يوم عرفة وأيام التشريق

عنان عنان
1437/12/07 - 2016/09/08 19:48PM
بسم الله الرحمن الرحيم
" الخطبة الأولى "

عباد الله: لا نزال نتقلب في هذه الأيام المباركة التي عظم الله شأنها ورفع مكانتها ألا وهي أيامُ عشرِ ذي الحجة تلك الأيام الفاضلة التي أخبر النبي-صلى الله عليه وسلم-أن العملَ الصالحَ فيها أحبُّ إلى الله من العمل في غيرِها
عن ابن عباسٍ-رضي الله عنهما- عن النبي-صلى الله عليه وسلم-أنه قال: ((ما من أيامٍ العملُ الصالح فيها أحبُّ إلى الله من هذه الأيام-يعني أيامَ العشر-قالوا: ولا الجهادُ في سبيل الله؟ قال: ولا الجهادُ في سبيل الله إلا رجلٌ خرج بنفسه وماله ولم يرجِع من ذلك بشيءٍ))[رواه البخاري].
وقد مضى جُلُّ هذه الأيام فمن كان فيها مُحسناً فليزدْ من إحسانه ويسألِ اللهَ القبولَ ومن كان مُقصراً ومفرطاً فليتداركْ ما بقيَ منها.

عباد الله: مما يزيد هذه الأيام جمالاً وثواباً أنَّ فيها يوماً عظيماً مباركاً يومَ مغفرةِ الذنوب يومَ العِتقِ من النيران هو يومُ عرفةَ ركنُ الحجِّ الأعظمِ قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: ((الحجُّ عرفةُ)) [رواه أحمد]
ولو لم يكن في عشرِ ذي الحجةِ إلا يومُ عرفةَ لكفاها لأنه يومٌ أكمل الله في الدين وأتم فيه النعمة
قال تعالى: ((اليومَ أكملتُ لكم دينَكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيتُ لكمُ الإسلامَ ديناً))
عن طارق بن شِهابٍ-رحمه الله-قال: قال رجل لعمر بن الخطاب-رضي الله عنه-: يا أميرَ المؤمنين أية في كتابكم تقرءونها
لو علينا نزلت-معشرَ اليهودِ- لأتخذنا ذلك اليومَ عيداً قال: وأيُّ أيةٍ؟ قال: ((اليومَ أكملتُ لكم دينَكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيتُ لكمُ الإسلامَ ديناً)) فقال عمر: إني لأعلم اليومَ الذي نزلت فيه والمكانَ الذي نزلت فيه نزلت على رسول الله-صلى الله عليه وسلم- بعرفاتٍ في يومِ الجمعة [رواه البخاري ومسلم].
ويوم عرفة يوم عيدٍ قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: ((يومُ عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهلَ الإسلامِ)) [رواه أبو داود].
ويوم عرفة يوم اقسم الله به والله-عز وجل-لا يقسم إلا بعظيم قال تعالى: ((وشاهدٍ ومشهودٍ)) قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: ((اليوم الموعود يومُ القيامة واليومُ المشهودُ يومُ عرفة والشاهدُ يومُ الجمعة)) [رواه الترمذي].
والله-عز وجل- يُباهي ملائكتَه بأهل عرفة ويغفر لهم الخطايا ويستجيب لهم الدعاء
قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: ((ما من يومٍ أكثرَ من أن يُعتِقَ الله في عبداً من النار من يومِ عرفة وإنه ليدنو ثم يُباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟)) [رواه مسلم] وفبي رواية: ((أنظروا إلى عبادي أتوْني شُعثْاً غُبرْاً)) [رواه أحمد].
قال ابن عبد البر-رحمه الله-: وهذا يدل على أنه مغفورٌ لهم لأنه لا يباهي بأهل الخطايا إلا بعد التوبةِ والغُفرانِ.
ويومُ عرفة وقتٌ تُرجى فيه إجابة الدعاء قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: ((خيرُ الدعاء دعاءُ يومِ عرفة وخيرُ ما قلتُ أنا والنبيون من قبلي: لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له له الملكُ وله الحمدُ وهو على كُلِّ شيءٍ قديرٍ)) [رواه الترمذي].
وقد جعل الله عِوضاً لمن لم يقفِ بعرفة ويحجَّ هذا العام أن يصومَ يومَ عرفةَ فهو من الصيامِ المُستحبِ لغيرِ الحاجِّ
قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: ((صيامُ يومِ عرفة أحتسب على الله أن يكفِّر السنةَ التي قبلَه والسنةَ التي بعدَه)) [رواه مسلم].

عباد الله: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: ((أيام التشريق أيامُ أكل وشربٍ وذكرٍ لله)) [رواه مسلم]
وسميت بأيام التشريق: لأنَّ النَّاس يشرقون لحومَ الأضاحي فيها لكي تجفَّ بعد الرطوبة
وقيل: لأنَّ الذبح لا يكون إلا بعد شروقِ الشمس وقيل: لأن كلمة التكبير تدل على التشريق والتكبيرُ حاصلٌ وظاهر ٌكظهور الشمس عند طلوعها.
عباد الله: في أيام التشريق حِكمٌ ومقاصدُ
أولا: أنَّ أيامَ التشريق اجتمع فيها للمؤمنين نعيمُ الأبدانِ ونعيمُ القلوب والأرواح
فنعيم الأبدان: بالأكل والشرب ونعيم الأرواح والقلوب: بذكر الله وبذلك تتم النعم.
ثانياً: أنَّ الأكل والشرب يُستعانُ بهما على ذكر الله وطاعته فمن استعان بنعمة الله على طاعته فقد شكر ومن استعان بنعمة على معصيته فقد كفر بالنعمة قال القائل:
إذا كنت في نعمةٍ فارعها***فإن الذنوبَ تزيلُ النعم
وداومْ عليها بشكر الإله***فإنَّ الإلهَ سريعُ النقم.
ثالثا: أنَّ الأكل من لحوم الأنعام له معنىً دقيقٌ وهو أنَّ بهيمةَ الأنعام مطيعة لله-عز وجل- لا تعصيه فأكلك لهذه البهيمة يذكرك بذكر الله كي لا تكون البهيمةُ أكثرَ ذكراً لله منك.
رابعاً: أن الذكر جاءَ عقبَ الأكل والشرب ففيه تنبيه ألا يستغرقَ المسلمُ العيدَ بالأكل والشرب واللهو وينسى ذكرَ الله وطاعتَه
وفيه عدم الإسراف بالأكلِ والشرب لأنه من اسرف في الأكل والشرب كثيراً لا يستطيع أن يقوم بطاعة اللهِ
قال حكيم: من نام كثيراً لم يجدْ في وقته بركةً ومن أكل كثيراً لم يجدْ في عبادته لذةً
قال تعالى: ((وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين)) قال أحد السلف: هذه الأية جامعة لطبِّ.
فأكثروا من ذكر الله خاصةً في أيامِ التشريق قال معاذ بن جبل-رضي الله عنه-: ما عمل آدم عملاً قطُّ أنجى له من عذاب الله من ذكر الله.
والذكر له أنواع كثيرة: من تكبيرٍ وتسبيحٍ وتحميدٍ وتهليلٍ ودعاءٍ قال عكرمة: كان يستحب أن يقال أيامَ التشريقِ ((ربَّنا ائتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرةِ حسنةً وقنا عذابَ النَّارِ))
فالحسنة في الدنيا: زوجة صالحة وولد صالح ومال حلال وعلم نافع.
والحسنة في الآخرة: كثيرة من أعظمها دخولُ الجنة [أسال الله أن يجعلنا من أهلها].
عباد الله: قال تعالى لنبيه: ((فصلِّ لربِّك وانحر)) لقد جمع الله بين الصلاة والنحر لحكمة عظيمةٍ
قال شيخ الإسلام بن تيمية-رحمه الله-: جمع الله بين الصلاة والنحر لأن الصلاة أجلُّ العبادات البدنية والنحرَ أجلُّ العبادات المالية.
وقال سبحانه: ((ولكلِّ أمةٍ جعلنا منسكاً ليذكروا اسمَ اللهِ على ما رزقهم من بهيمةِ الأنعام))
والمشروع في الأضاحي بهيمةُ الأنعام وهي: الإبل والبقر والغنم ويشترط فيها أن تبلغ السنِّ المعتبرةَ شرعاً وهي: ستةُ أشهر في الضأن وفي المعزِ سنةٌ وفي البقر سنتان وفي الإبل خمسُ سنينَ.
وتشترط فيها السلامةُ من العيوب قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: ((أربعٌ لا تجزئ في الأضاحي: العوراءُ البينُ عورُها والمريضةُ البينُ مرضُها والعرجاءُ البينُ عرجُها والعجفاءُ التي لا تُنقي-وهي التي لا مخَّ لها من شِدّة الهُزال-)) [رواه أحمد].
ويستحب تقسيمُ الأضحيةِ إلى ثلاثةِ أقسام: قسمٌ لأهلِ البيت وقسمٌ للأقارب وقسمٌ للفقراء والمساكين
وكانت أضحيةُ رسول الله-صلى الله عليه وسلم -كذلك.
ووقت ذبحِها بعد صلاةِ العيدِ إلى قبلِ مغيبِ الشمس آخر يوم من أيامِ التشريق وهو اليومُ الثالثَ عشرَ من ذي الحجةِ
قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: ((من ذبح قبل الصلاةِ فليُعِدْ)) [متفق عليه].
فاجتهدوا في إحياء هذه السنة النبوية قال تعالى: ((ذلك ومن يعظم شعائرَ الله فإنها من تقوى القلوب)) وأضحية واحدة تكفي عن الإنسان وأهل بيته الأحياءِ والأموات.

"الخطبة الثانية"

عباد الله: هذا العيد أكبرُ العيدين وأفضلُهما حتى سُمِّيَ العيدَ الأكبر بل سمَّاه النصارى عيدَ اللهُ أكبرُ لكثرةِ ما يسمعون فيه من التكبير فأكثروا من التكبير واحمدوا الله على نعمة الإسلام.
اعلموا أن للعيد آداباً وأحكاماً ينبغي للمسلم أن يراعيَها ويتأدبَ بها
منها المحافظة على صلاة العيد مع الجماعة فقد أمر النبي-صلى الله عليه وسلم- بالخروج إليها وداومَ-صلى الله عليه وسلم-عليها ولم يتركها في عيدٍ من الأعيادِ حتى أنه أمر بخروجِ النساء والعواتقِ وذواتِ الخدور والحيض وأمر الحيض أن يعتزلن الصلاة ويشهدن الخيرَ ودعوةَ المسلمين فينبغي للمسلم أن يحافظ عليها هو وأهل بيته ولا يفرطَ فيها ويشهدَ الصلاةَ والخيرَ ودعوةَ المسلمينَ
ومن آداب العيد: أن يخرج إلى العيد على أحسنِ هيئةٍ مُتطيباً لابساً أحسنَ الثيابِ تأسياً بالنبي-صلى الله عليه وسلم-
أما النساء فيخرجن إلى صلاةِ العيد بغير زينةٍ ولا طيبٍ.
ومن آداب العيد: أن يخرج من طريقٍ ويرجعَ من طريقٍ آخرَ والحكمة من ذلك: لإظهار شعائر الله.
ومن آداب العيد أن يكثر من التكبير في يوم العيد قال الإمام الزهري-رحمه الله-: " كان الناس يكبرون بالعيدِ حينَ يخرجون من منازلِهم حتى يأتوا إلى المصلى وحتى يخرجَ الإمام فإذا خرج الإمام سكتوا فإذا كبَّر كبَّروا ".
ومن آداب العيد الأضحى خاصةً ألا يأكلَ شيئاً حتى يُصليَ العيدَ فقد كان النبي-صلى الله عليه وسلم-لا يخرج إلى الفطر حتى يَطعمَ ولا يطعمُ يومَ الأضحى حتى يصلي والحكمة من ذلك: حتى يأكل من لحم أضحيته.
ومن آداب العيد زيارة الأرحام وزيارة الأقارب والأصدقاء فإن صلةَ الرحم من أجل الأعمال وأفضلها قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: " (( من عاد مريضاً أو زار أخاً له في الله ناداه منادٍ أن طبت وطاب ممشاك وتبؤات من الجنة منزلاً)) [رواه الترمذي].
عباد الله: ينبغي على المسلم أن يبتعد عن المعاصي في أيام العيد وغيرها فإن أيام العيد معظمة فعظموا ما عظم الله
قال أحد السلف: " كل َّيوم لا يُعصى اللهُ فيه فهو عيد ".
قال الشاعر:
يقولون لي عيدٌ سعيدٌ وإنه***ليومُ حسابٍ لو نحُسُّ ونشعُرُ
أعيدٌ سعيدٌ يالها من سعادةٍ***وأوطاننا فيها الشقاءُ يُزمجِرُ
يمرُّ علينا العيدُ مُرَّا مُضرَّجاً***بأكبادِنا والقدس في الأسرِ تصرخُ
عسى أن يعودَ العيدُ بالله عزَّةً***ونصراً ويُمحى عنا العارُ ويُنسَخُ.

المشاهدات 1187 | التعليقات 0