تفكر
2022-10-11 - 1444/03/15التعريف
أولًا: المعنى اللغوي:
يحدد ابن فارس الجذر الثلاثي لمصطلح التفكر بقوله: “الفاء والكاف والراء تردد القلب في الشيء، يقال: تفكر إذا ردد قلبه معتبرًا”(مقاييس اللغة:٤-٤٤٦).
أما عند ابن منظور: “الفكر والفكر: إعمال الخاطر في الشيء، قال سيبويه: ولا يجمع الفكر ولا العلم ولا النظر”(لسان العرب:٥-٤٣٥١).
ويذكر صاحب القاموس: “الفكر -بالكسر ويفتح-: إعمال النظر في الشيء”(القاموس المحيط:٢-١١٥).
وفي المعجم الوسيط: “(فكر) في الأمر فكرًا: أعمل العقل فيه، ورتب بعض ما يعلم؛ ليصل به إلى مجهول... (التفكير): إعمال العقل في مشكلة؛ للتوصل إلى حلها... (الفكر): إعمال العقل في المعلوم؛ للوصول إلى معرفة مجهول”(المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية:٢-٦٩٨).
هذه خلاصة ما جادت به كتب اللغة في هذا المصطلح، ومن خلال التمعن في هذه التعريفات يلاحظ أنها تشترك في المعاني التالية وهي أن التفكر:
يعتمد على إعمال القلب والعقل والنظر والخاطر، ويكون بالتردد والتكرار، ويكون في المعلوم طلبًا للمجهول.
ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:
قال الراغب الأصفهاني: “الفكرة: قوة مطرقة للعلم إلى المعلوم، والتفكر: جولان تلك القوة بحسب نظر العقل؛ وذلك للإنسان دون الحيوان، ولا يقال إلا فيما يمكن أن يحصل له صورة في القلب...، ورجل فكير كثير الفكرة، قال بعض الأدباء: الفكر مقلوب عن الفرك، لكن يستعمل الفكر في المعاني، وهوفرك الأمور وبحثها طلبًا للوصول إلى حقيقتها”(المفردات:٢-٢٠٢).
وقال الجرجاني: “التفكر تصرف القلب في معاني الأشياء؛ لدرك المطلوب”(التعريفات:ص٨٨).
العناصر
1- أهمية التفكر.
2- فضل التفكر.
3- أقسام التفكر.
4- بعض مجالات التفكر في خلق الله.
5- من آثار التفكر في آيات الله وفي الكون وفي الآفاق وفي النفس.
6- الإيمان وأثره في التفكر والاعتبار.
الايات
1- قَالَ الله تَعَالَى: قال الله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)[البقرة:164].
2- قالَ تَعَالَى: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ)[البقرة: 219].
3- قالَ تَعَالَى: (إِنَّ في خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ)[آل عمران:190-191].
4- قالَ تَعَالَى: (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)[الأعراف:176]
5- قالَ تَعَالَى: (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ)[يوسف:109].
6- قالَ تَعَالَى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)[النحل:44]
7- قالَ تَعَالَى: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ)[الأنبياء:30].
8- قالَ تَعَالَى: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ)[الروم:8].
9- قالَ تَعَالَى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)[الروم: 21].
10- قال تعالى: (إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا للهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا)[سـبأ:46].
11- قالَ تَعَالَى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا)[محمد:10].
12- قالَ تَعَالَى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)[لقمان:31].
13- قوله تعال: (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ * نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَولا تَذَكَّرُونَ * أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَونَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَونَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَولا تَشْكُرُونَ * أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ * نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ)[الواقعة:58-74].
14- قالَ تَعَالَى: (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)[الْحَشْرِ: 21].
15- قالَ تَعَالَى: (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ)[المدثر: 18].
16- قالَ تَعَالَى: (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ)[الغاشية:17-20].
الاحاديث
1- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال بت عند خالتي ميمونة في بيت ميمونة فتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهله ساعة ثم رقد فلما كان ثلث الليل الآخر قعد فنظر إلى السماء فقال: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ) [آل عمران:190]. ثم قام فتوضأ واستن فصلى إحدى عشرة ركعة ثم أذن بلال فصلى ركعتين ثم خرج فصلى الصبح (رواه البخاري:4569 واللفظ له، ومسلم:763).
2- عن عبد الله بن سلام مرفوعا بلفظ: “لا تفكروا في الله، وتفكروا في خلق الله، فإن ربنا خلق ملكا، قدماه في الأرض السابعة السفلى، ورأسه قد جاوز السماء العليا، وما بين قدميه إلى ركبته مسيرة ستمائة عام، وما بين كعبيه إلى أخمص قدميه مسيرة ستمائة عام، والخالق أعظم من المخلوق”(قال الألباني رحمه الله: أخرجه أبونعيم في الحلية:6/66-67).
3- عن عبيد بن عمير رضي الله أنه قال لعائشة رضي الله عنها: أخبرينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: فسكتت ثم قالت لما كان ليلة من الليالي قال: “يا عائشة ذريني أتعبد الليلة لربي”، قلت والله إني أحب قربك وأحب ما يسرك، قالت: فقام فتطهر ثم قام يصلي، قالت فلم يزل يبكي حتى بل حِجْرَه، قالت وكان جالسا فلم يزل يبكي صلى الله عليه وسلم حتى بل لحيته، قالت ثم بكى حتى بل الأرض فجاء بلال يؤذنه بالصلاة فلما رآه يبكي قال يا رسول الله تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال: "أفلا أكون عبدا شكورا، لقد نزلت علي الليلة آية ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها": (إِنّ فِي خَلْقِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفِ الْلّيْلِ وَالنّهَارِ لاَيَاتٍ لاُوْلِي الألْبَابِ)[آل عمران: 190]، (رواه ابن حبان في صحيحه وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب:1468).
4- عن حذيفة -رضي الله عنه- قال: صلّيت مع النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ذات ليلة، فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المائة، ثمّ مضى. فقلت: يصلّي بها في ركعة. فمضى، فقلت: يركع بها، ثمّ افتتح النّساء فقرأها، ثمّ افتتح آل عمران فقرأها. يقرأ مترسّلا، إذا مرّ بآية فيها تسبيح سبّح، وإذا مرّ بسؤال سأل، وإذا مرّ بتعوّذ تعوّذ... الحديث (رواه مسلم:772).
5- عن عبيد بن عمير -رضي الله عنه- قال: قالَ عُمَرُ -رضي الله عنه- يَوْمًا لأصْحابِ النبيِّ صلّى اللّه عليه وسلّم: فِيمَ تَرَوْنَ هذِه الآيَةَ نَزَلَتْ: (أيَوَدُّ أحَدُكُمْ أنْ تَكُونَ له جَنَّةٌ)؟ قالوا: اللهُ أعْلَمُ، فَغَضِبَ عُمَرُ فَقالَ: قُولوا نَعْلَمُ أوْ لا نَعْلَمُ، فَقالَ ابنُ عَبّاسٍ: في نَفْسِي منها شيءٌ يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ، قالَ عُمَرُ: يا ابْنَ أخِي قُلْ ولا تَحْقِرْ نَفْسَكَ، قالَ ابنُ عَبّاسٍ: ضُرِبَتْ مَثَلًا لِعَمَلٍ، قالَ عُمَرُ: أيُّ عَمَلٍ؟ قالَ ابنُ عَبّاسٍ: لِعَمَلٍ، قالَ عُمَرُ: لِرَجُلٍ غَنِيٍّ يَعْمَلُ بطاعَةِ اللهِ، ثُمَّ بَعَثَ اللهُ له الشَّيْطانَ، فَعَمِلَ بالمعاصِي حتّى أغْرَقَ أعْمالَهُ (رواه البخاري:٤٥٣٨).
الاثار
1- قَالَ ابْن عَبَّاس رضي الله عنه: "رَكْعَتَانِ مقتصدتان فِي تفكر خير من قيام لَيْلَة بِلَا قلب"(مفتاح دار السعادة:180).
2- قَالَ ابْن عَبَّاس رضي الله عنه: "التفكر فِي الْخَيْر يَدْعُو الى الْعَمَل بِهِ"(مفتاح دار السعادة:180).
3- قال الحسن: "تفكر ساعة خير من قيام ليلة"(مفتاح دار السعادة:180).
4- قَالَ الْحسن: "أن أهل الْعلم لم يزَالُوا يعودون بِالذكر على الْفِكر والفكر على الذّكر ويناطقون الْقُلُوب حَتَّى نطقت بالحكمة"(مفتاح دار السعادة:180).
5- سأل رجل أم الدَّرْدَاء بعد مَوته عَن عِبَادَته فَقَالَت: "كَانَ نَهَاره اجمعه فِي بادية التفكر"(مفتاح دار السعادة:180).
6- قال بعض السّلف: "تفكر سَاعَة خير من عبَادَة سِتِّينَ سنة"(مفتاح دار السعادة:180).
7- قيل لإبراهيم: إِنَّك تطيل الفكرة فَقَالَ: الفكرة مخ الْعقل"(مفتاح دار السعادة:180).
8- قَالَ الْحسن فِي قَوْله تَعَالَى: (سأصرف عَن آياتي الَّذين يتكبرون فِي الارض بِغَيْر الْحق) قَالَ: "أمنعهم التفكر فِيهَا"(مفتاح دار السعادة:180).
9- قَالَ الْحسن: "طول الْوحدَة أتم للفكرة وَطول الفكرة دَلِيل على طَرِيق الْجنَّة"(مفتاح دار السعادة:180).
10- قَالَ وهب: "مَا طَالَتْ فكرة اُحْدُ قطّ الا علم وَمَا علم امْرُؤ قطّ الا عمل"(مفتاح دار السعادة:180).
11- قَالَ أبو سُلَيْمَان: "الْفِكر فِي الدُّنْيَا حجاب عَن الآخرة وعقوبة لأهل الْولَايَة والفكرة فِي الاخرة تورث الْحِكْمَة وتجلي الْقُلُوب"(مفتاح دار السعادة:180).
12- قَالَ عمر بن عبد العزيز: "الفكرة فِي نعم الله من أفضل الْعِبَادَة"(مفتاح دار السعادة:180).
13- قَالَ بشر: "لَو فكر النَّاس فِي عَظمَة الله مَا عصوه"(مفتاح دار السعادة:180).
14- قَالَ عبد الله بن الْمُبَارك لبَعض أصحابه وَقد رَآهُ مفكرا: "أيْنَ بلغت؟ قَالَ: الصِّرَاط"(مفتاح دار السعادة:180).
15- قال الحسن: "الفكرة مرآة تريك حسناتك وسيئاتك"(تفسير ابن كثير:1-396).
16- قال سفيان بن عيينة: "الفكرة نور يدخل قلبك"(تفسير ابن كثير:1-396).
17- قال الشَّافِعِي: "اسْتَعِينُوا على الْكَلَام بِالصَّمْتِ وعَلى الاستنباط بالفكرة"(مفتاح دار السعادة:180).
18- وقال رحمه الله: "صحةُ النظر في الأمور نجاةٌ من الغرور، والعزمُ في الرأي سلامةٌ من التفريط والندم، والرويَّةُ والفكرُ يكشفان عن الحزم والفطنة، ومشاورةُ الحكماء ثباتٌ في النفس، وقوةٌ في البصيرة؛ ففكِّر قبل أن تعزم، وتدبَّر قبل أن تَهْجُم، وشاوِر قبل أن تتقدَّم"(إحياء علوم الدين:4-425).
19- عن عامر بن عبد قيس قال: سمعت غير واحد ولا اثنين ولا ثلاثة من أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه وسلّم يقولون: "إنّ ضياء الإيمان أو نور الإيمان التّفكّر"(الدر المنثور:2-409).
20- قال الفضيل: "إنّما نزل القرآن ليعمل به فاتّخذ النّاس قراءته عملا". قال: قيل: كيف العمل به؟ قال: "أي ليحلّوا حلاله، ويحرّموا حرامه، ويأتمروا بأوامره، وينتهوا عن نواهية، ويقفوا عند عجائبه"(اقتضاء العلم العمل للخطيب البغدادي:76).
21- قال الشّيخ أبو سليمان الدّارانيّ: "إنّي لأخرج من منزلي فما يقع بصري على شيء إلّا رأيت للّه فيه نعمة ولي فيه عبرة"(تفسير ابن كثير:1-438).
22- قال بشر بن الحارث الحافي: "لو تفكّر النّاس في عظمة اللّه ما عصوا اللّه عزّ وجلّ"(الإحياء للغزالي:4-425).
23- قال مغيث الأسود: "زوروا القبور كلّ يوم تذكّركم الاخرة، وشاهدوا الموقف بقلوبكم. وانظروا إلى المنصرف بالفريقين إلى الجنّة أو إلى النّار، وأشعروا قلوبكم وأبدانكم ذكر النّار، ومقامعها وأطباقها. وكان يبكي عند ذلك حتّى يرفع صريعا من بين أصحابه قد ذهب عقله"(تفسير ابن كثير:1-438).
القصص
1- كان لقمان الحكيم يطيل الجلوس وحده، فكان يمر به مولاه، فيقول: يا لقمان؛ إنك تديم الجلوس وحدك؛ فلو جلست مع الناس كان آنس لك، فيقول لقمان: إن طول الوحدة أدوم للفكر، وطول الفكر دليل على طريق الجنة [إحياء علوم الدين:4-424).
2- بينما أبو شريح يمشي إذ جلس، فتقنع بكسائه، فجعل يبكي، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: تفكرت في ذهاب عمري، وقلة عملي، واقتراب أجلي (العمر والشيب لابن أبي الدنيا:1-56).
3- قال ابن عقيل: "إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة ومناظرة، وبصري عن مطالعة، أعملت فكري في حال راحتي، وأنا مستطرح، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطره، وإني لأجد من حرصي على العلم وأنا في عشر الثمانين أشد مما كنت أجده وأنا ابن عشرين سنة (المنتظم:9-213).
الاشعار
1- قال إسحاق ابن إبراهيم سمعت سفيان بن عيينة يقول :
الفكرة نور تدخله قلبك قال عبدالله وحدثنا أبو حفص القرشي قال كان سفيان بن عيينة دائما يتمثل :
إِذَا الْمَـرْءُ كَـانَتْ لَـهُ فِكْـرَةٌ *** فَفِـي كُـلِّ شَـيْءٍ لَـهُ عِبْرَةٌ
(حلية الأولياء:7-306).
2- رحم الله من قال:
لله في الآفاق آيات لعلّ *** أقلها هو ما إليه هداكا
ولعل ما في النفس من آياته *** عجبٌ عجابٌ لو ترى عيناكا
والكون مشـحون بأسرار إذا *** حاولت تفسيراً لها أعياكا
(الإيمان بالله جل جلاله المؤلف: عَلي محمد محمد الصَّلاَّبي:1-17).
