يَوْمُ كَمَالِ الدِّينِ
محمد بن خالد الخضير
الخُطْبَةُ الأُولَى
الْحَمْدُ للهِ أَتَمَّ عَلَينَا النِّعْمَةَ وَأَكْمَلَ لَنَا الدِّينَ، نَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ رَبٌّ العالَمِينَ، وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ الْمُصْطَفى الْأَمينُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيه وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وأَتبَاعِهِ بِإحْسَانٍ وَإيمَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ أمَّا بعدُ: اِتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَعَظِّمُوهُ فِي أعْظَمِ أيَّامِهِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْأيَّامَ أعْظَمُ أيَّامِ الدُّنْيا.. تَزَوَّدُوا فِيهَا مِنَ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَجَانِبُوا الْإِثْمَ وَالْهَوَى.
فَضَائِلُ هَذِهِ الْأَيَّامِ كَثِيرَةٌ، وَلِبَعْضِهَا خَصَائِصُ لَيْسَتْ لِغَيْرِهَا كَيَوْمِ عَرَفَةَ، وَيَوْمِ النَّحْرِ. وَهَذَا حَدِيثٌ عَنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَمَا فِيهِ مِنَ الْفَضَائِلِ؛ لِنَعْلَمَ قَدْرَهُ، وَنُعَظِّمَ حُرْمَتَهُ.وَإِذَا ذُكِرَ عَرَفَةُ سَحَّتِ الْعُيُونُ بِالدَّمْعِ عَلَى مَشْهَدِ الْحَجِيجِ وَهُمْ فِي عَرَفَةَ يَجْأَرُونَ لِلهِ تَعَالَى بِصَالِحِ الدَّعَوَاتِ؛ فَرَحًا بِهِمْ، وَغِبْطَةً لَهُمْ، وَشَوْقًا إِلَى المَشَاعِرِ المُقَدَّسَةِ. إِنَّ يَوْمَ عَرَفَةَ هُوَ يَوْمٌ مِنْ أَيَّامِ الْأَشْهُرِ الْمُحَرَّمَةِ، وَهُوَ مِنْ أَيَّامِ الْعَشْرِ المُفَضَّلَةِ، وَهُوَ مِنَ الْأَيَّامِ المَعْلُومَاتِ المَذْكُورَةِ، وَهُوَ يَوْمُ كَمَالِ الدِّينِ، وَتَمَامُ النِّعْمَةِ؛ وَهُوَ رُكْنُ الْحَجِّ الْأَعْظَمِ، وَهُوَ يَوْمُ إِذلال الشَّيْطَانِ وَدَحْرِهِ وصغاره. ففِي الحَدِيثِ الصحيح قال ﷺ: «مَا رُئِيَ الشَّيْطَانُ يَوْمًا، هُوَ فِيهِ أَصْغَرُ وَلَا أَدْحَرُ وَلَا أَحْقَرُ وَلَا أَغْيَظُ مِنْهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ.. وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِمَا رَأَى مِنْ تَنَزُّلِ الرَّحْمَةِ، وَتَجَاوُزِ اللَّهِ عَنِ الذُّنُوبِ الْعِظَامِ، إِلَّا مَا أُرِيَ يَوْمَ بَدْرٍ"وَهُوَ يَوْمُ الْعِتْقِ مِنَ النَّارِ؛لِحَدِيثِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ:«مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟»رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَهُوَ يَوْمُ الدُّعَاءِ،وَيَوْمُ تَرْطِيبِ الْأَلْسُنِ وَالْقُلُوبِ بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ؛قالﷺ:((خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ))رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وحَسَّنَهُ الألباني
إِنَّ هَذَا الْيَوْمَ يَوْمٌ يَدْنُو فِيهِ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَشِيَّةَ يَوْمِ عَرَفَةَ مِنْ أَهْلِ الْمَوْقِفِ، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ... وَتَحْصُلُ مَعَ دُنُوِّهِ مِنْهُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى سَاعَةُ الْإِجَابَةِ الَّتِي لَا يَرُدُّ فِيهَا سَائِلًا يَسْأَلُ خَيْرًا، فَيُقَرَّبُونَ مِنْهُ بِدُعَائِهِ وَالتَّضَرُّعِ إِلَيْهِ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ،. يقولُ ﷺ فِي الحديثِ الصحيحِ: ((وَأَمَّا وُقُوفُكَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ؛ فَإِنَّ اللهَ يَهْبِطُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، فَيُبَاهِي بِكُمُ الْمَلَائِكَةَ، يَقُولُ: عِبَادِي جَاءُونِي شُعْثًا مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، يَرْجُونَ جَنَّتِي؛ فَلَوْ كَانَتْ ذُنُوبُكُمْ كَعَدَدِ الرَّمْلِ، أَوْ كَقَطْرِ الْمَطَرِ، أَوْ كَزَبَدِ الْبَحْرِ لَغَفَرْتُهَا؛ أَفِيضُوا عِبَادِي مَغْفُورًا لَكُمْ، وَلِمَنْ شَفَعْتُمْ لَهُ،)).
عباد الله: ولما كان يومُ عرفةَ هو يومُ المغفرةِ والعتقِ من النار، وكان دعاءهُ هو خيرُ الدعاء كان حريٌّ بالمسلم أن يتفرغَ له من كلِّ مشاغله، وأن يُظْهِرَ لله فَقْرَهومسكنته وأن ينطرحَ بين يدي ربه وأن يتعرضَ لمغفرة اللهِ وعِتقِه ورحمته وأن يُقَدِّمُ بَيْنَ يدي مناجاتِه، تَوْبةً صادقة، وإخلاصًا لله وإخباتًا وثناءًا جميلًا على ربه ويَتَحَبَّبَ إلى مولاهُ بخالصِ الدعاءِ، وصادقِ الرجاء، يرفعُ إلى ربه الكريم حوائجه، ويبثهُ شكواه.
وَإِذَا كَانَ أَهْلُ المَوْسِمِ قَدْ ظَفِرُوا بِالْوُقُوفِ فِي عَرَفَةَ رُكْنِ الْحَجِّ الْأَعْظَمِ، فَإِنَّ لِأَهْلِ الْأَمْصَارِ صَوْمَ ذَلِكَ الْيَوْمِ الْعَظِيمِ، وَصَوْمُهُ يُكَفِّرُ سَنَتَيْنِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ»رَوَاهُ مُسْ
أقولُ مَا سمعتُمْ وَأستَغفِرُ اللهُ لِي وَلكُمْ، فاستَغفِرُوهُ وَتوبُوا إليْهِ، إنَّهُ هوَ الغفورُ الرحيمُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طِيبًا مُبَارَكًا فِيه كَمَا يُحِبُ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ وَحْدَهَ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ محمدًا عَبْدَهُ وَرَسُولُهْ، صَلَّى اللهُ عَلَيه وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا. أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: عِيدُ الْأَضْحَى هُوَ أَكْبَرُ أَعْيَادِ المُسْلِمِينَ وَأَفْضَلُهَا؛ لِأَنَّهُ فِي أَفْضَلِ الْأَيَّامِ وَأَشْرَفِهَا، وَفِيهِ أَكْثَرُ الشَّعَائِرِ وَأَعْظَمُهَا. وَتُشْرَعُ فِيهِ الْأَضَاحِي وَهِيَ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ وَأَجَلِّهَا، وَهِيَ مِنْ سُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَفِي فَجْرِ يومِ عرفهَ يجْتَمِعُ التَّكْبِيرُ الْمُقَيَّدُ مَعَ الْمُطْلَقِ، فَالْمُقَيَّدُ يُشْرَعُ أَدْبَارَ الصَّلَوَاتِ، وَالْمُطْلَقُ يَكُونُ فِي كُلَّ وَقْتٍ، وَآخِرُ تَكْبِيرٍ مُقَيَّدٍ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِ الثَّالِثَ عَشَرَ، وَهُوَ آخِرُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَبِغُرُوبِ شَمْسِهِ يَنْتَهِي وَقْتُ التَّكْبِيرِ الْمُطْلَقِ أَيْضًا، وَيَنْتَهِي وَقْتُ نَحْرِ الْأَضَاحِي وَالْهَدَايَا. فَلْنَحْرِصْ عَلَى التَّكْبِيرِ بِنَوْعَيْهِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَظِيمَةِ.
وَيَحْرُمُ صَوْمُ يَوْمِ الْعِيدِ وَأيَّامِ التَّشْرِيقِ الثَّلاثَةِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ: «أيَّامُ التَّشْرِيقِ أيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرٍ لِلَّهِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
فَلْنُكْثِرْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى فِيمَا تَبَقَّى مِنْ هَذَا الْمَوْسِمِ الْكَرِيمِ، وَلْنَجْعَلْ يَوْمَ الْعِيدِ مَعَ أيَّامِ التَّشْرِيقِ أيَّامِ شُكْرٍ وَذِكْرٍ لِلهِ تَعَالَى عَلَى مَا هَدَانَا وَأَعْطَانَا.
عِبَادَ اللَّهِ، صَلُّوا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الْهَادِي الْبَشيرِ، وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ، اللَّهُمَّ صِلِّ عَلَى محمدٍ وَعَلَى آلِ محمدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبراهيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ،
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين
اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا
اللهم وفق ولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، اللهم وفِّقه ووليَّ العهد لما فيه صلاح البلاد والعباد
اللهم من أرادنا وأراد بلادنا بسوءٍ فرُدَّ كيدَه في نحره، واجعل تدبيرَه دمارًا عليه، اللهم انصُر جنودَنا المُرابِطين على ثُغورِنا، وكلَّ رِجال أمنِنا، اللهم احفَظهم بما يحفَظون من بلادِك المُقدَّسة وعبادِك المُؤمنين، اللهم ثبِّتهم وأعِنهم، وبارِك أعمالَهم وأعمارَهم، وأهلَهم وأموالَهم،
اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف برحمتك مرضانا ومرضى المسلمين
اللهم احفظ الحجاج والمعتمرين، ويسِّر نسكهم، وأتم حجهم، وتقبل منا ومنهم يارب العالمين.
اللهم اغفِر ذنوبَنا، واستُر عيوبَنا، ويسِّر أمورَنا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالَنا، ربَّنا اغفِر لنا ولوالدِينا، وارحَمهم كما ربَّونا صِغارًا، اللهم إنا نسألُك رِضاكَ والجنة، ونعوذُ بك من سخَطِك والنار.
سبحان ربِّك ربِّ العزة عمّا يصفون،وسلام على المرسلين، والحمد لله ربِّ العالمين