﴿ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾ 1437/11/2هـ

عبد الله بن علي الطريف
1437/11/02 - 2016/08/05 11:45AM
﴿ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾ 2/11/1437هـ
أيها الإخوة: يقول الله تعالى في محكم التنزيل: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) [الذاريات:21].. نعم إن هذا المخلوق الإنساني عجيبة كبرى في هذه الأرض، ولكنه يغفل عن قيمته، وعن أسراره الكامنة في كيانه، حين يغفل قلبه عن الإيمان وحين يحرم نعمة اليقين..
الإنسان عجيب في تكوينه الجسماني.. عجيب في أسرار هذا الجسد.. عجيب في تكوينه الروحي والنفسي.. وَأَعْجَبُهَا خَلْقُ الْعَقْلِ وَحَرَكَاتِهِ وَاسْتِخْرَاجُ الْمَعَانِي وَخَلْقُ النُّطْقِ وَالْإِلْهَامُ إِلَى اللُّغَةِ.. حقاً إن هذا الإنسان عجيب في ظاهره وعجيب في باطنه.. فيا أيها الإنسان:
وتزعم أنك جرم صغير ... وفيك انطوى العالم الأكبر
أحبتي: حيثما وقف الواحد منا يتأمل عجائب نفسه سيجد أسراراً تُدهشُ وتُـحَيِّر.. أنظر إلى تكوين أعضائه وتوزيعها.. وإلى وظائِفها وطريقة أدائها لهذه الوظائف..
يوجد في هذا المخلوق العجيب عمليات كثيرة مدهشة لو تأملناها.. لهتفنا (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) [المؤمنون:14] فهناك عملية الهضم والامتصاص.. وعملية التنفس والاحتراق.. وعملية التفكير والتذكر.. ثم الدورة الدموية في القلب والعروق.. والجهاز العصبي وتركيبه وإدارته للجسم.. والغدد وإفرازها وعلاقتها بنمو الجسد ونشاطه وانتظامه.. ثم إن كل هذه العمليات تتم في تناسق عجيب بينها وتعاون رهيب، وتجاوبٍ كاملٍ دقيق.. وكل عجيبة من هذه تنطوي تحتها عجائب. وفي كل عضو وفي كل جزء من عضو خارقة تحير الألباب..
تأملوا: أسرار روحه وطاقاتها المعلومة والمجهولة.. تفكروا في إدراكه للمدركات وطريقة إدراكها وحفظها وتذكر هذه المعلومات والصور المختزنة فيها وسرعة استدعائها.. أين؟ وكيف؟ هذه الصور والرؤى والمشاهد وكيف انطبعت؟ وأين؟ وكيف تُستدعى فتجيء خلال أجزاء من الثانية.. كل هذا في الجانب المعلوم من هذه القوى.. فأما المجهول منها فهو أكبر وأكثر.. تظهر آثاره بين الحين والحين في لمسات وإشراقات تدل على ما وراء الظاهر من المغيب المجهول..
نعم معاشر الإخوة: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) [الذاريات:21].. ثم انظروا إلى أسرار هذا الجنس في توالده وتوارثه.. خليةٌ واحدة تحملُ كلَ رصيد الجنس البشري من الخصائص، وتحمل معها خصائص الأبوين والأجداد القريبين.. فأين تكمن هذه الخصائص في تلك الخلية الصغيرة.؟ وكيف تهتدي بذاتها إلى طريقها التاريخي الطويل، فتمثله أدق تمثيل، وتنتهي إلى إعادة هذا الكائن الإنساني العجيب؟! (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) [المؤمنون:14]
أيها الأحبة: إن وقفةً أمام اللحظة التي يبدأ فيها الجنين حياته على الأرض وهو ينفصل عن أمه ويعتمد على نفسه، ويأذن الله لقلبه ورئتيه بالحركة لبدء الحياة بعدما كان تابعاً بها لأمه.. نعم إن وقفةً أمام هذه اللحظة وأمام هذه الحركة لتُدهش العقول وتحير الألباب، وتغمر النفس بفيضٍ من الدهشةِ وفيضٍ من الإيمان، لا يقف له قلبٌ ولا يتماسكُ له وجدان..!
وإن وقفة أخرى أمام اللحظة التي يتحرك فيها لسان الوليد لينطق بهذه الحروف والمقاطع والكلمات ثم بالعبارات.. بل إن الوقوف أمام النطق ذاته أعني نطق هذا اللسان.. وتصويت تلك الحنجرة.. إنها عجيبة.. لكنها مع الأسف عجيبة تفقد وقعها لأنها جزء من كياننا.. وعمل من أعمال جوارحنا نمارسها باستمرار.. لكننا لا نقف أمامها لحظةَ في تدبرٍ يجددُ وقعها.. إنها خارقة.. نعم إنها خارقة مذهلة تنبئ عن القدرة التي لا تكون إلا لله..
وكل جزئية في حياة هذا المخلوق توقفنا أمام خارقة من الخوارق، لا ينقضي منها العجب؛ فسبحان الله القائل: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) [الذاريات:21]..
أيها الإخوة: سأنقلكم من عالم التأمل العام إلى تأمل أكثر دقة مما توصل له الاكتشاف البشري: فمثلاً في رأس كلٍّ منا ثلاثمائة ألف شعرة، لكل شعرة بصلة، ووريد وشريان وعضلة وعصب وغدة دهنية وغدة صبغية.
وفي شبكية العين عشر طبقات، فيها مئة وأربعون مليون مستقبل للضوء، ويخرج من العين للدماغ عصب بصري يحوي خمسمائة ألف ليف عصبي.
وفي الأذن ما يشبه شبكة العين، ففيها ثلاثون ألف خلية سمعية لنقل أدقِّ الأصوات، وفي الدماغ جهاز يقيس التفاضل الزمني لوصول الصوت إلى كلٍّ من الأذنين، وهذا التفاضل يقل عن جزء من ألف وستمائة جزء من الثانية، وهو يكشف للإنسان جهة الصوت.
وعلى سطح اللسان تسعة آلاف نتوءة ذوقية لمعرفة الطعم الحلو والحامض والمرِّ والمالح، وإن كل حرف ينطقه اللسان يسهم في تكوينه سبع عشرة عضلة، فكم حركة تسهم في هذا كله؟
ويضخُّ القلب من الدم في عمر رجل متوسط العمر ما يملأ أكبر ناطحات سحاب في العالم، وفي دماغ الإنسان أربعة عشر مليار خلية قشرية، ومائة مليار خلية استنادية لم تـُعرف وظيفتها بعد، بل إن دماغ الإنسان هو أعقد ما فيه، وهو مع ذلك عاجز عن فهم ذاته.
وفي جدار المعدة مليار خلية تفرز من حمض كلور الماء ما يزيد عن عدة لترات في اليوم الواحد، وقد جهد العلماء في حل هذا اللغز: لم لا تهضم المعدة نفسها.؟ أليست المعدة بحد ذاتها عجيبة من العجائب؟!.
وفي الأمعاء ثلاثة آلاف وستمائة زغابة معوية للامتصاص في كل سنتمتر مربع، وهذه الزُغابات تتجدد كلياً كل ثمانٍ وأربعين ساعة.
وتحت سطح الجلد ستة عشر مليون مكيف لحرارة البدن، وهي الغدد العرقية..
وفي الكبد ثلاثمائة مليار خلية يمكن أن تـُجدَّد كلياً خلال أربعة أشهر، ووظائف الكبد كثيرة وخطيرة ومدهشة حيث لا يستطيع الإنسان أن يعيش بلا كبد أكثر من ثلاث ساعات.
وفي الكليتين مليونا وحدة تصفية طولها مجتمعة مئة كيلو متر، يمر فيها الدم في اليوم الواحد خمس مرات.
هذا جسمنا الذي نحن نعيش به.. كل هذه العجائب أقرب شيء إلينا.. وهي حقائق مسلَّم بها، عرفها الأطباء من عشرات السنين، وليست خاضعة للمناقشة إطلاقاً.. فسبحان الله القائل: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) [الذاريات:21]..
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم...
الثانية:
أيها الأحبة: ومن عجائب هذا المخلوق أن كل فرد من هذا الجنس عالم وحده.. ومرآة ينعكس من خلالها هذا الوجود كله في صورة خاصة لا تتكرر أبداً على مدار الدهور.. ولا نظير له بين أبناء جنسه جميعاً لا في شكله وملامحه.. ولا في عقله ومداركه.. ولا في روحه ومشاعره.. ولا في صورة الكون كما هي في حسه وتصوره..
ففي هذا المتحف الإلهي العجيب الذي يضم ملايين الملايين من الأفراد، كل فرد نموذج خاص، وطَبْعةٌ فريدة لا تتكرر.. يمر من خلالها الوجود كله في صورة لا تتكرر كذلك.. كما لا توجد بصمة أصابع مماثلة لبصمة أصابع أخرى في هذه الأرض في جميع العصور!
وكثير من عجائب الجنس البشري مكشوفة للبصر، تراها العيون: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) [الذاريات:21].. وما تراه العيون من عجائبه يشير إلى المغيب المكنون..
وهذه العجائب لا يحصرها كتاب.. فالمعلوم المكشوف منها يحتاج تفصيله إلى مجلدات.. والمجهول منها ما يزال أكثر من المعلوم، والقرآن لا يحصيها ولا يحصرها.. ولكنه يلمس القلب هذه اللمسة فيقول: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) [الذاريات:21].. ليستيقظ لهذا المتحف الإلهي المعروض للأبصار والبصائر.. وليقضي رحلته على هذا الكوكب في ملاحظة وتدبر، وفي متاع رفيع بتأمل هذا الخلق العجيب، الكامن في ذات نفسه وهو عنه غافل مشغول..
وإنها للحظات ممتعة حقاً تلك التي يقضيها الإنسان يتأمل بها وجوه الخلق وسماتهم وحركاتهم وعاداتهم، بعين العابد السائح الذي يجول في متحف من إبداع أحسن الخالقين.. فكيف بمن يقضي عمره كله في هذا المتاع الرفيع؟
إن القرآن بمثل هذه اللمسة يخلق الإنسان خلقاً جديداً بحس جديد.. ويمتعه بحياة جديدة، ويهبه متاعاً لا نظير له في كل ما يتصوره في الأرض من متاع..
وعلى هذا النحو الرفيع من التأمل والإدراك يريد القرآن الناس.. والإيمان هو الذي يمنح القلب البشري هذا الزاد، وهو الذي يهيئ له هذا المتاع العلوي. وهو بعد في الأرض في عالم الطين!
(اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) [غافر:64] وهو القائل بعدما ذكر مراحل خلق الإنسان في بطن أمه: (ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) [المؤمنون:14]
وصلوا...
المشاهدات 1327 | التعليقات 0