3- قال سفيان بن عيينة -رحمه اللّه-:
إذا المرء كانت له فكرة *** ففي كلّ شيء له عبرة
(إحياء علوم الدين:4-424).
2- قال أبو نواس:
تأمّل في نبات الأرض وانظر *** إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين شاخصات *** بأحداق هي الذّهب السّبيك
على قضب الزّبرجد شاهدات *** بأنّ اللّه ليس له شريك
(تاريخ الأدب العربي لأحمد حسن الزيات:300).
3- قال الشّاعر:
إذا كنت في نعمة فارعها *** فإنّ الذّنوب تزيل النّعم
وحطها بطاعة ربّ العباد *** فربّ العباد سريع النقم
وإيّاك والظّلم مهما استطعت *** فظلم العباد شديد الوخم
وسافر بقلبك بين الورى *** لتبصر آثار من قد ظلم
(الجواب الكافي:86).
الدراسات
1- أكدت أحدث دراسة نفسية أجراها د.جون كلارك أستاذ علم النفس بجامعة «بافلو» الأمريكية؛ حيث تنصح دراسة جون كل من يعاني بالتشتت الذهني والحيرة وعدم الاستقرار النفسي بقليل من «الصوم عن الكلام»، والانعزال والتأمل والاسترخاء يوميا؛ حيث يختلي الإنسان بنفسه؛ ليفكر ويتأمل بهدوء، مراعياً «الفراغ» أو فاعلاً «لا شيء»؛ ليطهر نفسه، ويريح عقله الذي يعاني من الازدحام، وتكدس المعلومات التي يتلقى منها الملايين بمقياس الكومبيوتر في الدقيقة الواحدة، وسيجد أن تلك الطريقة أفضل من الاعتماد على الأدوية والعقاقير، فالصمت يكسبنا الكثير من الفضائل والقيم الإنسانية، على حد تعبير جون.
2- أثبتت دراسة حديثة أن خلو الإنسان بنفسه كي يتأمل عالمه الداخلي ويتعبد ويحاسب نفسه على أخطائها يزيده صقلاً وصفاء.
متفرقات
قال بعض العلماء: "من أراد فضل العلماء فعليه بالتفكر"(تفسير حقي).
قال ابن القيم: "الفكرة عمل الْقلب وَالْعِبَادَة عمل الجوارح وَالْقلب أشرف من الْجَوَارِح فَكَانَ عمله أشرف من عمل الْجَوَارِح وأيضا فالتفكر يُوقع صَاحبه من الايمان على مَالا يوقعه عَلَيْهِ الْعَمَل الْمُجَرّد فان التفكر يُوجب لَهُ من انكشاف حقائق الامور وظهورها لَهُ وتميز مراتبها فِي الْخَيْر وَالشَّر وَمَعْرِفَة مفضولها من فاضلها واقبحها من قبيحها وَمَعْرِفَة اسبابها الموصلة اليها وَمَا يُقَاوم تِلْكَ الاسباب وَيدْفَع مُوجبهَا والتمييز بَين مَا يَنْبَغِي السَّعْي فِي تحصيله وَبَين مَا يَنْبَغِي السَّعْي فِي دفع أسبابه وَالْفرق بَين الْوَهم والخيال الْمَانِع لأكثر النُّفُوس من انتهاز الفرص بعد إمكانها وَبَين السَّبَب الْمَانِع حَقِيقَة فيشتغل بِهِ دون الاول فَمَا قطع العَبْد عَن كَمَاله وفلاحه وسعادته العاجلة والآجلة قَاطع اعظم من الْوَهم الْغَالِب على النَّفس والخيال الَّذِي هُوَ مركبها بل بحرها الَّذِي لَا تنفك سابحة فِيهِ وَإِنَّمَا يقطع هَذَا الْعَارِض بفكرة صَحِيحَة وعزم صَادِق يُمَيّز بِهِ بَين الْوَهم والحقيقة وَكَذَلِكَ إِذا فكر فِي عواقب الامور وَتجَاوز فكره مباديها وَضعهَا موَاضعهَا وَعلم مراتبها فَإِذا ورد عَلَيْهِ وَارِد الذَّنب والشهوة فَتَجَاوز فكره لذته وَفَرح النَّفس بِهِ إلى سوء عاقبته وَمَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ من الألم والحزن الَّذِي لَا يُقَاوم تِلْكَ اللَّذَّة والفرحة وَمن فكر فِي ذَلِك فَإِنَّهُ لَا يكَاد يقدم عَلَيْهِ.
وَكَذَلِكَ إِذا ورد على قلبه وَارِد الرَّاحَة والدعة والكسل والتقاعد عَن مشقة الطَّاعَات وتعبها حَتَّى عبر بفكره إلى مَا يترتب عَلَيْهَا من اللَّذَّات والخيرات والأفراح الَّتِي تغمر تِلْكَ الآلام الَّتِي فِي مباديها بِالنِّسْبَةِ إلى كَمَال عواقبها وَكلما غاص فكره فِي ذَلِك اشْتَدَّ طلبه لَهَا وَسَهل عَلَيْهِ معاناتها اسْتَقْبلهَا بنشاط وَقُوَّة وعزيمة وَكَذَلِكَ إِذا فكر فِي مُنْتَهى مَا يستعبده من المَال والجاه والصور وَنظر الى غَايَة ذَلِك بِعَين فكره اسْتَحى من عقله وَنَفسه ان يكون عبدا لذَلِك كَمَا قيل:
لَو فكر العاشق فِي مُنْتَهى *** حسن الَّذِي يسبيه لم يسبه
وَكَذَلِكَ إِذا فكر فِي آخر الأطعمة المفتخرة الَّتِي تفانت عَلَيْهَا نفوس أشباه الانعام وَمَا يصير أمرها إليه عِنْد خُرُوجهَا ارْتَفَعت همته عَن صرفهَا إلى الاعتناء بهَا وَجعلهَا معبود قلبه الَّذِي إليه يتَوَجَّه وَله يرضى ويغضب وَيسْعَى ويكدح ويوالي ويعادي كَمَا جَاءَ فِي الْمسند عَن النَّبِي أنه قَالَ: "إِن الله جعل طَعَام ابْن آدم مثل الدُّنْيَا وَإِن قزحه ملحه فَإِنَّهُ يعلم إلى مَا يصير أَوْ كَمَا قَالَ فَإِذا وَقع فكره على عَاقِبَة ذَلِك وَآخر أمْرَهْ وَكَانَت نَفسه حرَّة أبية ربأ بها أن يَجْعَلهَا عبدا لما آخِره أنتن شَيْء وأخبثه وأفحشه.
معرفَة ثَالِثَة: وَمِثَال ذَلِك إِذا أحضر فِي قلبه العاجلة وعيشها ونعيمها وَمَا يقْتَرن بِهِ من الآفات وانقطاعه وزواله ثمَّ أحضر فِي قلبه الآخرة وَنَعِيمهَا ولذته ودوامه وفضله على نعيم الدُّنْيَا وَجزم بِهَذَيْنِ العلمين أثمر لَهُ ذَلِك علما ثَالِثا وَهُوَ أن الآخرة وَنَعِيمهَا الْفَاضِل الدَّائِم أولى عِنْد كل عَاقل بإيثاره من العاجلة المنقطعة المنغصة ثمَّ لَهُ فِي معرفَة الاخرة حالتان: إحداهما أن يكون قد سمع ذَلِك من غَيره من غير أن يُبَاشر قلبه برد الْيَقِين بِهِ وَلم يفض قلبه إلى مكافحة حَقِيقَة الآخرة وَهَذَا حَال أَكثر النَّاس فيتجاذبه داعيان أحدهما دَاعِي العاجلة وإيثارها وَهُوَ أقوى الداعيين عِنْده لأنه مشَاهد لَهُ محسوس وداعي الآخرة وَهُوَ أضعف الداعيين عِنْده لأنه دَاع عَن سَماع لم يُبَاشر قلبه الْيَقِين بِهِ وَلَا كافحه حَقِيقَته العلمية فَإِذا ترك العاجلة للآخرة تريه نَفسه بأنه قد ترك مَعْلُوما لمظنون أو متحققا لموهوم فلسان الحال يُنادي عَلَيْهِ لا أدع ذرة منقودة لدرة موعودة وهَذِه الآفة هي الَّتِي منعت النُّفُوس من الاستعداد للآخرة وأن يسْعى لَها سعيها وهِي من ضعف العلم بها وتيقنها، وإلّا فَمَعَ الجَزْم التّام الَّذِي لا يخالج القلب فِيهِ شكّ لا يَقع التهاون بها وعدم الرَّغْبَة فِيها ولِهَذا لَو قدم لرجل طَعام في غايَة الطّيب واللذة وهو شَدِيد الحاجة إليه ثمَّ قيل لَهُ إنَّه مَسْمُوم فَإنَّهُ لا يقدم عَلَيْهِ لعلمه بِأن سوء ما تجني عاقِبَة تناوله تربو في المضرَّة على لَذَّة أكله فَما بال الإيمان بالآخرة لا يكون في قلبه بِهَذِهِ المنزلَة ما ذاك إلا لضعف شَجَرَة العلم والإيمان بها في القلب وعدم استقرارها فِيهِ وكَذَلِكَ إذا كانَ سائرا في طَرِيق فَقيل لَهُ إن بها قطاعا ولصوصا يقتلُون من وجدوه ويَأْخُذُونَ مَتاعه فإنه لا يسلكها إلا على أحد وجْهَيْن:
إما أن لا يصدق المخبر، وإمّا أن يَثِق من نَفسه بغلبتهم وقهرهم والانتصار عَلَيْهِم وآلاف فَمَعَ تَصْدِيقه للْخَبَر تَصْدِيقًا لا يتمارى فِيهِ وعلمه من نَفسه بضعفه وعجزه عَن مقاومتهم فَإنَّهُ لا يسلكها ولَو حصل لَهُ هَذانِ العلمان فِيما يرتكبه من إيثار الدُّنْيا وشهواتها لم يقدم على ذَلِك فَعلم أن إيثاره للعاجلة وترك استعداده للآخرة لا يكون قطّ مَعَ كَمال تَصْدِيقه وإيمانه أبدا.
الحالة الثّانِيَة أن يتَيَقَّن ويجزم جزما لا شكّ فِيهِ بِأن لَهُ دارا غير هَذِه الدّار ومعادا لَهُ خلق وأن هَذِه الدّار طَرِيق إلى ذَلِك المعاد ومنزل من منازِل السائرين إليه ويعلم مَعَ ذَلِك أنها باقِيَة ونَعِيمها وعذابها لا يَزُول ولا نِسْبَة لهَذا النَّعيم والعَذاب العاجل إليه إلّا كَما يدْخل الرجل أصبعه في اليم ثمَّ يَنْزِعها فالَّذِي تعلق بها مِنهُ هو كالدنيا بِالنِّسْبَةِ إلى الآخرة فيثمر لَهُ هَذا العلم إيثار الآخرة وطلبها والاستعداد التّام لَها وأن يسْعى لَها سعيها، وهَذا يسْعى تفكرا وتذكرا ونظرا وتأملا واعتبارا وتدبرا واستبصارا، وهَذِه معان مُتَقارِبَة تَجْتَمِع في شَيْء وتتفرق في آخر ويُسمى تفكرا لأنه اسْتِعْمال الفكرة في ذَلِك وإحضاره عِنْده ويُسمى تذكرا لأنه إحضار للْعلم الَّذِي يجب مراعاته بعد ذُهُوله وغيبته عَنهُ ومِنه قوله تَعالى: (إن الَّذين اتَّقوا إذا مسهم طائف من الشَّيْطان تَذكرُوا فَإذا هم مبصرون)
وَيُسمى نظرا لأنه التِفات بِالقَلْبِ إلى المنظور فِيهِ ويُسمى تأملا لأنه مُراجعَة للنَّظَر كرة بعد كرة حَتّى يتجلى لَهُ وينكشف لِقَلْبِهِ ويُسمى اعْتِبارا وهو افتعال من العبور لأنه يعبر مِنهُ إلى غَيره فيعبر من ذَلِك الَّذِي قد فكر فِيهِ إلى معرفَة ثالِثَة وهِي المَقْصُود من الِاعْتِبار ولِهَذا يُسمى عِبْرَة وهِي على بِناء الحالات كالجلسة والركبَة والقتلة إيذانا بِأن هَذا العلم والمعرفة قد صار حالا لصاحبه يعبر مِنهُ إلى المَقْصُود بِهِ وقالَ الله تَعالى (إن في ذَلِك لعبرة لمن يخْشى) وقالَ (إن في ذَلِك لعبرة لأولي الأبصار) ويُسمى تدبرا لأنه نظر في أدبار الأمور وهِي أواخرها وعواقبها، ومِنه تدبر القَوْل وقالَ تَعالى (أفلم يدبروا القَوْل) (أفلا يتدبرون القُرْآن ولَو كانَ من عند غير الله لوجدوا فِيهِ اخْتِلافا كثيرا)
وتدبر الكَلام أن ينظر في أوله وآخره ثمَّ يُعِيد نظره مره بعد مرّة ولِهَذا جاءَ على بِناء التفعل كالتجرع والتفهم والتبين وسمى استبصارا وهو استفعال من التبصر وهو تبين الأمر وانكشافه وتجليه للبصيرة وكل من التَّذَكُّر والتفكر لَهُ فائِدَة غير فائِدَة الآخر فالتذكر يُفِيد تكْرار القلب على ما علمه وعرفه ليرسخ فِيهِ ويثبت ولا ينمحي فَيذْهب أثره من القلب جملَة، والتفكر يُفِيد تَكْثِير العلم واستجلاب ما لَيْسَ حاصِلا عند القلب فالتفكر يحصله والتذكر يحفظه، ولِهَذا قالَ الحسن: ما زالَ أهل العلم يعودون بالتذكر على التفكر وبالتفكر على التَّذَكُّر ويناطقون القُلُوب حَتّى نطقت بالحكمة فالتفكر والتذكر بذار العلم وسقيه مطارحته ومذاكرته تلقيحه كَما قالَ بعض السّلف: ملاقاة الرِّجال تلقيح لألبابها فالمذاكرة بها لقاح العقل فالخير والسعادة في خزانَة مفتاحها التفكر فَإنَّهُ لا بُد من تفكر وعلم يكون نتيجته الفِكر وحال يحدث للقلب من ذَلِك العلم فَإن كل من عمل شَيْئا من المحبوب أوْ المَكْرُوه لا بُد أن يبْقى لِقَلْبِهِ حالَة وينصبغ بصبغة من علمه وتلك الحال توجب لَهُ إرادَة وتلك الإرادة توجب وُقُوع العَمَل.
فهاهُنا خَمْسَة أمور الفِكر وثمرته العلم وثمرتهما الحالة الَّتِي تحدث للقلب وثَمَرَة ذَلِك الإرادة وثمرتها العلم فالفكر إذا هو المبدأ والمفتاح لِلْخَيْراتِ كلها وهَذا يكْشف لَك عَن فضل التفكر وشرفه وأنه من أفضل أعمال القلب وانفعها لَهُ حَتّى قيل تفكر ساعَة خير من عبادَة سنة فالفكر هو الَّذِي ينْقل من موت الفطنة إلى حَياة اليَقَظَة ومن المكاره إلى المحاب ومن الرَّغْبَة والحرص إلى الزّهْد والقناعة، ومن سجن الدُّنْيا إلى فضاء الآخرة، ومن ضيق الجَهْل إلى سَعَة العلم ورحبه، ومن مرض الشَّهْوَة والإخلاد إلى هَذِه الدّار إلى شِفاء الإنابة إلى الله والتجافي عَن دار الغرُور، ومن مُصِيبَة العَمى والصمم والبكم إلى نعْمَة البَصَر والسمع والفهم عَن الله والعقل عَنهُ، ومن أمراض الشُّبُهات إلى برد اليَقِين وثلج الصُّدُور.
وَبِالجُمْلَةِ فَأصل كل طاعَة إنَّما هي الفِكر وكَذَلِكَ أصل كل مَعْصِيّة إنَّما يحدث من جانب الفكرة فَإن الشَّيْطان يُصادف أرْض القلب خالِيَة فارغة فيبذر فِيها حب الأفكار الردية فيتولد مِنهُ الأرادات والعزوم فيتولد مِنها العَمَل فَإذا صادف أرْض القلب مَشْغُولَة ببذر الأفكار النافعة فِيما خلق لَهُ وفِيما أمر بِهِ وفيم هيئ لَهُ واعد لَهُ من النَّعيم المُقِيم أو العَذاب الاليم لم يجد لبذره موضعا وهَذا كَما قيل:
أتاني هَواها قبل أن اعرف الهوى ∗∗∗ فصادف قلبا فارغًا فتمكنا
فإن قيل: قد ذكرتم الفكر ومنفعته وعظم تأثيره في الخير والشرّ، فما متعلقه الذي ينبغي أن يوقع عليه ويجري فيه؟ فإنه لا يتم المقصود منه إلاّ بذكر متعلّقه الذي يقع الفكر فيه، وإلاّ ففكر بغير مُتفَكَّر فيه مُحال.
قيل: مجرى الفكر ومتعلقه أربعة أمور:
أحدها: غاية محبوبة مُرادة الحصول.
الثاني: طريق مُوصِلة إلى تلك الغاية.
الثالث: مضرة مطلوبة الإعدام مكروهة الحصول.
الرابع: الطريق المُفضي إليها المُوقع عليها.
فلا تتجاوز أفكار العقلاء هذه الأمور الأربعة. وأي فكر تخطّاها فهو من الأفكار الردِيّة والخيالات والأماني الباطلة؛ كما يتخيل الفقير المعدم نفسه من أغنى البشر، وهو يأخذ ويعطي وينعم ويحرم، وكما يتخيل العاجز نفسه من أقوى الملوك وهو يتصرّف في البلاد والرعيّة، ونظير ذلك من أفكار القلوب الباطولية التي من جنس أفكار السكران والمحشوش والضعيف العقل. فالأفكار الرديّة هي قوت الأنفس الخسيسة التي هي في غاية الدناءة؛ فإنها قد قنعت بالخيال ورضيت بالمُحال، ثم لا تزال هذه الأفكار تقوى بها وتتزايد حتى توجب لها آثارًا ردّية ووساوس وأمراضًا بطيئة الزوال.
وإذا كان الفكر النافع لا يخرج عن الأقسام الأربعة التي ذكرناها فله أيضاً محلاّن ومنزلان: أحدهما: هذه الدار، والآخر: دار القرار.
فأبناء الدنيا الذين ليس لهم في الآخرة من خلاق عمّروا بيوت أفكارهم بتلك الأقسام الأربعة في هذه الدار، فأثمرت فهم أفكارهم فيها ما أثمرت، ولكن إذا حقّت الحقائق، وبطلت الدنيا، وقامت الآخرة تبيّن الرابح من المغبون، وخسر هنالك المبطلون. وأبناء الآخرة الذين خلقوا لها عمّروا بيوت أفكارهم على تلك الأقسام الأربعة فيها.
ونحن نفصّل ذلك بعون الله وفضله فنقول: كل طالب لشيء فهو مُحبّ له مؤثر لقربه، ساعٍ في طريق تحصيله، متوصّل إليه بجهده، وهذا يُوجِب له تعلّق أفكاره بجمال محبوبه وكماله وصفاته التي يُحَبّ لأجلها وتعلّقها بما يناله به من الخير والفرح والسرور؛ ففكره في حال محبوبه دائر بين الجمال والإجمال والحسن والإحسان، فكلما قويت محبّته ازداد هذا الفكر وقوي وتضاعف حتى يستغرق أجزاء القلب، فلا يبقى فيه فضل لغيره بل يصير بين الناس بقالبه وقلبه كله في حضرة محبوبه، فإن كان هذا المحبوب هو المحبوب الحقّ الذي لا
تنبغي المحبة إلا له، ولا يحبّ غيره إلاّ تبعًا لمحبته فهو أسعد المحبّين به، وقد وضع الحبّ موضعه وتهيأت نفسه لكمالها الذي خلقت له والذي لا كمال لها بدونه بوجه.
وإن كانت تلك المحبة لغيره من المحبوبات الباطلة المتلاشية التي تفنى وتبقى حزازات القلوب بها على حالها، فقد وضع المحبة في غير موضعها، وظلم نفسه أعظم ظلم وأقبحه وتهيّأت بذلك نفسه لغاية شقائها وألمها.
وإذا عُرِف هذا عُرِف أن تعلّق المحبّة بغير الإله الحق هو عين شقاء العبد وخسرانه؛ فأفكاره المتعلقة بها كلها باطلة، وهي مُضِرّة عليه في حياته وبعد موته. والمُحِبّ الذي قد ملك المحبوب أفكارَه قلبُه لا يخرج فكره عن تعلّقه بمحبوبه أو بنفسه. ثم فكره في محبوبه لا يخرج من حالتين: أحدهما: فكرته في جماله وأوصافه. والثانية: فكرته في أفعاله وإحسانه وبرّه ولطفه الدالة على كمال صفاته.
وإن تعلّق فكره بنفسه لم يخرج أيضًا عن حالتين: إما أن يفكر في أوصافه المسخوطة التي يبغضها محبوبه ويمقته عليها ويسقطه من عينه؛ فهو دائمًا يقع بفكره عليها ليتجنبها ويبعد منها.
والثانية: أن يفكّر في الصفات والأخلاق والأفعال التي تقرّبه منه وتحبّبه إليه حتى يتّصف بها؛ فالفكرتان الأولتان تُوجِب له زيادة محبته وقوتها وتضاعفها، والفكرتان الآخرتان توجب محبة محبوبه له وإقباله عليه وقربه منه وعطفه عليه، وإيثاره على غيره؛ فالمحبة التامّة مستلزمة لهذه الأفكار الأربعة.
فالفكرة الأولى والثانية تتعلق بعلم التوحيد، وصفات الإله المعبود سبحانه وأفعاله.
والثالثة والرابعة تتعلق بالطريق الموصلة إليه، وقواطعها وآفاتها، وما يمنع من السير فيها إليه؛ فتفكره في صفات نفسه يميّز له المحبوب لربّه منها من المكروه له، وهذه الفكرة توجب ثلاثة أمور:
أحدها: أن هذا الوصف هل هو مكروه مبغوض لله أم لا. الثاني: هل العبد متّصف به أم لا. والثالث: إذا كان متّصفًا به فما طريق دفعه والعافية منه، وإن لم يكن متّصفًا به فما طريق حفظ الصحة وبقائه على العافية والاحتراز منه.
وكذلك الفكرة في الصفة المحبوبة تستدعي ثلاثة أمور:
أحدها: أن هذه الصفة هل هي محبوبة لله مرضية له أم لا. الثاني: هل العبد متّصف بها أم لا. الثالث: أنه إذا كان متصفًا بها فما طريق حفظها ودوامها، وإن لم يكن متصفًا بها فما طريق اجتلابها والتخلّق بها. ثم فكرته في الأفعال على هذين الوجهين أيضًا سواء، ومجاري هذه الأفكار ومواقعها كثيرة جدًا لا تكاد تنضبط وإنما يحصرها ستّة أجناس: الطاعات الظاهرة والباطنة، والمعاصي الظاهرة والباطنة، والصفات والأخلاق الحميدة، والأخلاق والصفات الذميمة، فهذه مجاري الفكرة في صفات نفسها وأفعالها. وأما الفكرة في صفات المعبود وأفعاله وأحكامه، فتوجب له التمييز بين الإيمان والكفر، والتوحيد والشرك، والإقرار والتعطيل، وتنزيه الربّ عمّا لا يليق به ووصفه بما هو أهله من الجلال والإكرام"(مفتاح دار السعادة:180-185).
الإحالات
1-التفكر والاعتبار؛ لعبدالكريم الحميد.
2- أفلا تتفكرون للشيخ عبدالعزيز بن ناصر الجليل.
3-قف وتأمل - علي بن صالح الجبر البطيّح.
الحكم
قَالَ بعض العارفين: "لَو طالعت قُلُوب الْمُتَّقِينَ بفكرها إلى مَا قدر فِي حجب الْغَيْب من خير الآخرة لم يصف لَهُم فِي الدُّنْيَا عَيْش وَلم تقر لَهُم فِيهَا عين"().