عناصر الخطبة
1/قدرة الله وحكمته في تعاقب الفصول والأعوام 2/الشتاء ربيع المؤمن 3/بعض مظاهر تيسير الشريعة في فصل الشتاءاقتباس
موسمُ الشتاءِ -عبادَ اللهِ- موسم ربيع المؤمنين، يرتعون فيه في بساتين الطاعات، ويسرحون في ميادين العبادات، ويُنَزِّهون قلوبَهم في رياض القُرُبات، قد خفَّ العناءُ وقلَّ التعبُ والنَّصَبُ، فلا الصوم يُجهِدُهم، ولا الليل يَضِيق عن نومهم وقيامهم...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، الحمد لله علَّام الغيوب، وساتر العيوب، وكاشف الكروب، وغافر الذنوب، المطَّلِع على سرائر القلوب، نحمده ونستعينه ونستغفره، وإليه نتوب، نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، ونعتصم به في كل أمورنا وأحوالنا، أشهد ألَّا إله إلَّا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، بلَّغ الرسالةَ وأدَّى الأمانةَ ونصَح الأمةَ، وجاهَد في الله حقَّ الجهاد حتى أتاه اليقينُ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعدُ: فإن خير الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عبادَ اللهِ: اتقوا الله فيما أَمَرَ، وانتهوا عما نهى عنه وزَجَرَ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102].
عبادَ اللهِ: إن في منصرم الأيام معتَبَر، وفي الماضي ذكرى وعِبَر، (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ)[النُّورِ: 44].
معاشرَ المسلمينَ: تتعاقب الأيام والشهور والفصول والأعوام، وتنقضي الآمال، وتفنى الآجال، وتتلاحق الأجيال، وكلُّ مَنْ عليها فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال، وقد أقبل عليكم -عبادَ اللهِ- فصلُ الشتاء، زمهريرُه كثيرٌ، وبردُه نذيرٌ، أَذِنَ اللهُ لجهنم أن تتنفَّس فيه، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "اشتكتِ النارُ إلى ربها وقالَتْ: "أَكَلَ بعضي بعضًا، فجعل لها نفسَينِ؛ نَفَسًا في الشتاء ونَفَسًا في الصيف، فأمَّا نَفَسُهَا في الشتاء فزمهريرٌ، وأمَّا نَفَسُهَا في الصيف فسمومٌ" (متفق عليه)، وروي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه كان إذا حضَر الشتاءُ تعاهَد رعيتَه وكتَب لهم: "إن الشتاء قد حضَر، وهو عدوٌّ، فتأهَّبُوا له أُهبَتَه من الصوف والخفاف والجوارب، واتخِذُوا الصوفَ شعارًا ودثارًا؛ فإن البردَ عدوٌّ سريعٌ دخولُه، بعيدٌ خروجُه"؛ فتَعَهُّدوا -عبادَ اللهِ الضعفاءَ، تعهدوا الضعفاء، وأعينوهم على برد الشتاء، تعهدوهم في الطعام واللباس والغطاء، واحتَسِبوا أجرَهم عند الله يومَ اللقاء، (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ)[الْبَقَرَةِ: 272].
عبادَ اللهِ: تأملوا هذه الأزمنة والفصول وما فيها من المصالح والحِكَم؛ إذ لو كان الزمان كله فصلا واحدا لفاتت مصالح الفصول الباقية فيه؛ فلو كان صيفا كله لفاتت منافع مصالح الشتاء، ولو كان شتاء لفاتت مصالح الصيف، وكذلك لو كان ربيعا كله أو خريفا كله.
فواعجبًا كيف يُعصَى الإلهُ *** أم كيف يجحده الجاحدُ
وفي كل شيء له آية *** تدل على أنه الواحد
معاشرَ المسلمينَ: قد أقبل الشتاء فحيَّ هلًا بغنيمة العابدين، وربيع المؤمنين، يطول ليلُه فيأخذون حظَّهم من النوم، وتتجافي جنوبُهم عن المضاجع للقيام، ويقصر نهارُه الباردُ فيخِفُّ عليهم عناءُ الصيام، (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)[الذَّارِيَاتِ: 15-18].
موسمُ الشتاءِ -عبادَ اللهِ- موسم ربيع المؤمنين، يرتعون فيه في بساتين الطاعات، ويسرحون في ميادين العبادات، ويُنَزِّهون قلوبَهم في رياض القُرُبات، قد خفَّ العناءُ وقلَّ التعبُ والنَّصَبُ، فلا الصوم يُجهِدُهم، ولا الليل يَضِيق عن نومهم وقيامهم، عن عامر بن مسعود -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة" (رواه أحمد والترمذي)، وعن عبد الله بن سَلَام -رضي الله عنه- قال: "لِمَّا قَدِمَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- المدينةَ انجفل الناسُ إليه، فجئتُ في الناس لأنظر إليه، فلما استبنتُ وجهَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عرفتُ أن وجهَه ليس بوجه كذَّاب، وكان أول شيء تكلَّم به أن قال: يا أيها الناسُ، أَفْشُوا السلامَ، وأَطْعِمُوا الطعامَ، وصَلُّوا بالليل والناسُ نيامٌ، تدخُلُوا الجنةَ بسلام" (رواه أحمد والترمذي وصححه).
ولَمَّا حضرت معاذَ بن جبل -رضي الله عنه- الوفاةُ قال لجاريته: "هل أَصْبَحْنَا؟ قالت: لا، ثم ترَكَهَا ساعةً، ثم قال: انظري. فقالت: نعم، فقال: أعوذ بالله من صباح إلى النار، ثم قال: مرحبًا بالموت، مرحبًا بزائر جاء على فاقة، لا أفلَح مَنْ نَدِمَ، اللهم إنكَ تعلم أني لم أكن أُحِبُّ البقاءَ في الدنيا لكري الأنهار ولا لغرس الأشجار، ولكن كنتُ أُحِبُّ البقاءَ لمكابَدة ليل الشتاء الطويل، ولظمأ الهواجر في الحر الشديد، ولمزاحَمة العلماء بالرُّكَب في حِلَق الذِّكْر".
عبادَ اللهِ: في فصل الشتاء يطول الليل ويقصر النهار، وقد جعَل اللهُ الليلَ لباسًا والنومَ سباتًا، (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا)[الْفُرْقَانِ: 47]، إن الإدمان على السهر داء مُضَيِّع للنشاط، ومسبِّب للخمول، ومعطِّل عن الكسب والعمل، ومُهْدِر للأوقات، وشاغل عن الطاعات، ومخالِف للسُّنَّة، قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ)[الرُّومِ: 23]، وقال: (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ)[غَافِرٍ: 61]، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يكره النومَ قبلَها والحديثَ بعدها؛ يعني صلاة العِشاء؛ فاقتَدُوا -رحمكم الله- بهدي نبيكم تفلحوا.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله إنه كان غفارا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على توفيقه وإحسانه، والصلاة والسلام على محمد الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه.
معاشرَ المسلمينَ: إن الإسلام قد استوعب ظروف الحياة، وراعى تغير الزمان والأوقات، فشرع في أحكامه العزائمَ، كما شرَع التيسيرَ والرخصَ للضرورات، وإن مما يرفع اللهُ به الدرجاتِ، ويكفِّر الخطايا والسيئات المبادَرة إلى الطهورِ؛ شطرِ الإيمانِ، وشرطِ الصلاةِ ركنِ الإسلامِ، فتجشُّم المكاره، والتعبُّد باستعمال الماء في وقت البرد في الشتاء من مكفِّرات الذنوب، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ألَا أدُلُّكم على ما يمحو اللهُ به الخطايا، ويرفع به الدرجاتِ؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: إسباغُ الوضوءِ على المكارهِ، وكثرةُ الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط" (رواه مسلم).
عبادَ اللهِ: ومن مرونة الشريعة وحكمة الإسلام؛ دينِ اليُسْرِ والسماحة التخفيف على الناس عند المشقة العارضة، والضرر المحتمل، قال تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)[الْحَجِّ: 78]، فالمشقة تجلب التيسيرَ، واللهُ -جلَّ وعلا- يقول: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا)[الطَّلَاقِ: 7]، وقد شرَع الإسلامُ الرخصَ عند الحرج والمشقة والضرورة، ومن ذلك أن المريض، وحتى الصحيح، إذا خاف على نفسه من استعمال الماء شُرِعَ له التيممُ بالتراب، كما شُرِعَ للجريح المسحُ على الساتر والجبيرة، فعن جابر -رضي الله عنه- قال: "خرَجْنا في سفر فأصاب رجلًا منا حجرٌ فشَجَّه في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابَه فقال: هل تجدون لي رخصةً في التيمم؟ قالوا: ما نجد لك رخصةً وأنتَ تقدِر على الماء. فاغتسل فمات، فلما قَدِمْنا على النبي -صلى الله عليه وسلم- أُخبِرَ بذلك فقال: ما لهم؟ قتلوه قتَلَهم اللهُ، قتلوه قتَلَهم الله، قتلوه قتَلَهم اللهُ، قد جعَل اللهُ الصعيدَ طهورًا، ألَا سألوا إذ لم يعلموا؛ فإنما شفاء العِيِّ السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمَّم ويعصب على جرحه خرقةً، ثم يمسح عليها ويغسل سائرَ جسده" (رواه أبو داود والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي).
وعن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- قال: "احتلمتُ في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل، فأشفقتُ إن اغتسلتُ أن أهلك، فتيممتُ ثم صليتُ بأصحابي الصبحَ، فذَكَرُوا ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا عمرو، صليتَ بأصحابِكَ وأنتَ جُنُبٌ؟ فأخبرتُه بما منعني من الاغتسال وقلتُ: إني سمعتُ اللهَ يقول: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا)[النِّسَاءِ: 29]، فضَحِكَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يقل شيئًا" (رواه أبو داود).
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر عباد الموحِّدين، واجعل اللهم هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفِّق وليَّ أمرنا خادم الحرمين الشريفين بتوفيقِكَ، وأيِّده بتأييدِكَ، اللهم وفقه وولي عهده لما تحب وترضى، يا سميع الدعاء.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا غيثا هنيئا مريئا، سَحًّا غَدَقًا نافعا مجللا غير ضار، اللهم تحيي به البلاد وتجعله بلاغا للحاضر والباد، اللهم سقيا رحمة، اللهم سقيا رحمة، اللهم اسق عبادك وبهائمك، اللهم اسق عبادك وبهائمك، وانشر رحمتك وأحي بلدك الميت، اللهم إنا نستغفرك إنك كنتَ غفارا، اللهم إنا نستغفرك إنك كنتَ غفارا فأرسل السماء علينا مدرارا، فأرسل السماء علينا مدرارا، فأرسل السماء علينا مدرارا، برحمتك يا أرحم الراحمين.
عبادَ اللهِ: صلوا وسلموا على مَنْ أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم