يوم عاشوراء وإنجاء الله لنبيه موسى عليه السلام

عبدالرحمن السحيم
1445/01/09 - 2023/07/27 15:08PM

الحمد لله العلي الكبير، له الأسماء الحسنى والصفات العلى، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، أحمده سبحانه وأشكره على نواله الغزير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الأمر والتدبير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، السراج المنير، صاحب المقام المحمود، والحوض المورود، واللواء المعقود. اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجهم، واقتدى بهديهم إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وأطيعوه، وراقبوه في سركم وعلنكم، واحذروا أسباب سخطه وغضبه، فإن الذنوب والمعاصي سبب لزوال النعم، وحلول النقم، ومحق البركات، وتوالي النكبات، كما بين لنا القرآن الكريم ما حصل على من سلف من الأمم الخاليات. واعلموا أن ما عملتم من خير وشر أو ما كسبتم من إثم وبر فإنكم ملاقوه، وستجزون به يوم الحساب، فانتبهوا عباد الله من غفلتكم، واستيقظوا من رقدتكم، قبل أن لا تقال العثرات، ولا تقبل الاعتذارات، كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتأهبوا للعرض الأكبر على الله، (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ) الحاقة:18.

واعلموا عباد الله أنه في مثل هذا اليوم العاشر من هذا الشهر المبارك شهر الله المحرم أنجى الله موسى وقومه وأهلك فرعون وملأه، وذلك أن موسى عليه السلام خرج ببني إسرائيل من مصر لما اشتد أذى فرعون لهم، وحينما أيس موسى عليه السلام من إيمان فرعون بعد ما جاءه بالبينات الواضحات، والمعجزات الباهرات الدالة على صدقه، ولم يزل فرعون في تمرده وعتوه وعناده، يقول: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى) النازعـات: من الآية24، ويقول: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) القصص: من الآية38،ويقول: (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) الزخرف: من الآية51، فلما اشتد حنقه وبغيه وتكذيبه لموسى أمر الله كليمه موسى عليه السلام بالخروج بقومه، فخرج بهم، (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً ) يونس: من الآية90. لقصد تعذيبهم والتنكيل بهم وإبادتهم (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)الأنفال: من الآية30، فلما كان البحر أمامهم، وفرعون وقومه من خلفهم، واشتد عليهم الكرب، (قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) الشعراء: من الآية61، فأوحى الله إلى نبيه موسى (قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) الشعراء:62، فأوحى الله إلى نبيه موسى (أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) الشعراء: من الآية63، أي كالجبل العظيم (وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخَافُ دَرَكاً وَلا تَخْشَى) طـه: من الآية77. فتماسك البحر بإذن الله، ودخل موسى وقومه، وخرجوا آمنين مطمأنين، سالمين، وفرعون وجنوده في أثرهم، فلما تكاملوا داخلين في البحر أمره الله بالانطباق عليهم فأغرقهم جميعاً في لحظة واحدة (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى) طـه:78-790

فاعتبروا يا أولي الأبصار فلقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) هود:102.

فتذكروا عباد الله كيف كان عاقبة الطغاة الظالمين، وكيف كان منتهاهم ومصيرهم، وهذه سنة الله سبحانه في كل متكبر جبار، وقد قال الله عز وجل في أمثال هؤلاء: (فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) النمل:51-52.

فاتقوا الله عباد الله، وليكن حظكم من هذه الآيات والعبر الاعتبار، والتبصر، والرجوع إلى الله، والخوف من عذابه وسطوته، والمبادرة إلى التوبة والاستغفار، وامتثال الأوامر الإلهية، والاستقامة على الطاعة. واعلموا أنكم في شهر حرام، فضله الله على كثير من شهور العام، وهو شهر الله المحرم، أحد الأشهر الحرم التي حرم الله فيها القتال والظلم، وجعل لها ميزة من بين سائر الأشهر الحرم التي حرم الله فيها القتال والظلم، وجعل لها ميزة من بين الشهور. قال الله عز وجل: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ) التوبة: من الآية36.وقد صحت الأحاديث عنه صلى الله عليه وسلم في الحث على الصيام في هذا الشهر. سيما اليوم العاشر منه، فقد ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فوجد اليهود صياماً يوم عاشوراء، فقال لهم: "ما هذا اليوم الذي تصومونه؟" قالوا: هذا يوم عظيم، أنجى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكراً لله ، فنحن نصومه. فقال صلى الله عليه وسلم: "نحن أحق بموسى منكم" فصامه صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه. وقد أخبر عليه الصلاة والسلام أن صيام يوم عاشوراء يكفر السنة الماضية، وقال صلى الله عليه وسلم: "خالفوا اليهود، صوموا يوماً قبله أو يوماً بعده" ويجوز إفراد عاشوراء بالصوم بدون كراهة.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرائيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ) يونس:91-92.

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية: الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.  أَمَّا بَعدُ، فَاتَّقُوا اللهَ عباد الله حَقَّ التَّقوَى وراقبوه في السر والعلانية؛ وَالْزَمُوا السُّنَّةَ، وَاحْذَرُوا الْبِدْعَةَ؛ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ: غُلُوُّهُمْ فِي دِينِهِمْ، وَاخْتِلَافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).

عباد الله: إنَّ صَوْمَ يوم عَاشُورَاءَ سُنَّةٌ، وَفَضْلُهُ عَظِيمٌ، وَلَكِنْ لَيْسَ مِنَ السُّنَّةِ تَعْظِيمُهُ أَوْ تَخْصِيصُهُ بِشَيْءٍ غَيرِ الصِّيَامِ، كَمَنْ يَجْعَلُهُ يَوْمَ فَرَحٍ، وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ ابْتَدَعَ فِي دِينِ اللهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ وفيه شبه بالمشركين.

فَعَنْ أَبِي مُوسَى -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَ أَهْلُ خَيْبَرَ يَصُومُونَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، يَتَّخِذُونَهُ عِيدًا، وَيُلْبِسُونَ نِسَاءَهُمْ فِيهِ حُلِيَّهُمْ وَشَارَتَهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "فَصُومُوهُ أَنْتُمْ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَكَذَلِكَ فَلا يَجُوزُ جَعْلُهُ يَوْمَ حُزْنٍ كَمَا يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْبِدَعِ الذِينَ يَنُوحُونَ فِيهِ وَيَلْطِمُونَ وَجَوهَهَمْ وَيَضْرِبُونَ رُؤُوسَهُمْ بِالسُّيُوفِ وَأَجْسَادَهُمْ بِالسَّلاسِلِ، حُزْنًا –بِزَعْمِهِم- عَلَى مَقْتَلِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا وَأَرْضَاهُمَا--.

إِنَّ إِقَامةَ الْمَآتِمِ وَإِظْهِارَ النِّيَاحَةِ وَلَطْمَ الْخُدُودِ وَشَقَّ الْجُيُوبِ مِنْ أُمُورِ الْجَاهِلِيِّةِ، بَلْ مِمَّا تَبَرَّأَ رَسُولُ اللِه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ فَاعِلِهَا.

فَعَنَ عَبْدِ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ أَوْ شَقَّ الْجُيُوبَ أَوْ دَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وقد قُتِلَ الْخُلَفَاءُ الثَّلَاثَةُ: عُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ وَالِدُ الْحُسَيْنِ، رَضِيَ اللهُ عَنِ الْجَمِيعِ، وَمَا جُعِلَتِ الْأَيَّامُ الَّتِي تُوَافِقُ أَيَّامَ قَتْلِهِمْ مِنْ كُلِّ عَامٍ أَيَّامَ حُزْنٍ وَجَزَعٍ، وَإِنْشَادٍ لِلْمَرَاثِي.

بَلْ رَضِيَ المُسْلِمُونَ بِقَضَاءِ اللهِ -تَعَالَى- وَقَدَرِهِ، وَحَزِنُوا لِمَقْتَلِهِمْ كَمَا حَزِنُوا لِوَفَاةِ الرَّسُولِ -صلى الله عليه وسلم- أَشَدَّ الْحُزْنِ، وَلَوْ كَانَ أَحَدٌ أَوْلَى بِأَنْ يُخَصَّصَ يَوْمُ وَفَاتِهِ لِرِثَائِهِ وَمَدْحِهِ، لَكَانَ سَيِّدُ الْخَلْقِ وَخَاتَمُ الرُّسُلِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوْلَى النَّاسِ بِذَلِكَ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ مَمْنُوعٌ فِي شَرِيعَةِ اللهِ -تَعَالَى-.؛ لكونه من الابتداع في دين الله، وقد مات أحب الناس للنبي صلى الله عليه وسلم، ولم يتخذ أيام وفاتهم مأتمًا، وقد قَالَ سُبْحَانَهُ: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا)

هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله على النبي المصطفى فإنه من صلى عليَّه صلاةً واحدة صلى الله عليه بها عشراً.  اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بفضلك وجودك يا أكرم الأكرمين..

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وانصر عبادك المؤمنين، واحم حوزة الدين يا رب العالمين وأصلح أحوال المسلمين.

اللهم فرِّج همَّ المهمومين ونفس كرب المكروبين، واقضِ الدين عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين. اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات،

اللهم آمنا في أوطاننا، واصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل عملهم في رضاك.

ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار..

وأخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين

 

 

 

 

 

 

المرفقات

1690459648_عاشوراء.doc

1690459656_عاشوراء.pdf

المشاهدات 952 | التعليقات 0