(2) لمحات من سيرة خليل الرحمن عليه السلام

بسم الله الرحمن الرحيم إخوة الإيمان والعقيدة .. ما زال الحديث عن لمحات من سيرة خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام، لقد كان إبراهيم عليه السلام رجلاً أوتي حجة من الله، مؤيداً بالوحي، ينطق لسانه بالحق والحكمة، وهذا ظاهر في مناظرة قومه ]وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ[ فهو من المؤمنين، لم يشرك بالله قط ]فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ[ والقوم موجودون حضور شهود ]رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ[ فكيف أتخذ رباً يغيب عني ]فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ[ كانوا يعبدون الأصنام والأوثان، فأراد بهذه الطريقة الذكية أن يستدرجهم بالكوكب والقمر والشمس إلى إقامة الحجة عليهم، والقوم يشاهدون هذه الظاهرة، ثم أعلن إبراهيم براءته من الشرك وتوحيده لله فقال ]إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ[ خوفوه بالآلهة، خوفوه بالأنداد والأصنام، فردَّ عليهم إبراهيم بعزة إيمانه ]وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ[. أقام عليهم الحجة فأفحمهم وأسكتهم، ولذلك قال الله ]وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ[ فلا يعتقد أحدٌ بأي حال من الأحوال أن إبراهيم كان مشركاً، أو أنه كان لا يعرف ربه، أو أنه كان محتاراً شاكاً، فهذا قول باطل، فإن الله قال عنه ]وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ[ فإبراهيم موحد، وكانت طريقته في الدعوة، للاستدراج وللإقناع والتنزل مع الخصم، ولم يكن ليخاف في الله لومة لائم. ولذلك لما وصلت القضية إلى النمرود قام إبراهيم لله بالحجة، أمام إمام جائر ]أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ[ ملك ظالم حقير ]أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ[ بدلاً من أن يشكر هذه النعمة إذ به يكفر ويشرك، بل يدعي أنه رب ]إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ[ بكل وقاحة وغرور ]أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ[ فيأخذ رجلاً ويقتله وآخر حكم عليه بالقتل فيعفو عنه، وهذا يدل على سخافة الطاغية وغروره وصِغَرِ عقله، فأتى إبراهيم بأمر فيه وضوح، وينتقل إلى أمر لا يمكن فيه أن يرد ]قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ[ دهش وتحير واضطرب وتغير، وأسقط في يده، فماذا عساه أن يقول الآن؟ ]فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ[ هكذا قام إبراهيم لله بالحجة على هذا الطاغية. وجاءت نهاية المطاف عندما انتهز إبراهيم فرصة خروج قومه في عيد لهم إلى خارج البلد على عادة منهم، وتقليد من التقاليد، بعد أن أقام عليهم الحجة ]قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ * قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ * وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ * فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ[ لما خرجوا ادعى إبراهيم المرض ]فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ[ لكي يعقد لهم هذا الخطة التي تبين لهم في النهاية سفه القوم وضلالهم، فلما خرجوا، دخل هو بيت الأصنام وراغ عليهم ضرباً باليمين بفأس في يده راح يكسرها حتى جعلها جذاذاً حطاماً مكسرة كلها إلا كبيراً لهم، ترك الصنم الكبير والفأس معلقة في يد الصنم، كأنه يقول لهم: إنه غار من أن تعبد معه هذه الصغار، ليقول لهم بطريقة غير مباشرة: فكيف بالواحد القهار تعبدون معه هذه الأحجار. فرجع القوم من عيدهم، ويا لهول ما رأوا؛ لأن أعظم شيء عندهم عبادة هذه الأصنام، فكان الهم الوحيد لهم ]قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ[ وبدأ التحقيق والبحث والسؤال، وجمع الأقوال، واتجهت الأنظار إلى إبراهيم الخليل ]قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ[ فكان إبراهيم في وقته فتىً في مقتبل العمر. وهذه دعوة للشباب أن يكونوا دعاة إلى الله بالحكمة والبصيرة، وعلى هدي النبي ﷺ ]قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ[. أقول ما تسمعون ...     الحمد لله رب العالمين ... معاشر المؤمنين .. لم ينتهي الموقف، بعد أن علِمَ القوم أن إبراهيم ذلك الفتى هو الذي كان يذكر آلهتهم بسوء ]قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ[ هذه المحاكمة، وفعلاً بدأت المحاكمة العلنية، وتقاطر الناس من كل مكان، وبدأ التحقيق مع هذا الذي فعل ]قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ[ كان بإمكانه أن يقول من البداية أنا فعلتها، ولا يخشى في الله لومة لائم، لكن عنده أمل أن يقتنع القوم ]قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ[ وهذه تورية، استخدم إبراهيم هذا الأسلوب لإقناع قومه ]قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ[ وهنا كأن القوم قد أسقط في أيديهم ]فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاء يَنطِقُونَ[ لم يحروا جواباً، ولم ينطقوا بكلمة؛ لأن الحجة قوية فعلاً، إذا كان لم يفعله الصنم الكبير وفعله إبراهيم، فلماذا لا يستطيع أن يدافع عن نفسه، كيف نعبد الأصنام التي لا تستطيع أن تدافع عن نفسها! ]ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ[ لقد ألجمتهم الحجة والكلمة البينة القاطعة، وهكذا يجب أن تكون الدعوة، بلسان واضح صريح، وحجة بينة دامغة تسكت المعاند، وتلقمه حجراً. ]قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ[ لكن والمكابرة الذي ابتلي به كثير من الناس رغم وضوح الحق ]قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ[ وانتقموا من أجلها، جمعوا الحطب، وأججوا النيران، وألقوا إبراهيم جزاءً أمام الناس، ولكن الذي خلق النار قادر على أن يسلب منها خاصية الإحراق ]قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ[ فبرداً قلع منها الحر، وسلاماً لا يؤذيه لا حرُّها ولا بردُها ]وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ[. وهكذا ينجي الله أولياءه وعباده الصالحين من الشرور إذا هم توكلوا عليه، وأنابوا إليه، وهذا درس عظيم ينبغي أن يتأمَّل فيه كل إنسان يقوم لله بالحجة، وكل الدواب كانت تنفخ النار عن إبراهيم إلا الوزغ، فلذلك أمرنا بقتله، إن إبراهيم لما ألقي في النار لم يكن في الأرض دابة إلا أطفأت النار عنه غير الوزغ فإنها كانت تنفخ عليه، فلذلك كان فيها أجراً لمن قتلها (من قتل وزغاً من أول ضربة كان له مائة حسنة) وكان لعائشة رمح تقتل به الأوزاغ. قال ابن عباس: كان آخر قول إبراهيم حين ألقي في النار (حسبي الله ونعم الوكيل) حسبي الله يكفيني، ونعم الوكيل، ولذلك نجاه الله من النار. إن في ذلك لعبرة لأولي الألباب ولأولي الأبصار، فاعقلوا واتعظوا يا أيها المسلمون من سيرة هذا النبي الجليل، أحبوه من قلوبكم لما قام لله بالحجة والحق، أحبوه لأنه كان إماماً وقدوة، أحبوه لأنه كان موحداً لا يخاف في الله لومة لائم. اللهم اجعلنا على ملة إبراهيم، وارزقنا اتباع التوحيد والدين القويم، إنك أنت الغفور الرحيم.
المرفقات

1654243173_(2) لمات من سيرة خليل الرحمن.docx

1654243180_(2) لمات من سيرة خليل الرحمن.pdf

المشاهدات 326 | التعليقات 0