استغفار
2022-10-11 - 1444/03/15التعريف
الاستغفار لغة:
الاستغفار مصدر قولهم: استغفر يستغفر وهو مأخوذ من مادّة (غ ف ر) الّتي تدلّ على السّتر في الغالب الأعمّ فالغفر السّتر، والغفر والغفران بمعنى (واحد)، يقال: غفر اللّه ذنبه غفرا ومغفرة وغفرانا، قال الشّاعر في الغفر:
في ظلّ من عنت الوجوه له *** ملك الملوك ومالك الغفر
وقال ابن منظور:أصل الغفر التّغطية والسّتر. يقال: اللّهمّ اغفر لنا مغفرة وغفرا وغفرانا، وإنّك أنت الغفور الغفّار يا أهل المغفرة. غفر اللّه ذنوبه أي سترها.
واستغفر اللّه من ذنبه ولذنبه بمعنى، فغفر له ذنبه مغفرة وغفرا وغفرانا. وفي الحديث: غفار غفر اللّه لها. قال ابن الأثير: يحتمل أن يكون دعاء لها بالمغفرة أو إخبارا أنّ اللّه تعالى قد غفر لها. واستغفر اللّه ذنبه، على حذف الحرف، طلب منه غفره. أنشد سيبويه:
أستغفر اللّه ذنبا لست محصيه *** ربّ العباد إليه القول والعمل
وتغافرا: دعا كلّ واحد منهما لصاحبه بالمغفرة. وامرأة غفور، بغير هاء [لسان العرب (5/ 25، 26) باختصار] .
وقال الرّاغب:
الغفر: إلباس ما يصونه عن الدّنس ومنه قيل: اغفر ثوبك في الدّعاء واصبغ ثوبك فإنّه أغفر للوسخ، والغفران والمغفرة من اللّه هو أن يصون العبد من أن يمسّه العذاب. والاستغفار طلب ذلك بالمقال والفعال، وقيل: اغفروا هذا الأمر بغفرته، أي استروه بما يجب أن يستر به [المفردات في غريب القرآن للأصفهاني (362) ] .
واصطلاحا:
الاستغفار من طلب الغفران. والغفران: تغطية الذّنب بالعفو عنه. وهو أيضا طلب ذلك بالمقال والفعال [له الأسماء الحسنى للشرباصي (2/ 263)] .
الفرق بين الغفران والعفو: قال الكفويّ: إنّ الغفران يقتضي إسقاط العقاب ونيل الثّواب ولا يستحقّه إلّا المؤمن ولا يستعمل إلّا في (حقّ) البارى تعالى، والعفو يقتضي إسقاط اللّوم والنّدم ولا يقتضي نيل الثّواب، ويستعمل في العبد أيضا.
وقال أبو هلال العسكريّ: لا يقال غفر زيد لك إلّا شاذّا قليلا والشّاهد على شذوذه أنّه لا يتصرّف في صفات العبد كما يتصرّف في صفات اللّه تعالى، ألا ترى أنّه يقال: استغفرت اللّه تعالى ولا يقال: استغفرت زيدا، والمحو أعمّ من العفو والغفران [الكليات للكفوي (666- 667)، والفروق لأبي هلال (195)] .
العناصر
1- تعريف الاستغفار .
2- أمر الله عباده بالاستغفار .
3- أهمية الاستغفار وفضله .
4- دعوة الأنبياء والصالحين أقوامهم للاستغفار .
5- الاستغفار من صفات الأنبياء والصالحين .
6- الاستغفار يكون للنفس وللغير .
7- غفران اللّه عز وجل وقبول الاستغفار مرتبط بالتوبة والعمل الصالح .
8- قبول الاستغفار يكون للمؤمنين والمتقين وللكافر إذا أسلم وحسن إسلامه.
9- صور من استغفار النبي صلى الله عليه وسلم في حياته .
10- الأسباب الموجبة للاستغفار .
11- فوائد الاستغفار وأثره على العبد في الدنيا .
الايات
1- قال الله تعالى: (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [البقرة: 173] .
2- قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [البقرة: 218] .
3- قوله تعالى: (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ) [البقرة: 235] .
4- قوله تعالى: (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة: 268] .
5- قوله تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [آل عمران: 31] .
6- قوله تعالى: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً) [النساء: 110] .
7- قوله تعالى: (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ * إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [المائدة: 33- 34] .
8- قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) [المائدة: 101] .
9- قوله تعالى: (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) [يوسف: 53] .
10- قوله تعالى: (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) [الحجر: 49- 50] .
11- قوله تعالى: (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا) [الكهف 58] .
12- قوله تعالى: (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر: 53] .
13- قوله تعالى: (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) [البروج: 12- 16] .
14- قوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ * هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ * فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) [غافر: 53- 55] .
15- قوله تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [المزمل: 20] .
16- قوله تعالى: (الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ * أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ * وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ * إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [هود: 1- 4] .
الاحاديث
1- عن أبي هريرة- رضي اللّه عنه- عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فيما يحكي عن ربّه عزّ وجلّ قال: «أذنب عبد ذنبا. فقال: اللّهمّ اغفر لي ذنبي. فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبا، فعلم أنّ له ربّا يغفر الذّنب، ويأخذ بالذّنب. ثمّ عاد فأذنب. فقال: أي ربّ، اغفر لي ذنبي. فقال تبارك وتعالى: عبدي أذنب ذنبا. فعلم أنّ له ربّا يغفر الذّنب، ويأخذ بالذّنب. ثمّ عاد فأذنب فقال: أي ربّ، اغفر لي ذنبي. فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبا. فعلم أنّ له ربّا يغفر الذّنب، ويأخذ بالذّنب. اعمل ما شئت فقد غفرت لك». قال عبد الأعلى: لا أدري أقال في الثّالثة أو الرّابعة: «اعمل ما شئت» [حديث قدسي: أخرجه البخاري- الفتح 13 (7507)، ومسلم (2758) واللفظ له] .
2- عن أبي هريرة- رضي اللّه عنه- عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «إذا جاء أحدكم فراشه فلينفضه بصنفة ثوبه ثلاث مرّات وليقل: باسمك ربّي وضعت جنبي، وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فاغفر لها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصّالحين» [البخاري- الفتح 13 (7393) واللفظ له، ومسلم (2714)] .
3- عن عائشة- رضي اللّه عنها- قالت: ألا أحدّثكم عنّي وعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قلنا: بلى قالت: لمّا كانت ليلتي الّتي كان النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فيها عندي. انقلب فوضع رداءه، وخلع نعليه، فوضعهما عند رجليه، وبسط طرف إزاره على فراشه، فاضطجع. فلم يلبث إلّا ريثما ظنّ أن قد رقدت، فأخذ رداءه رويدا، وانتعل رويدا، وفتح الباب فخرج ثمّ أجافه «4» رويدا. فجعلت درعي في رأسي، واختمرت وتقنّعت إزاري. ثمّ انطلقت على إثره. حتّى جاء البقيع فقام، فأطال القيام. ثمّ رفع يديه ثلاث مرّات. ثّم انحرف فانحرفت. فأسرع فأسرعت. فهرول فهرولت. فأحضر فأحضرت. فسبقته فدخلت. فليس إلّا أن اضطجعت فدخل. فقال: «مالك يا عائش؟ حشيا رابية». قالت: لا شيء. قال: «لتخبرنّي أو ليخبرنّي اللّطيف الخبير». قالت: يا رسول اللّه؟ بأبي أنت وأمّي فأخبرته. قال: «فأنت السّواد الّذي رأيت أمامي؟». قلت: نعم. فلهدني في صدري لهدة أوجعتني. ثمّ قال: «أظننت أن يحيف اللّه عليك ورسوله؟». قالت: مهما يكتم النّاس يعلمه اللّه. ثمّ قال: «فإنّ جبريل أتاني حين رأيت. فناداني. فأخفاه منك. فأجبته. فأخفيته منك. ولم يكن يدخل عليك وقد وضعت ثيابك. وظننت أن قد رقدت. فكرهت أن أوقظك. وخشيت أن تستوحشي فقال: إنّ ربّك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم» قالت: قلت: كيف أقول لهم يا رسول اللّه؟ قال: «قولي: السّلام على أهل الدّيار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم اللّه المستقدمين منّا والمستأخرين. وإنّا إن شاء اللّه بكم للاحقون» [مسلم (974) ] .
4- عن جندب- رضي اللّه عنه- أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حدّث: «أنّ رجلا قال: واللّه لا يغفر اللّه لفلان. وإنّ اللّه تعالى قال: من ذا الّذي يتألّى عليّ أن لا أغفر لفلان. فإنّي قد غفرت لفلان. وأحبطت عملك» أو كما قال [مسلم (2621)] .
5- عن أبي هريرة- رضي اللّه عنه- أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «قال رجل لم يعمل حسنة قطّ لأهله: إذا مات فحرّقوه ثمّ اذروا نصفه في البرّ ونصفه في البحر، فواللّه لئن قدر اللّه عليه ليعذّبنّه عذابا لا يعذّبه أحدا من العالمين، فلمّا مات فعلوا ما أمرهم. فأمر اللّه البرّ فجمع ما فيه وأمر البحر فجمع ما فيه. ثمّ قال: لم فعلت هذا؟. قال: من خشيتك يا ربّ وأنت أعلم. فغفر اللّه له» [البخاري- الفتح 13 (7506)، ومسلم (2756)] .
6- عن أبي هريرة- رضي اللّه عنه- عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «إنّ للّه تبارك وتعالى ملائكة سيّارة فضلا يتّبعون مجالس الذّكر. فإذا وجدوا مجلسا فيه ذكر قعدوا معهم، وحفّ بعضهم بعضا بأجنحتهم. حتّى يملأوا ما بينهم وبين السّماء الدّنيا. فإذا تفرّقوا عرجوا وصعدوا إلى السّماء. قال: فيسألهم اللّه- عزّ وجلّ- وهو أعلم بهم- من أين جئتم؟. فيقولون: جئنا من عند عباد لك في الأرض، يسبّحونك، ويكبّرونك، ويهلّلونك ويحمدونك، ويسألونك، قال: وماذا يسألوني؟. قالوا: يسألونك جنّتك. قال: وهل رأوا جنّتي؟. قالوا: لا. أي ربّ، قال: فكيف لو رأوا جنّتي؟. قالوا: ويستجيرونك. قال: وممّ يستجيرونني؟. قالوا: من نارك يا ربّ. قال: وهل رأوا ناري؟. قالوا: لا. قال: فكيف لو رأوا ناري؟. قالوا: ويستغفرونك. قال: فيقول: قد غفرت لهم. فأعطيتهم ما سألوا وأجرتهم ممّا استجاروا. قال: فيقولون: ربّ فيهم فلان عبد خطّاء. إنّما مرّ فجلس معهم. قال: فيقول: وله غفرت. هم القوم لا يشقى بهم جليسهم» [البخاري- الفتح 11 (6408)، مسلم 4 (2689)] .
7- عن عائشة- رضي اللّه عنها- قالت: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «إنّه خلق كلّ إنسان من بني آدم على ستّين وثلاثمائة مفصل. فمن كبّر اللّه، وحمد اللّه، وهلّل اللّه، وسبّح اللّه، واستغفر اللّه، وعزل حجرا عن طريق النّاس، أو شوكة أو عظما عن طريق النّاس، وأمر بمعروف، أو نهى عن منكر، عدد تلك السّتّين والثّلاثمائة السّلامى. فإنّه يمشي يومئذ وقد زحزح نفسه عن النّار». قال أبو توبة: وربّما قال: «يمسي» [مسلم (1007)] .
8- عن حمران مو لى عثمان بن عفّان رضي اللّه عنهما- أنّه رأى عثمان دعا بوضوء فأفرغ على يديه من إنائه، فغسلهما ثلاث مرّات، ثمّ أدخل يمينه في الوضوء، ثمّ تمضمض واستنشق واستنثر، ثمّ غسل وجهه ثلاثا، ويديه إلى المرفقين ثلاثا، ثمّ مسح برأسه، ثمّ غسل كلّ رجل ثلاثا، ثمّ قال: رأيت النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يتوضّأ نحو وضوئي هذا وقال: «من توضّأ نحو وضوئي هذا، ثمّ صلّى ركعتين لا يحدّث فيهما نفسه، غفر اللّه له ما تقدّم من ذنبه» [البخاري- الفتح 1 (164) واللفظ له، مسلم (232) مختصرا] .
9- عن عليّ- رضي اللّه عنه- قال: إنّي كنت رجلا إذا سمعت من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حديثا نفعني اللّه منه بما شاء أن ينفعني، وإذا حدّثني رجل من أصحابه استحلفته، فإذا حلف لي صدّقته، وإنّه حدّثني أبو بكر وصدق أبو بكر. قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: «ما من رجل يذنب ذنبا ثمّ يقوم فيتطهّر، ثمّ يصلّي، ثمّ يستغفر اللّه إلّا غفر له، ثمّ قرأ هذه الآية (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ) [آل عمران: 135] إلى آخر الآية» [الترمذي (3006)، أبو داود (1521) وقال الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 283): صحيح، ابن ماجة (1395)، جامع الأصول (4/ 230) وقال محققه: إسناده حسن، وقد حسنه غير واحد] .
10- عن أبي موسى- رضي اللّه عنه- قال: خسفت الشّمس في زمن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم. فقام فزعا يخشى أن تكون السّاعة. حتّى أتى المسجد. فقام يصلّي بأطول قيام وركوع وسجود، ما رأيته يفعله في صلاة قطّ. ثمّ قال: «إنّ هذه الآيات الّتي يرسل اللّه لا تكون لموت أحد ولا لحياته، ولكنّ اللّه يرسلها يخوّف بها عباده. فإذا رأيتم منها شيئا فافزعوا إلى ذكره ودعائه واستغفاره»، وفي رواية ابن العلاء: درجته في المهديّين واخلفه في عقبه الغابرين. واغفر لنا وله يا ربّ العالمين، وافسح له في قبره. ونوّر له فيه» [مسلم (920)] .
11- عن شدّاد بن أوس- رضي اللّه عنه- عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: «سيّد الاستغفار أن يقول: اللّهمّ أنت ربّي لا إله إلّا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شرّ ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليّ، وأبوء لك بذنبي، اغفر لي، فإنّه لا يغفر الذّنوب إلّا أنت». قال: «ومن قالها من النّهار موقنا بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنّة، ومن قالها من اللّيل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنّة» [البخاري- الفتح 11 (6306)] .
12- عن أنس بن مالك- رضي اللّه عنه- قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: «قال اللّه: يا ابن آدم، إنّك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي. يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السّماء، ثمّ استغفرتني غفرت لك ولا أبالي. يا ابن آدم إنّك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثمّ لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة» [الترمذي (3540). قال محقق جامع الأصول (8/ 40): حسنه الترمذي وهو كما قال، وذكره الحافظ في الفتح وقال: رواه ابن حبان وصححه] .
13- عن أبي هريرة- رضي اللّه عنه- قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللّهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلّا أنت أستغفرك وأتوب إليك. إلّا غفر له ما كان في مجلسه ذلك» [الترمذي (3433) وقال: حديث حسن غريب واللفظ له، وابن حبان (2366) في صحيحه. وقال محقق جامع الأصول (4/ 277): إسناده حسن] .
14- عن أبي هريرة- رضي اللّه عنه- قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «والّذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب اللّه بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون اللّه، فيغفر لهم» [مسلم (2749) ] .
15- عن عبد اللّه بن عمر- رضي اللّه عنهما. عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال: «يا معشر النّساء تصدّقن وأكثرن الاستغفار. فإنّي رأيتكنّ أكثر أهل النّار». قالت امرأة منهنّ، جزلة، وما لنا يا رسول اللّه أكثر أهل النّار. قال «تكثرن اللّعن، وتكفرن العشير. وما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لبّ منكنّ» قالت: يا رسول اللّه! وما نقصان العقل والدّين؟ قال: «أمّا نقصان العقل فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل. فهذا نقصان العقل. وتمكث اللّيالي ما تصلّي، وتفطر في رمضان، فهذا نقصان الدّين» [مسلم (79) واللفظ له، ووردت ألفاظ متقاربة عند البخاري] .
الاثار
1- قال ابن الجوزيّ إنّ إبليس قال: أهلكت بني آدم بالذّنوب وأهلكوني بالاستغفار وب (لا إله إلّا اللّه)، فلمّا رأيت ذلك بثثت فيهم الأهواء، فهم يذنبون ولا يتوبون، لأنّهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعا [مفتاح دار السعادة لابن القيم (1/ 142)] .
2- وعن بعض الأعراب أنّه تعلّق بأستار الكعبة وهو يقول: اللّهمّ إنّ استغفاري مع إصراري لؤم، وإنّ تركي الاستغفار مع علمي بسعة عفوك لعجز، فكم تتحبّب إليّ بالنّعم مع غناك عنّي، وأتبغّض إليك بالمعاصي مع فقري إليك، يا من إذا وعد وفّى، وإذا توعّد تجاوز وعفا، أدخل عظيم جرمي في عظيم عفوك يا أرحم الرّاحمين [الأذكار (482)] .
3- من فوائد (الاستغفار)
(1) الاستغفار يجلب الغيث المدرار للمستغفرين ويجعل لهم جنّات ويجعل لهم أنهارا.
(2) الاستغفار يكون سببا في إنعام اللّه- عزّ وجلّ- على المستغفرين بالرّزق من الأموال والبنين
(3) تسهيل الطّاعات، وكثرة الدّعاء، وتيسير الرّزق.
(4) زوال الوحشة الّتي بين الإنسان وبين اللّه.
(5) المستغفر تصغر الدّنيا في قلبه.
(6) ابتعاد شياطين الإنس والجنّ عنه.
(7) يجد حلاوة الإيمان والطّاعة.
(8) حصول محبّة اللّه له.
(9) الزّيادة في العقل والإيمان.
(10) تيسير الرّزق وذهاب الهمّ والغمّ والحزن.
(11) إقبال اللّه على المستغفر وفرحه بتوبته.
(12) وإذا مات تلقّته الملائكة بالبشرى من ربّه.
(13) إذا كان يوم القيامة كان النّاس في الحرّ والعرق، وهو في ظلّ العرش.
(14) إذا انصرف النّاس من الموقف كان المستغفر من أهل اليمين مع أولياء اللّه المتّقين.
(15) تحقيق طهارة الفرد والمجتمع من الأفعال السّيّئة
(16) دعاء حملة عرش ربّنا الكريم له [نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم لعدد من المختصين بإشراف الشيخ/ صالح بن عبد الله بن حميد إمام وخطيب الحرم المكي (2/302) ] .
4- قال الغزالي: اعلم أنّ الصّغيرة تكبر بأسباب فيها الإصرار والمواظبة: وكذلك قيل: لا صغيرة مع إصرار، ولا كبيرة مع استغفار [إحياء علوم الدين (4/ 34)] . 5- يقول أبو ذر القلموني: فأفضل الاستغفار ما اقترن به تركُ الإصرار، وهو حينئذ توبةٌ نصوح، وإن قال بلسانه: أستغفر اللَّه وهو غيرُ مقلع بقلبه، فهو داعٍ للَّه بالمغفرة، كما يقول: اللهمَّ اغفر لي، وهو حسن وقد يُرجى له الإجابة. وأفضل أنواع الاستغفار: أن يبدأ العبد بالثَّناء على ربِّه، ثم يثني بالاعتراف بذنبه، ثم يسأل اللَّه المغفرة كما في حديث شدَّاد بن أوس عن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: «سيِّدُ الاستغفار أن يقول العبدُ: اللهمَّ أنت ربِّي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذُ بك من شرِّ ما صنعتُ، أبوءُ لك بنعمتك عليَّ، وأبوءُ بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفرُ الذُّنوبَ إلا أنت». خرَّجه البخاري. وفي «الصحيحين» عن عبد اللَّه بن عمرو أنَّ أبا بكر الصديق رضي اللَّه عنه قال: يا رسول اللَّه، علِّمني دعاءً أدعو به في صلاتي، قال: «قل: اللهمَّ إنِّي ظلمتُ نفسي ظُلمًا كثيرًا، ولا يغفرُ الذنوب إلاَّ أنت، فاغفر لي مغفرةً من عندك، وارحمني إنَّك أنت الغفورُ الرحيم». وبالجملة فدواءُ الذنوبِ الاستغفارُ [ففروا إلى الله ص 29] . 6- قال ابن القيم الجوزية رحمه الله تعالى: وقلت لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يوما سئل بعض أهل العلم: أيما أنفع للعبد التسبيح أو الاستغفار؟ فقال: إذا كان الثوب نقيا فالبخور وماء الورد أنفع له وإن كان دنسا فالصابون والماء الحار أنفع له، فقال لي رحمه الله تعالى: فكيف والثياب لا تزال دنسة؟ [الوابل الصيب] .
الاشعار
1- رحم الله من قال:
أستغفرُ اللَّه مِنْ «أستغفرُ اللَّه» *** من لفظةٍ بدرت خالفتُ معناها
وكيفَ أرجو إجاباتِ الدعاء وقد *** سَدَدتُّ بالذَّنب عند اللَّه مجراها
2- رحم الله من قال:
أستغفرُ اللَّهَ مما يعلمُ اللَّهُ *** إن الشَّقيَّ لَمن لا يرحمُ اللَّهُ
ما أحلمَ اللَّهَ عمن لا يراقبه *** كلٌّ مسيءٌ ولكن يحلمُ اللَّهُ
فاسُتغفِر اللَّهَ مما كان من زَلل *** طوبى لمن كفَّ عما يكره اللَّهُ
طوبى لمن حسنت فيه سريرتُه *** طوبى لمن ينتهي عما نهى اللَّهُ
متفرقات
1- يقول الطاهر بن عاشور رحمه الله: والاستغفار: طلب المغفرة أي الستر للذنوب، وهو مجاز في عدم المؤاخذة على الذنب، ولذلك صار يعدي إلى الذنب باللام الدالة على التعليل كما هنا، وقوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [غافر: 55]. ولما كان طلب الصفح عن المؤاخذة بالذنب لا يصدر إلا عن ندامة، ونية إقلاع عن الذنب، وعدم العودة إليه، كان الاستغفار في لسان الشارع بمعنى التوبة، إذ كيف يطلب العفو عن الذنب من هو مستمر عليه، أو عازم على معاودته، ولو طلب ذلك في تلك الحالة لكان أكثر إساءة من الذنب، فلذلك عد الاستغفار هنا رتبة من مراتب التقوى. وليس الاستغفار مجرد قول أستغفر الله باللسان والقائل ملتبس بالذنوب. وعن رابعة العدوية أنها قالت: استغفارنا يحتاج إلى الاستغفار وفي كلامها مبالغة فإن الاستغفار بالقول مأمور به في الدين لأنه وسيلة لتذكير الذنب والحيلة للإقلاع عنه [التحرير والتنوير (3/223) ] .
2- ويقول أيضاً: ومن اللطائف القرآنية أن أمر هنا بالعلم قبل الأمر بالعمل في قوله (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) قال ابن عيينة لما سئل عن فضل العلم: ألم تسمع قوله حين بدأ به (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) وترجم البخاري في كتاب العلم من صحيحه باب العلم قبل القول والعمل لقول الله تعالى (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) فبدأ بالعلم. وما يستغفر منه النبي صلى الله عليه وسلم ليس من السيئات لعصمته منها، وإنما هو استغفار من الغفلات ونحوها، وتسميته بالذنب في الآية إما محاكاة لما كان يكثر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوله اللهم اغفر لي خطيئتي وإنما كان يقوله في مقام التواضع، وإما إطلاق لاسم الذنب على ما يفوت من الازدياد في العبادة مثل أوقات النوم والأكل، وإطلاقه على ما عناه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: « أنه يغان على قلبي وإني أستغفر الله في اليوم مائة مرة» [رواه مسلم] .
3- ... الغفران في الأصل بمعنى الستر و الوقاية، ثم صار بمعنى التسامح و الإغضاء عن الذنوب. و المرجح أنه كان بهذا المعنى قبل البعثة أيضا. و في الأمر تلقين رباني بأن اللّه يعلم أن أكثر الناس لا يمكنهم أن يكونوا في نجوة من الهفوات و الأخطاء، و أنه هو الغفور الرحيم الذي من شيمته التسامح و الإغضاء و شمول عباده بالرحمة الواسعة إذا آمنوا به و اعترفوا بذنوبهم و ندموا عليها و لجأوا إليه يطلبون غفرانه و رحمته. و في هذا ما فيه من حث المذنب على الندم و التوبة و تأميله بالغفران و الرحمة و بعبارة أخرى فيه وسيلة من وسائل التربية الروحية و قصد إصلاح المسلم و صلاحه و هو مما تتوخاه الآيات القرآنية بصورة عامة. و لقد تعددت الآيات التي تأمر المؤمنين بالاستغفار في السور المكية و المدنية [التفسير الحديث (1 / 435) ] .
4- يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وأما ما ذكره الحكيم الترمذي في أصناف الرحمة. فلا ريب أن الرحمة أصناف متنوعة كما ذكره. وليس في الحديث: «رحمة من عندك» وإنما فيه: «فاغفر لي مغفرة من عندك» ولكن مقصوده أن يشبه هذه بقوله: ( وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً ) [8/3] وقد جعل هذه المغفرة من عنده سبحانه مغفرة مخصوصة ليست مما يبذل للعامة، كما أن الرحمة المخصوصة ليست مما يبذل للعامة. وهذا الكلام في بعضه نظر. وهو كغيره من المصنفين في كلامه مردود ومقبول. فليس في قوله - صلى الله عليه وسلم - : «مغفرة من عندك»، ولكن في قول الراسخين في العلم: ( وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً ) [8/3] ونحو ذلك لا يقتضي اختصاص هذا الشخص دون غيره وإلا لما ساغ لغيره أن يدعو بهذا الدعاء وهو خلاف الإجماع أو تفسير اللفظ بما لا يدل عليه. وقد قال زكريا: ( هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ) ولم تكن الذرية مختصة به ولا بالأنبياء؛ بل الله يخرج الأنبياء من الكفار إذا شاء ولكن بمشيئته والله أعلم أنه إذا قال: (من عندك) أو (من لدنك) كان مطلوبا بغير فعل العبد. فإن ما يعطيه الله العبد على وجهين: منه ما يكون بسبب فعله كالرزق الذي يرزقه الله بكسبه والسيئات التي يغفرها الله بالحسنات الماحية، والولد الذي يعطيه الله بالنكاح المعتاد، والعلم الذي يناله بالتعلم. ومنه ما يعطيه للعبد ولا يحوجه إلى السبب الذي ينال به في غالب الأمور كما أعطى زكريا الولد مع أن امرأته كانت عاقرا وقد بلغ هو من الكبر عتيا، فهذا وهبه له الله من لدنه ليس بالأسباب المعتادة وكذلك الذي علمه الخضر من لدنه لم يكن بالتعلم المعهود، وكذلك الرحمة الموهوبة ولهذا قال: ( إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ) .
وقوله: «مغفرة من عندك» لم يقل فيه «من لدنك» بل من عندك. ومن الناس من يفرق بين «لدنك» و«عندك» كما يفرق بين التقديم والتأخير فإن لم يكن بينهما فرق فقد يكون المراد اغفر لي مغفرة من عندك لا أطلبها بأسباب؛ لا أنها من عزائم المغفرة التي يغفر لصاحبها كالحج والجهاد ونحوه؛ بل اغفر لي مغفرة توجبها لي وتجود بها علي بلا عمل يقتضي تلك المغفرة. ومن المعلوم أن الله قد يغفر الذنوب بالتوبة، وقد يغفرها بالحسنات أو بالمصائب وقد يغفرها بمجرد استغفار العبد وسؤاله أن يغفر له فهذه مغفرة من عنده [المستدرك على فتاوى ابن تيمية.جمع: ابن قاسم (1/183، 184) ] .
5- ويقول أيضاً: ... والذنوب سبب للضر والاستغفار يزيل أسبابه كما قال تعالى : (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) فأخبر أنه سبحانه لا يعذب مستغفرا . وفي الحديث: «من أكثر الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا ورزقه من حيث لا يحتسب » وقال تعالى : (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) فقوله : (إني كنت من الظالمين) اعتراف بالذنب وهو استغفار فإن هذا الاعتراف متضمن طلب المغفرة . وقوله : (لا إله إلا أنت) تحقيق لتوحيد الإلهية فإن الخير لا موجب له إلا مشيئة الله فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن والمعوق له من العبد هو ذنوبه وما كان خارجا عن قدرة العبد فهو من الله وإن كانت أفعال العباد بقدر الله تعالى لكن الله جعل فعل المأمور وترك المحظور سببا للنجاة والسعادة فشهادة التوحيد تفتح باب الخير والاستغفار من الذنوب يغلق باب الشر . ولهذا ينبغي للعبد أن لا يعلق رجاءه إلا بالله ولا يخاف من الله أن يظلمه : فإن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون ؛ بل يخاف أن يجزيه بذنوبه وهذا معنى ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال : لا يرجون عبد إلا ربه ولا يخافن إلا ذنبه . وفي الحديث المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه دخل على مريض فقال : كيف تجدك ؟ فقال أرجو الله وأخاف ذنوبي فقال: «ما اجتمعا في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وأمنه مما يخاف» . فالرجاء ينبغي أن يتعلق بالله ولا يتعلق بمخلوق ولا بقوة العبد ولا عمله فإن تعليق الرجاء بغير الله إشراك وإن كان الله قد جعل لها أسبابا فالسبب لا يستقل بنفسه بل لا بد له من معاون ولا بد أن يمنع المعارض المعوق له وهو لا يحصل ويبقى إلا بمشيئة الله تعالى [مجموع الفتاوى (10/255، 256) ] .
الإحالات
1- الأربعون النووية اختيار الحافظ: يحيى بن شرف النووي مع زيادات الحافظ: ابن رجب الحنبلي إعداد: عبد العزيز الداخل (1/130) .
2- موسوعة البحوث والمقالات العلمية جمع وإعداد الباحث في القرآن والسنة حوالي خمسة آلاف وتسعمائة مقال وبحث علي بن نايف الشحود .
3- موسوعة الخطب والدروس جمعها ورتبها الشيخ علي بن نايف الشحود .
4- دروس للشيخ سلمان العودة المؤلف : سلمان بن فهد بن عبد الله العودة مصدر الكتاب : دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية http://www.islamweb.net – حقيقة الاستغفار .
5- نوادر الأصول في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم المؤلف : محمد بن علي بن الحسن بن بشر، أبو عبد الله، الحكيم الترمذي (المتوفى : نحو 320هـ) دار النشر : دار الجيل مكان النشر: بيروت سنة النشر: 1992م تحقيق : عبد الرحمن عميرة (2/205) .
6- في ظلال القرآن المؤلف : سيد قطب (2/235) .
7- الأسماء والصفات المؤلف : البيهقي أحمد بن الحسين أبو بكر 458 هجرية المحقق : عبد الله بن محمد الحاشدي الناشر : مكتبة السوادي – جدة الطبعة : الأولى (1/237) .
8- تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد تأليف:سليمان بن عبد الله آل الشيخ دراسة وتحقيق:زهير الشاويش الناشر:المكتب الاسلامي، بيروت، دمشق الأولى، 1423ه-/2002م (1/396) .
9- أيسر التفاسير المؤلف : أسعد حومد (1/428) .
10- التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي (المتوفى : 1393هـ) الناشر : مؤسسة التاريخ العربي، بيروت – لبنان الطبعة : الأولى، 1420هـ/2000م (3/223) .
11- فتح الباري المؤلف : أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ) المحقق : عبد العزيز بن عبد الله بن باز ومحب الدين الخطيب رقم كتبه وأبوابه وأحاديثه وذكر أطرافها : محمد فؤاد عبد الباقي الناشر : دار الفكر ( مصور عن الطبعة السلفية ) - باب استغفار النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم والليلة .
12- مجموع الفتاوىالمؤلف : أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني المحقق : أنور الباز - عامر الجزار الناشر : دار الوفاء الطبعة : الثالثة ، 1426 هـ / 2005 م .
13- الموسوعة الفقهية الكويتية صادر عن : وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية – الكويت عدد الأجزاء : 45 جزءا الطبعة : ( من 1404 - 1427 هـ) (4/35) .