الشيخ محمّد الشّاذلي شلبي
1433/12/07 - 2012/10/23 18:35PM
[font="]من غايات الحج: [/font]

[font="]التعبّد و الاستسلام لله تعالى[/font]



الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى و دين الحقّ ليظهره على الدّين كلّه، و كفى بالله شهيدا. و أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله. اللهمّ فصلّ و سلّم و بارك عليه و على آله و صحبه حقّ قدره و مقداره العظيم.
أمّا بعد، فالخلق عبادُ الله. رضوا أم لم يرضوا. عبدوا الله أم لم يعبدوا فهم عبيد بالقهر يملك زمامهم و نواصيهم و حياتهم و مماتهم، و يملك رزقهم و يحشرون إليه و يحاسبهم بين يديه، فلا مفرّ من الله إلاّ إليه.
و اعلم أيها المخلوق أنّك عبد فإن صحّحت عبوديتك بهذا المعنى فأبشر و اشكر على ذلك: " بَلِ اللهَ فاعبُدْ و كُنْ مِنَ الشَّاكرينَ " ( الزمر 66 ).
و العبد لا رأي له مع سيّده و مولاه بل عليه السمع و الطّاعة، لأنّ مولاه هو أعلم بخيره و سعادته. و من هنا ذكر الحقّ تبارك و تعالى في سورة الفاتحة هذا القصد العظيم " إيّاك نعبد ". الفاتحة 5 .
لا نعبد سواك نقرّ لك بالوحدانية و نطيعك في أمرك و نهيك فنحن عبيدك حرّرتنا من ذلّ عبودية من سواك. فما أشرف هذه العبودية و ما أجملها و ما أنورها و ما أعلاها، إنّها الحقيقة التي لا يفهمها كثير من الناس. " بل الله فاعبد و كن من الشاكرين ".
و قد شرع الله لك ما يجعلك عبدا يشار إليه. هذا عبد الله.. و ليس عبد الهوى.. هذا عبد الله.. و ليس عبد البشر.. هذا عبد الله.. و ليس عبدا للشيطان و النفس.
فأنت تفخر بذلك إذا أشير إليك فهي إشارة رفعة. أمّا إذا كان سوى ذلك فهي إشارة حِطّة. و الله تبارك و تعالى يذكر رسوله صلى الله عليه و سلم بذلك.
" و اذكر عبادنا إبراهيمَ و إسحاقَ و يعقوبَ أُوْلي الأيْدي و الأبصارِ* إنّا أخلصناهم بخالصةٍ ذكرى الدّارِ* و إنّهم عندنا لمن المصطفين الأخيارِ ". ( ص 45/47 ) .
ويقول تعالى :" و اذكر عبدنا داود ذا الأيدِ إنّه أوّاب ". ( ص 17 ).
و قوله عزّ و جلّ " و اذكر عبدنا أيّوبَ إذْ نادى ربّه أنّي مسَّنيَ الشيطان بنُصْبٍ و عذابٍ ". ( ص 41 ) . و يقول تعالى: " ذكرُ رحمتِ ربِّكَ عبده زكريَّا ". ( مريم 2 ) .
فهؤلاء عبيد و هؤلاء عباد و عندما يخاطب الله عباده بهذا المعنى: " نبِئْ عبادي أنِّي أنا الغفوُرُ الرحيمُ * و أنّ عذابي هُو العذابُ الأليمُ." ( الحجر 49/50 ) . فالعبد عليه الطّاعة: " و أطيعوا الله و الرسولَ ". ( آل عمران 132 ).
فإن لم تطع فلست بعبد و إنّما أشركت في الطّاعة من شغل قلبك عن ربّك و سخّرت جوارحك لغيره. إذن اعلم أنّك عبد و أدرك هذا المعنى و لا تتبع الأدعياء و أعوان الشيطان. فهناك واحد من أمرين إمّا أن تكون عبدا خالصا، و إمّا في قلبك شيء. فالعبادة لابدّ و أن تكون خالصة له: " قل إنّي أُمِرْتُ أن أعبُدَ اللهَ مُخْلِصًا له الدينَ ". ( الزمر 11 ) . هذا للنبيّ صلى الله عليه و سلّم و الأمّة: " و ما أُمِروا إلاّ ليعبدوا اللهَ مخلصين له الدينَ ". ( البيّنة 5 ).
هذه هي العبادة.و هذا هو الإخلاص في العبادة. فالرسول يعبد والأمة تعبد فلا شقاق في معنى العبودية. ولا تنافر، الكلّ يعبد في فلك واحد يدور بمعنى التوحيد و الإخلاص لهذا الدين. لا يشذ واحد عن هذا الفلك. وهذا هو الفلك العادي الذي تتطلّع إليه الأبصار.
حركة التوحيد و حركة الإسلام هي عبودية لله وحده، و قد أمرنا بذلك و سلمنا له الأمر مهما كان الأمر. فعندما يؤمر عبد الله و خليله إبراهيم عليه السلام أن يذبح ولده.. فلا اعتراض.. عندما يخبر ولده فلا اعتراض.. تسليم مطلق.. طاعة متناهية.. لأنّ الذي أمر هو الربّ وهم عباده: " فلمّا أسلما و تلّه للجبينِ* و ناديناه أن يا إبراهيم* قد صدّقت الرؤيا، إنّا كذلك نجزي المحسنين ". ( الصافات 103/105 ) .
أسلما : أي أسلما أمرهما لله. و كان التسليم عبودية لله، و كانت العبودية تسليما للأمر مهما كان، و هنا تُفَتَّحَ أبواب الرحمة ما دام هناك تسليم لله وحده و عبودية لله وحده لا شريك له.
و ما دمت عبدا، فعقلك يعبد. عينك تعبد.. سمعك يعبد.. بطنك يعبد.. كلّك عبد فلا تجادل ربّك فيما حكم و لا تعترض. فعقلك خَلْقٌ و خُلِقَ يتحرّك بقدرة الله.. و أودعه الله شريعة الله فكيف يسعد العقل و يعترض.. و كيف يأمن و يخاف من غير الله.. إنّها طامة.
أيها الناس، نحن في موسم الحجّ و المؤمنون يقصدون أن يحجّوا، فالحجّ هو القصد، تقصد مكّة و الحرم لتؤدّي المناسك، لأنّ الحقّ تبارك و تعالى أمر بذلك في قوله: " و أذّن في الناس بالحجّ يأتوك رجالا و على كلّ ضامر يأتين من كلّ فجّ عميق ". ( الحجّ 27 ) . فأنت تحرم.. تتجرّد.. تعبد.. تطوف.. تسعى.. لم هذا ؟ لا دخل لك، الإحرام هو هذا.. فلا تشغل بالك و عقلك، بل سلّم. سلّم تسلم.. لم الطواف و السعي سبعة ؟ هكذا أمر الحقّ. فاسع و أنت عبد مسلم. كذلك برميك الجمرات. لم كان الرمي سبع حصوات ؟
هكذا أمر، فأنت تخرج من مناسك الحجّ فعلا و أنت عبد تتعبّد الله بمناسك الحجّ.. سلّمت فسلمت.. و تعبدك زمنا.. فلا دخل للعقل في الزمن.. الحجّ عرفة.. ففي يوم التاسع من ذي الحجّة تنفر إلى عرفة و تقف هذا الموقف العظيم الذي يشهده الله و ملائكته، و يخبرهم أنّه قد غفر لأهل الموقف: " هؤلاء عبادي قد جاءوا شعثا غبرا. فاشهدوا أنّي قد غفرت لهم "..
أيها المسلمون، هناك تشريع تعلم حكمته و هناك تشريع يعلم الله سرّه و لا يظهره لأحد لأنّه تعبّدك به، فتلقي ذاتك و عقلك و جوارحك في سبيل الله..
فتحريم الخمر له حكمة، و ما حكمة تحريم الذهب على الرجال ؟ لا يدري أحد أنّه التعبّد. و كثير منكم يصلّي الآن و في إصبعه خاتم من ذهب أو خوسة زواج من ذهب وهو يعلم أنّه حرام و يصرّ أن يلبسها إمّا خوفا من زوجته أو استجابة لعادات و تقاليد مجتمعه.. و المؤمن يخاف الله في السرّ و العلن، فكم من لابسي خاتم الزواج و هم فسّاق.. فالخاتم ليس عصمة للمؤمن و إنّما العصمة هي دين الله تبارك و تعالى.
و من عجيب هذا الزمن الذي نعيشه، أن يظهر بين حين و حين من لا يفهم هذا المعنى، لأي قصد من المقاصد و لأي غرض من الأغراض الدنيوية و النفسية.
يأتي إلى أصول الإسلام ثم يتبع شيئا عجيبا و يطلب من الناس أن يفكّروا من جديد. كمسألة الربا التي ظهر الحديث فيها من قريب.. فيطلب أن يأتى بالعلماء المجتهدين ليغيّروا حكم الله الظاهر و القاعدة الأصولية " لا اجتهاد مع النصّ " .
فالله حرّم الربا تحريما قاطعا و السنّة أكّدت ذلك و الإجماع من ورائها.. كيف يؤتى بعلماء جدد حتى تستحدث غير رأي العلماء من قبل علماء السلف.. علماء الدقّة.. علماء الحرص.. علماء الخوف.. أمّا علماء الفتنة فيقولون ما لا يفعلون.. كما رآهم النبيّ صلى الله عليه و سلم في ليلة الإسراء، رأى أقواما تقرض ألسنتهم بمقارض من حديد كلّما قرضت عادت كما كانت. فقال : " من هؤلاء يا أخي يا جبريل ؟ ". قال: هؤلاء علماء الفتنة.. علماء أمّتك.. يقولون ما لا يفعلون.
فبعد قول الحقّ تبارك و تعالى: " و أحلّ اللهُ البيعَ و حرّم الرّبا ". ( البقرة 275 ). هل هناك رأي ؟ و من يقول بعد الله عزّ و جلّ. و في قوله تبارك و تعالى: " يا أيها الذين آمنوا اتّقوا الله و ذروا ما بقي من الرّبا إن كنتم مؤمنين* فإن لم تفعَلُوا فأذنوا بحرب من الله و رسولهِ ". ( البقرة 278/279 ) . و كانت الحرب و نحن فيها ثم يؤتى بكلام لمرضات من ؟ و للتقرّب إلى من ؟ هل هذه عبودية ؟ إنّ القرض واضح في معاملاتنا و فيه الرّبا.
و المصطفى صلى الله عليه و سلم يقول في هذه الجزئية: " كلّ قرض جرّ نفعا فهو حرام ". و في رواية أخرى: فهو ربا " . و تحديد الربح حرام بإجماع الأمّة و بما جاء في النصوص الشريفة. إذن هذه النظم لا ترضي الله تبارك و تعالى وهي حرام قطعا بالكتاب و السنّة و الإجماع.
أقول قولي هذا و استغفر الله العظيم لي و لكم من كل ذنب فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
الثـــانية

الحمد لله الذي جعل البيت مثابة للناس و أمنا، و أفاض عليهم من سحائب جوده مددا و عونا. و كفى به كريما فقد أعطى و أغنى و أقنى.
و أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، شهادة تقيّ من الشرك و النفاق. هادية لمنهج السلام و الوفاق. جعلها الله خاتمة قولنا في الدنيا و يوم تلتفّ الساق بالساق.
و أشهد أنّ سيدنا محمد عبده و رسوله، نبيّ توالت عليه فيوض العناية الإلاهية، فكان رحمته و أمين وحيه للإنسانية. اللهم فصلّ و سلّم و بارك عليه و على آله و صحبه ما نفر لبيت الله حاج، و لا تحرمنا يا ربّنا شفاعته و لا فرحة النظر إلى نور وجهه الوهّاج.
أمّا بعد، فيا أيّها الذين آمنوا، هذا شهر تنطلق فيه وفود الله إلى حرمه الأمين.. هذا شهر تلتهب فيه الأشواق إلى مهبط الوحي، إلى تلك البقاع التي قدّسها الله برسالاته و أكرمها بنبيّه فكانت له مولدا و مربى..
قلنا بأنّ الرفث و الفسوق و الجدال، أمور ثلاثة كانت و لا تزال سبب الإنحراف و إجهاض اللقاءات، و يمكن أن نستخلص الآتي :
1 ) قضية الجنس : تفكير الرجل في الجنس، و تفكير المرأة كذلك، ففي هذا الجمع الحاشد المختلط من الرجال و النساء، التحصين الأول هو أن كل مشارك ملتزم بقطع التفكير في قضايا الجنس و أحاديث الشهوة.. و أن لا يقوم بأي عمل فيه استجابة لداعيها. فهو لا ينظر نظر شهوة، و لا يباشر زوجته و لا غيرها، و لا يغمز بعينيه، و لا ينطق بكلمة فيها تورية أو وعد، و لا يعقد زواجه و لا زواج غيره.. كل مشارك يوطّن نفسه على الخلاص من ضغط الغريزة الجنسية أيام الملتقى العام..
2 ) الإستقامة في السلوك إستقامة تامة، فلا ينتهك ما حرمه الله في الحج أو في غيره. و لا فسوق. و الفسق يكون بالجوارح. فالعين لها فسقها، و كذلك اليد، و الرجل و اللسان، و السمع، و حتى القلب.. فاليقظة على تصرّف الجوارح و الحواس و القلب يقظة كاملة، و الرقابة رقابة حازمة من الفرد نفسه، فالإنسان على نفسه بصيرة..
3 ) المهاترات الكلامية و الجدال و الصخب و محاولة الفرد أن يظهر على غيره بقوّة حجته و وفرة ما أتاه الله من عقل و بيان. فكل جدال محرّم تعلّق بأمر دنيوي أو أمر أخروي.
إنّ من لم يلتزم هذا المنهج هو مرفوض من جماعة الحجّاج،مطرود من هذه الزمرة المباركة التي يباهي ربّ العالمين بها ملائكته.. و من استقام سلوكا و عقيدة، ظاهرا و باطنا، حقّ له أن يسعد بهذه البشارة التي رواها أصحاب الصحيح و اللفظ للبخاري عن أبي هريرة أنّه سمع الرسول صلى الله عليه و سلم يقول: من حجّ لله فلم يرفث و لم يفسق، رجع كيوم ولدته أمّه..
عباد الله، من اشتاق إلى الحج وهو مستطيع فليبادر بالذهاب، و من كان عاجزا فقيرا فلا يكلّف نفسه المشاق و الأتعاب، و من عزم على الرحيل فليستعدّ بما يحتاج إليه من طعام و شراب و مركوب و ثياب، ممتثلا قول الله جل ذكره: " و تزوّدوا فإنّ خير الزاد التقوى و اتقّون يا أولي الألباب ".. و ما ينبغي لعبد يريد الوقوف بذلكم الباب، أن يحتاج إلى أحد من الناس وهو بين يدي ربّ الأرباب، و من وسّع الله عليه رزقه فلا ينبغي له الإعراض و التشاغل عن هذه العبادة التي دعي إليها بآيات الكتاب، و بها يتعارف المسلمون و يتصل بعضهم ببعض ليشهدوا منافع لهم و تتوثّق بينهم روابط الدين و الأداب.. أمّا أنت أيها الفقير فحجّك أن تتوجه إلى الله بالإنابة و تسأله الرزق و المعونة و التوفيق للصواب، و ربّ فقير يريد الحج فلا يستطيع يكتبه الله من الواقفين الفائزين و يعظم له الأجر و الثواب..
فاتقوا الله و صلوا و سلموا على سيد رسله و خاتم أنبيائه، و الشافع المشفّع عند الله يوم نلقاه، المنزل عليه إرشادا و تعليما و تشريفا له و تعظيما: " إنّ الله و ملائكته يصلّون على النبيّ يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه و سلموا تسليما "..
اللهم فصلّ و سلم و بارك على سيدنا محمد شجرة الأصل النورانية، و لمعة القبضة الرحمانية، و أفضل الخليقة الإنسانية، و أشرف الصورة الجسمانية، و معدن الأسرار الربّانية، و خزائن العلوم الإصطفائية،، صاحب البهجة السنية، و الرتبة العلية، و بارك عليه و على آله و صحبه عدد ما خلقت و أمت و أحييت إلى يوم تبعث من أفنيت..
اللهم أعز الإسلام و أتباعه، و أذل الشرك و أصهاره، اللهم أصلح من كان في إصلاحه صلاح للإسلام، و أهلك اللهم من كان في هلاكه صلاح للإسلام و المسلمين.. و اجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين..
اللهم اجمعنا بنبيّك على كوثره و في جنّات النعيم.. اللهم اكتب لنا بركة توصلنا إليه، و تجمعنا عليه، و تقرّبنا إلى حضرته، و تمتّعنا برؤيته.. اللهم اجمعنا معه في أعلى مقام، و ارزقنا يا ربّنا في جواره حسن الختام، نشهدك يا ربّنا أنه قد بلّغ الرسالة، وأدّى الأمانة، و نصح الأمة، و كشف الغمّة، و محى الظلمة.. اللهم كما أمنّا به و لم نره فلا تفرّق بيننا و بينه حتى تدخلنا مدخله برحمتك يا أرحم الراحمين، يا ربّ العرش العظيم، يا مالك الملك، يا حيّ يا قيّوم، يا ذا الجلال و الإكرام، يا من فتحت بالباقيات الصالحات لنا جنّاتك.. يا من أغلقت برحمتك في وجوهنا أبواب نيرانك..


الشيخ محمّد الشاذلي شلبي
الإمام الخطيب
جامع عثمان بن عفّان بالزّهور- تونس
المشاهدات 1455 | التعليقات 0