" تأملات في الحشر "
ابو علي
1434/02/20 - 2013/01/02 05:30AM
خطبة
" تأملات في الحشر "
فضيلة الشيخ : زيد بن مسفر البحري
ــــــــــــــــــــــ
( أما بعد : فيا عباد الله )
" الحشر والحج "
{وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ }البقرة203
ولما ذكرت التقوى في ضمن هذه الآيات المتعلقة بالحج والمتعلقة بالحشر دل هذا دلالة واضحة على أن أعظم ما ينجي العبد من ذلك الحشر المهول هو " تقوى الله عز وجل " ولذا لما ذكر جل وعلا طرفاً من أحكام الحج في سورة المائدة ختم بذكر الحشر ليؤكد ويقرر ذلك ، قال عز وجل
{ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ }المائدة96
" الحشر والاستكبار "
{وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ }آل عمران158
{ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً }النساء172
الكل سيقف أمام الله
{ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ{24} وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ{25}
{ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ{38} فَإِن كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ{39}
{وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً }الكهف47
{ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ }الأنفال24
من لم يكن له القرآن واعظاً فلا واعظ له
وإذا قرأنا هذا القرآن هل نتأمل آياته ؟
{وَأَنذِرْ بِهِ } أي بالقرآن { الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ }الأنعام51
{وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ }الأنعام72
" كل يسأل نفسه "
" الحشر والدواب كلها "
{وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ }التكوير5
{وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم }
{وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ }الأنعام38
سبحان الله !
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ }الروم20
{وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ }المؤمنون79
تقرأ ، وإن قرئت فإن بعضا من الناس لا يتأمل فيها ، سبحان الله ! ذلكم العدد المهول من أول الخليقة إلى آخرها يسير على الله عز وجل
{يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ }ق44
بكلمة ( كن ) تجتمع الخلائق ، هذا هو اليسر ، دليلنا :
{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ }الأنعام73
" الحشر والأصدقاء "
{ احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ{22} مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ{23}
بل صُرِّح بذلك عن الجن
{فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً }مريم68
{وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ }الأنعام128
"ذهبت لذاتها والإثم حل "
{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ }يونس45
حتى تُميَّز أنت أيها الخبيث وبين الطيب ، قف في هذا المكان ، فهذا أوان العقاب ، هذا أوان العذاب .
{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ }
حتى تتميزوا عن المتقين
{وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ }يس59
الخطبة الثانية
( أما بعد : فيا عباد الله )
" الحشر والجوارح "
{ وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى{124} قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً{125} قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى{126}
فالجزاء من جنس العمل
{ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً }الإسراء97
{ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً{102} يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً{103} نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً{104}
قال بعضهم " عشرة أيام "
فقال أعدلهم طريقة في هذا الحكم وإلا فكلهم ظلمة { إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً }
سبحان الله !
{الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً }الفرقان34
{وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ }النمل17
يجمع أولهم مع آخرهم
{وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ }النمل83
" الرؤساء والزعماء في الكفر لهم حشر آخر مميز في السوء "
{ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً }مريم69
{وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ }الأنعام27
{بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ }
وإذا وقفوا أمامها وقالوا هذا القول ، يكونون على حالة " القعود على الرُّكب " علامة الذل في ذلك الموقف أنهم يقعدون على شفير جهنم على الركب
{فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً }مريم68
ملامستنا للجوالات أكثر من مصافحتنا للقريب والحبيب ، أكثر من ملامسة المطعوم والمشروب ، أكثر من ملامستنا لكتاب الله ، بل تيسرت السبل في هذه الجوالات فوجدت فيها المصاحف ، فأين نحن من قراءة كتاب الله ؟!
وأنا لم آت بشيء ، فكل ما ذكرته لكم من كتاب الله عز وجل .
ثم إذا وقفوا وهم قعود على الرُّكب يدفعون في النار حتى يسقطوا فيها
{ يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً{13}
{ يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً{13} هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ{14} أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنتُمْ لَا تُبْصِرُونَ{15} اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاء عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ{16}
" فإذا قذفوا فيها يتقون العذاب بالوجوه "
لأن الوجه هو أشرف الأعضاء ،فإذا أهين الوجه أهين الجسم كله – سبحان الله – يحشرون إلى الله على الوجوه ، ثم يساقون إلى جهنم سوقا على الوجوه ، ثم إذا قذفوا في جهنم يتقون بهذه الوجوه النار التي تصيبهم .
{أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ }الزمر24
هذا الحشر الذي سمعته آنفا ، حشر مهول مهين ، أم حشر طيب رفيق رحيم ، كما قال عز وجل :
{ يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً{85}
وقال بعض المفسرين : لا يمشون على الأقدام ، بل يمشون إلى الله جل وعلا على المركوبات إذا خرجوا من قبورهم .
وسماهم بأنهم " وفد " والوفد الذي يقدم على الكريم يؤمل عنده حسن الظن وعظيم العطاء .
{ يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً{85} وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً{86}
المشاهدات 2698 | التعليقات 3
أبا علي
الشكر لك على حسن الانتقاء
حقيقةً أعجبتي خطبة الشيخ زيد بن مسفر البحري
ليتك توصل شكري وسلامي إليه
وليتك تطالبه بالمزيد من الخطب.
[ لكن : ليتك لم تُنسِّقها بهذه الكيفية الصعبة نوعًا ما]
أخي العزيز:
من فرط إعجابي الشديد بها
أعدتُ كتابتها وصياغتها على النحو التالي :
~ هذه بضاعتكم رُدَّتْ إليكم ~
تأملات في الحشر
أيها الإخوة المسلمون: تعالوا في دقائق محدودةٍ نتأمَّل في آيات الحشر من كتاب الله U. فإنَّ الله تعالى دعانا إلى تذكُّرِ الحشر بهذا القرآنِ الكريمِ، فقال: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}.
يا مؤمن! هذه آياتٌ نقرأُها من كتاب الله، فتعالَ نتأمَّلْها.
إنَّنا سنموت كلُّنا، وسنُحْشر أمامَ الجبار جميعُنا، سواءً مُتَّ يا أخي بحادثٍ أو مرضٍ أو سكتةٍ أو بأي نوع من أنواع الموت، إنَّ يوم الحشر لا مفر منه ولا وزر. قال تعالى: {وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ}.
نحن في عصر القوة والتكنولوجيا، فهل هناك قوة تستطيع منعَ يومِ الحشر؟! هل من حيلة؟! هل من جبروت؟! قال تعالى: {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ* فَإِن كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ} إن كان لكم منعةٌ وتحدٍّ واختراعٌ، فامنعوا وقوع يوم الحشر، ولكنَّكم لا تستطيعون.
أيها الإخوة المسلمون: كل الخلائق محشورةٌ، لا يمكن أن يفلت مخلوقٌّ من نشْرٍ وحشْرٍ. إنسٌ وجِنٌّ وطيرٌ وحيوانٌ، قال تعالى: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ}، وقال سبحانه: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم}، ما نراه من نَمْلٍ ونَحْلٍ، وذبابٍ وغرابٍ، وأسودٍ وقرودٍ، وغيرها، هذه أممٌ أمثالُنا، ولها شؤونها، ولكنَّها ستُحْشر: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}.
يا سبحان الله! لو فكر الإنسان بعقله القاصر: كيف تُحشر كلُّ هاته المخلوقات، من كلِّ مكانٍ، وفي كلِّ زمان. يا لقدرةَ الله Y: {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ* وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}.
الله أكبر! ذلكم العدد المهول من أول الخليقة إلى آخرها حَشْرُها على الله I يسيرٌ! ما أعظمك يا خالق! {يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ}، ما اليسير؟ إنه كلمة "كن"، "فَبِــكُنْ" تجتمع الخليقةُ عن بكرة أبيها، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ، قَوْلُهُ الْحَقُّ، وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ، عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ}.
أيها الإخوة المسلمون: إن الله تعالى يحشر العبادَ على أرضٍ غيرِ هذه الأرض التي عشنا عليها وعرفناها، {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} أرض المحشر لا يبقى فيها شجر ولا حجر ولا جبل ولا معْلَم من معالم الدنيا لِتَسَعَ الخلقَ كلَّهم، قال تعالى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً}،
قال سهل بن سعد t: سمعت رسول الله r يقول:«يُحْشر الناسُ يومَ القيامة على أرضٍ بيضاءَ عفراءَ كقُرْصَةِ النَّقِيِّ قال الرَّاوي: ليس فيها مَعْلمٌ لأحدٍ. رواه البخاري ومسلم.
أرضُ المحشر بيضاءُ عفراءُ كرَغِيفٍ مصنوعٍ من دقيقٍ خالصٍ، ليس عليها علاماتٌ وتقاسيمُ لم يُسْفَكْ عليها دمٌ ولم يُعملْ فيها خطيئة.
وأما العباد فإنهم يُحشرون حفاةً غيرَ منتعلين عراةً غيرَ مكتسين، غُرْلاً غيرَ مختونين، كما خلقك الله أول مرة من بطن أمك: حافياً عارياً أَغْرَل.
قالr: «يا أيُّها النَّاسُ، إنَّكم مَحْشُورون إِلى اللَّهِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا» ثم قرأ قوله تعالى:{كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} متفق عليه.
وعندما سمعت عائشة t رسول الله r يقول: « يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا» قالت: يا رسول الله! الرجال والنساء جميعاً، ينظر بعضهم إلى بعض؟! قال r: «يَا عَائِشَةُ الْأَمْرُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يَنْظُرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ» متفق عليه.
أيها الإخوة المسلمون: كيف يُحشر الكفرة الفجرة؟ وكيف يُحشر التقاة البررة؟
أولا لابدَّ من التمايز بين الفريقين عند المحشر، قال تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ}.
قِفْ مكانَك أيها المشرك الخبيث! تَمَايَزْ عن الطيبين،{وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ}
انفصلوا وابتعدوا عن المتقين, لأنكم صاحبتم الأشرار الفجَّار، فلْتُحشروا معهم: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ* مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} وأزواجَهم: أي أَشْبَاهَهُمْ وقرناءَهم.
الزناة مع الزناة، وأَكَلَةُ الرِّبا مع أَكَلَةِ الرِّبا، والعلمانيون مع العلمانيين، والليبراليون مع الليبراليين، والمرء يُحشر مع من أحبَّ.
إنَّهم يحشرون زُرْقًا في وجوههم وعيونهم حتى تسْوَدَّ وتَعْمى من شدة الخوف والعطش: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً}، وقال I {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً} إنَّهم أذلَّاءُ جاثون على ركبهم على شفير جهنم: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً}.
أمَّا التقاة البررة فحشرهم حَشْرٌ طيِّبٌ كريمٌ رحيم، {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً} وفود الرحمن يقْدُمُون على الرحمن راكبين في كرامة وحسن استقبال، يُؤَمِّلون عند ربِّهم حُسْنَ الرفادة وعظيمَ العطاء، {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً}.
يا عبد الله: هذه إمرارة سريعة لحشر المجرمين وحشر المتَّقين، فأي الحشرين يختار العاقلُ لنفسه؟.
أسأل الله بمنِّه وكرمه أن يحشرنا حشرا كريما رحيما، وأن يجعلنا مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. أقول ما تسمعون ...
الخطبة الثانية
أما بعد : فيا عباد الله بم يُستعان على يوم الحشر؟
إنَّ صلاح القلب أساس النجاة والفلاح، رَبَطَ المولى U بين تحوُّلِ القلب والحشر، فقال: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}، انتبهوا للقلوب المتقلِّبة، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}.
أعظم ما يُنْجِي العبدَ من ذلك الحشر المهول "تقوى القلوب" {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}، فلابدَّ يا مسلم من تحقيق التقوى، وما ينبثق عنها من شعائرَ وأعمالٍ صالحةٍ.
عباد الله: يُستعان على يوم الحشر: بالصلاة والتقوى. عجب عجاب هل هذه الصلاة العظيمة والركن الركين من هذا الدين تكون منجاةً لك في يوم الحشر؟ إي وربِّي، واقرؤوا وتدبروا كلام الله Y: {وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}. هذه الصلاة التي فُرِّط فيها بعض المسلمين والمسلمات بكلِّ أسفٍ شديد، هذه الصلاة تُذْكَرُ في سياق الحشر مع أنها من تقوى الله! نعم، ما ذكرت إلا لخصيصة تميزت به، فأين مقامك من هذه الصلاة يا عبد الله؟
أيها الإخوة المسلمون: ويُستعان على يوم الحشر: بالحج والتقوى. الحجُّ نعم المذكِّرُ بالحشر، جاء ذكر الحشر في آيات الحج. يجتمع الناس في المشاعر في مكان واحد وزمان واحد ولباس واحد ونداء واحد، لا فرقَ بين واحدٍ وواحد، تلك المقامات تذكرنا بالحشر، هذا الحج اجتماع مصغر يذكِّر بالاجتماع المكبر، قال تعالى:{وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}.
يا عباد الله: يَا لخَيْبَةَ من أعرض عن طاعة الله، قال الله: {وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً}، تأمَّلْ هذا الوعيد والتهديد في هذا الاستنكاف والاستكبار عن عبادة الله، إنَّه لن يمنعهم من الحشر والمثول أمام الله الحق المعبود.
حذارِ حذارِ من الإعراضِ عن ذكر الله وعن هجر كتاب الله، وإلا فتأمَّل هذا المشهد في الحشر: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى* قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى* وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى}.
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل. اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمارنا آخرها وخير أعمالنا خواتيمها وخير أيامنا يوم لقائك واجعل القبور بعد فراق الدنيا خير منازلنا.
اللهم ارحم في موقف العرض عليك ذل مقامنا، وثبت على الصراط أقدامنا، ونجنا من كرب يوم القيامة وبيض وجوهنا إذا اسودت وجوه العصاة، يوم الحسرة والندامة برحمتك يا أرحم الراحمين.
ربنا اغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار. ربنا اغفر لآبائنا وأمهاتنا، ولجميعِ من له حقٌّ علينا، وأصلح اللهم زوجاتنا وذرياتنا، ووفِّق أولادنا لما تحبه وترضاه في الدين والدنيا والآخرة.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: إن الله وملائكته يصلون ...
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق