؛ فهذا الصحابي الجليل يُظهر للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن قراره العسكري لم يكن صوابا؛ فقال بكل أدب: أهو وحيٌ من الله؛ فنسمعُ ونطيعُ أم المكيدةُ والحرب؟ فقال "بل المكيدة والحرب"؛ فقال: فالخرج إلى بدر.. الخ القصة المشهورة.
ولم تكن هذه الحرية مكفولة في زمن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقط، بل كُفلت للأمة من بعد ذلك؛ فقد روي أن الفاروق؛ جاءته بُرود من اليمن؛ ففرقها على الناس بُرداً بُرداً؛ ثم صعد المنبر يخطب وعليه حُلَّةٌ منها -والحلة ثوبان-؛ فقال: "اسمعوا رحمكم الله"! فقام إليه رجل من القوم؛ فقال: "والله لا نسمع، والله لا نسمع"، فقال:" ولم يا عبد الله؟! قال" "لأنك يا عمر تفضلت علينا بالدنيا، فرقت علينا برداً براً وخرجت تخطب في حلة منها"، فقال "أين عبد الله بن عمر؟" فقال:" ها أنا يا أمير المؤمنين"، فقال: لمن أحد هذين البردين اللذين عليّ؟ قال "لي"، فقال للرجل: "عجلت يا عبد الله، إني كنت غسلت ثوبي الخَلِق, فاستعرت ثوب عبد الله"، قال: "قل الآن نسمع ونطيع". ولم تحترمْ حقوق الإنسان المسلم فقط، بل شملت حق الكافر، وقد أظهرها عمر بأحسن صورها يوم أن لطَم ابنُ أحد الأمراء مصرياً قبطياً؛ فقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قولته الخالدة: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا".
وبعد ذلك بمئات السنين؛ يقف شيخ الإسلام أمام طاغية من الطواغيت وهو حاكم التتر ويزجره على اعتقال أعداد من المسلمين؛ فيقرر الإفراج عنهم؛ فيقول: "وكذلك أهل الذمة لابد من إخراجهم".
والحديث يطول عن الحقوق التي رعاها الإسلام للأنام، ولكني أختم حديثي بقول ابن القيم -رحمه الله-؛ حيث قال: والناس: "عبد محض، وحر محض، ومكاتب قد أدى بعض كتابته، وهو يسعى في بقية الأداء". فالعبد المحض: عبد الماء والطين الذي قد استعبدته نفسه وشهوته، وملكته وقهرته، فانقاد لها انقياد العبد إلى سيده الحاكم عليه. والحر المحض: هو الذي قهر شهوته ونفسه وملكها، فانقادت معه، وذلت له ودخلت تحت رقه وحكمه.
وختاما: أخي الخطيب المبارك ها نحن قد وضعنا بين يديك هذه المقدمة اليسيرة مع عدد من الخطب التي تحدثت عن حقوق الإنسان بين ما أثبته الإسلام وبين ما أضافه أدعياء الحقوق والأوهام؛ حتى تكون سفرينا إلى جمهورك الكريم. سائلين الله تعالى أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه وأن يرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم