يوم عاشوراء (قصة موسى مع فرعون)

يوم عاشوراء (3)
إنَّ من فضلِ اللهِ تعالى وحكمتِهِ أن فضَّلَ بعضَ الأزمانِ على بعض ، وَخَصَّها بمزيدِ عِنايةٍ وكرم ، ومن ذلك ما اختصَّ به شهرُ المحرم ، فهو شهرٌ عظيمٌ مبارك ، وهو أولُ شهورِ السنّةِ الهجرية ، وَأَحَدُ الأشهرِ الحُرُمِ التي قال اللهُ فيها : ( إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَـٰبِ ٱللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ ٱلسَّمٰوٰت وَٱلأرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذٰلِكَ ٱلدّينُ ٱلْقَيّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ) [التوبة 36] والأربعةُ الحرمُ بينها النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – في حديثِ أَبِي بَكْرَةَ - رضي الله عنه - ، عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم – أنه قال : (( السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ : ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ )) رواه البخاري في صحيحه . وقولُهُ تعالى : ( فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ) أي في هذه الأشهرِ المحرمةِ لأنها آكدُ وأبلغُ في الإثمِ من غيرها .
عباد الله ، في العاشرِ من هذا الشهرِ المحرمِ يومُ عاشوراء ، يومٌ عظيمٌ من أيامِ اللهِ ، نجَّى اللهُ فيه نبيَه موسى - عليه السلام - من عدوِهِ فرعون ، الذي أَنْكَرَ وجودَ اللهِ وادَّعَى الألوهيةَ والربوبيةَ لنفسِهِ ، فنجى اللهُ في هذا اليومِ موسى وقومَهُ ، وأغرق فرعونَ وجنودَه ، وجعلهم عبرةً لأولي الأبصار . ذَكَرَ اللهُ قصةَ موسى وفرعونَ في أَكثرِ من موضعٍ في القرآنِ الكريم ، في أَحسنِ قَصَصِهِ ، وأروعِ عِبرِهِ ، وأجملِ أسلوبِهِ وبيانه . وتبدأ القصةُ والحدثُ في رؤيا رآها فرعون ، وفسِّرت له بأنَّ هلاكَهُ وذهابَ ملكِهِ ، سيكونُ على يدِ غُلامٍ يولدُ من بني إسرائيل ، فاستشاطَ غضباً ، وأَصَدرَ أوامرَهُ بذبحِ كلِّ مولودٍ ذَكَرٍ من بني إسرائيل ، ويتركُ النساءَ أحياءً ، وفي ذلك يقول ربنُا سبحانه : (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى ٱلأرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مّنْهُمْ يُذَبّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْىِ نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ) [القصص 4].
ولكنَّ اللهَ تعالى يفعلُ ما يشاءُ ويحكمُ ما يريد ، والطغاةُ البغاةُ في كلِّ زمانٍ تَخْدَعُهم قوتُهم وسطوتُهم وحيلتُهم فينسون إرادةَ اللهِ ، وقوةَ الله ، وتدبيرَ الله ، وتقديرَ اللهِ ، ويحسبون أنهم يختارون لأنفسهم ما يحبون ، ويختارون لأعدائهم ما يشاؤون ، ويظنون أنهم على هذا وذاك قادرون (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ )[الأنفال30] . واللهُ يعلنُ إرادتَه ، ويكشفُ عن تقديرِهِ ، ويتحدى فرعونَ وهامانَ وجنودهمَا بأنَّ احتياطَهم وحَذَرَهم لن يُجْدِيَهم شيئَا : ) طسم ، تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ، نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ، إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ، وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ فِى ٱلأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ ٱلْوَارِثِينَ ، وَنُمَكّنَ لَهُمْ فِى ٱلأرْضِ وَنُرِىَ فِرْعَوْنَ وَهَـٰمَـٰنَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ) [القصص1، 6].
ويولدُ موسى - عليه السلام - في هذه الظروف ، والخطرُ مُحدقٌ به ، والموتُ يتلفتُ عليه ، وتحتارُ أمُهُ ، وترجفُ خشيةً أن يعلمَ به فرعونُ وجنودُهُ ، ويوحي إليها ربُها جل في علاه : (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ(7)[القصص] ، لا إله إلا الله ، من يتحدى جبارَ السمواتِ والأرض ، من يتحدى من إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ، من أنت أيها الإنسانُ الضعيفُ المضغة ، قُتل الإنسان ما أكفره ، أَتحسبُ أن أمرك يخفى على الله ، أتحسبُ أن قوى الأرضِ والبشرِ مهما بلغت في العُدةِ والعددِ تغني عنك من الله شيئا ، (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21) [يوسف] ، (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) [ال عمران] ما طَغَى إنسانٌ وتكبرَ وتجبرَ ولم يتبْ إلا أخذه اللهُ عاجلا أم أجلا ، ونعوذ بالله من أخذ الله ، إن أخذه أليمٌ شديد (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ )[هود102] ، «إنَّ الله لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ ، فَإِذَا أخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ» ، أمرَ اللهُ أمَّ موسى أن تقذفَ بولدِها الرضيعِ الذي لا يتكلمُ ولا يدري ما يحاكُ به في التابوتِ مجرداً من كلِّ قوةٍ ومن كلِّ حيلة ، عاجزاً عن أن يَدْفَعَ عن نفسِهِ أو حتى يستنجدَ ، ثم تقذفُ به في اليمِّ فَلْيُلْقِهِ ٱلْيَمُّ بِٱلسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لّى وَعَدُوٌّ لَّهُ وهذا منتهى التحدي . (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ )[الأنفال30] ، (وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ )[فاطر10]، وتبارك الله جلَّ في علاه ، من الذي يعاديه ؟! ومن الذي يحاربه ؟! ومن الذي ينازعه في كبريائه وألوهيته ؟! ومن يُغالبُ اللهَ يُغلبُ (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ )[القصص7] وما أعظمً قدرةَ الله (وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) يقال لأمي موسى ألقيه في اليم ، ولا تخافي ولا تحزني ، إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين ، وشاءَ اللهُ تعالى أن يذهبَ هذا التابوتُ بهذا الطفلِ الضعيفِ داخلَ التابوت ، يحفُهُ اللهُ بعنايته ، ويكلؤُهُ بحفظِه ورعايتِهِ ، حتى بلغَ قصرَ فرعون ، قصرَ العدوِ اللدود ، فالتقطه آلُ فرعون ، ولما فتحوا التابوتَ وجدوا فيه ذلك الغلام َالضعيفَ ، ولسانُ الحالِ يقول : يا فرعونُ ! هذا الغلامُ الذي سيكون ذهابُ ملكِكِ على يده ، ها هو بين يديك ، فإن كان لك كيدٌ فَكُدْ به . (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ(8) [القصص] ، وشاءَ اللهُ جل وعلا وألقى في قلبِ آسيةَ زوجِ فرعونَ فيضًا من الرحمةِ والرأفةِ والحنانِ على هذا الطفلِ الرضيع ، (وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) [القصص9]، وكانت آسيا عاقرًا لا تلد ، فاتخذوه ولداً ، قال تعالى : (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي :كدناهم هذا الكيدَ وجعلناهم يلتقطونه ليكون لهم عدوًا وحزنا وهم لا يشعرون . وقد أنالَ اللهُ زوجَ فرعون ما رجت منه من النفع والخير , فهداها الله بسببه ، وجعلها من أهل جواره وجنته (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) [التحريم] ، اتخذ آلُ فرعون هذا الطفلَ المحفوفَ بعنايةِ اللهِ ولدا ولكنَّه يفاجئهم بأنه لا يقبلُ ثدي امرأةٍ ليرضع ، (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ ) وهذا ما أراده الله ، هو خالقُهُ ، هو مدبرُهُ ، هو يحيه ويميته ، فحاروا في أمره ، واجتهدوا في تغذيته بكلِّ ما أمكن ، وهو لا يزيدُهم إلا عنتًا وحيرةً ورفضًا واستعصاءً ، وبينما هم كذلك إذا بأُختِهِ تُقبلُ عليهم ، وكانت أمُها قد أَمرتها بأن تُتابعَ أخاها وهو في التابوت ، وأن تقفو أثرَه ، لتعلمَ مستقرَّهُ وتستطلعَ خبرَه ، (وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ، وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ)[القصص11، 12]، قالت أخته : هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ ، ففرحوا بذلك فرحًا شديدًا ، وذهبوا معها إلى منزلهم ، فلما رأته أمُهُ ما كادت تُصدقُ عينيها ، فأخذته وضمته إلى صدرها وألقمته ثديها ، فأخذ يرضعُ بنَهَمٍ شديد ، وهم في غايةِ الدهشةِ والسرور . وهكذا يأبى اللهُ عز وجل إلا أن يَحملَ آلُ فرعونَ هذا الوليدَ إلى أمهِ التي خافت عليه منهم ، لأنهم هم الذين أصدروا حكمَ القتلِ على كلِّ طفلٍ يولد ، ثم يعطوه إياها ويعطونها أجرةً على إرضاعِها له ، ويتعهدوا وليدَها بالتربيةِ والرعاية ، قال الله تعالى : (فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) [القصص13]. هذا وعدُ اللهِ ولا يخلفُ اللهُ الميعاد وما زالتِ الأيامُ تمضي والأعوامُ تترى ، وكَبِرَ موسى وبلغ أشدَّه ، وآتاه الله حكمًا وعلمًا، فصار يأمر وينهى ، فلا غرو فهو ابنُ فرعونَ بالتبني ، وهو ربيبُه وواحدٌ من أهل بيته ، قال الله تعالى : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) [القصص:14]. فأُوحي إلى موسى ، وأُرسل إلى فرعونَ وقومِهِ ، فكذبوه وادعى فرعونً الأولوهيةَ الربوبية وقال : (مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي ) [القصص 38] ، ( فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى )[ النازعات24] ، وحصلت قصةُ السحرة ، وتبين لهم الحق ، فخروا لله سجدا إيمانا وإذعانا للحق لما رأوه ، وتأتي النهايةُ العظمى لهذا القصةِ العظيمةِ والعبرةِ البليغة ، و المعركةِ الفاصلةِ بين الكفرِ والإيمانِ ، فكانت النهايةُ والغلبةُ فيها لدينِهِ وشرعِهِ وأهلِ طاعتِهِ وولايتِهِ ، وقد سَلَكَ فيها عدوُ اللهِ فرعونُ كلَّ وسيلةٍ من السحرِ والقَمعِ والقَتلِ للقضاءِ على موسى ومن معه ( وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ ، فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ، إِنَّ هَؤُلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ ، وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ ، وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ ) ، أَمَرَ اللَّه مُوسَى بِالْخُرُوجِ بِقَوْمِهِ فَخَرَجَ بِهِمْ لَيْلًا ، فَلَمَّا أَصْبَحَ فِرْعَوْنُ وَرَأَى أَنَّهُمْ قَدْ مَضَوْا ، أَرْسَلَ فِي المَدَائِن حَاشِرِينَ ، فَتَبِعَهُ بِجُنُودٍ عَظِيمَةٍ كَثِيرَة ، يريدُ القضاءَ عليهم والانتقامَ منهم ، فأدركهم ورآهم ، وهم رأوه ، (فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) ، هذا هو التصورُ البشريُّ للأمر ، البحرُ أمامهم ، والعدو الجبارُ الظالمُ الحاقدُ الذي يريدُ البطشَ بهم والقضاءَ عليهم من خلفهم ، فأين المفرُ والمهرب ؟! لكن من الذي أخرجَ موسى ومن معه ليلاً ؟ ومن الذي أمرهم بذلك ؟ أتظنون أن اللهَ العليمُ الخبير ، الحكيمُ الرحيم ، الجبارُ المؤمنُ المهيمنُ ينسى عبادَه ، ينسى أهلَ طاعتِهِ ، (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ)[الزمر36] ، (أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انتِقَامٍ )[الزمر37] ، (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ )[التين8] ، ( أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ )[الأنعام53] ، لذا قَالَ موسى – عليه السلام – (كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ) وفي هذا الموقفِ العصيبِ لموسى ولمن معه يُوحي اللهُ لموسى ، ( فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ ) هذه العصا التي كان موسى يهشُ بها على غنمِهِ ، (قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى ) [طه18] ، هذه العصا التي ضرب فيها موسى الحجرَ لما استسقى لقومه ، هذه العصا التي تحولت بأمر الله حيةً تسعى ، وفي هذا الموقف يأمر الله موسى – عليه السلام – أنِ اضرب بعصاك البحر ، هذه العصا التي لا تساوي شيئًا أمام عظمةِ هذا البحرِ المخلوقِ العظيمِ ، والهائلِ العميق ، إنه أمرُ اللهِ حيث جعلَ لكلِّ شيء سببا ، فيضربُ موسى البحرَ كما أمره الله تعالى بعصاه ثقةً بالله وتنفيذا لأمره فيوقفُ الله جريان البحر ، (فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ) [الشعراء] ويجعلُهُ الله طَرِيقاً يَبَساً لَّا يخَافُ موسى دَرَكاً وَلَا يخْشَى ، أوقف الله البحر من الجريان نصرةً لعبادِهِ ( ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ )[يونس103] ، أراد موسى بعد أن نجاه الله أن يضربَ البحر ليعودَ كما كان ليحول بينه وبين فرعون ، فأوحى إليه ربه (وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ) [الدخان24] (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ(92)[ يونس] ، ما أهونَ الخلقِ على الله إذا هم عصوا أمره ، وابتعدوا عن دينه ومنهجه ، وهكذا نجّى الله موسى ومن آمن معه ، وأغرق فرعونَ وجنودِهِ : (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ ٱلْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِى إِسْرءيلَ بِمَا صَبَرُواْ) [الأعراف:137]، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ) [الشعراء8 ، 9].
بارك الله لي ولكم .....




عباد الله : هذا يومٌ عظيمٌ من أيام الله تعالى في هذا الشهرِ المحرمِ ، عَنْ عبد الله بنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا – قَالَ : قَدِمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الْمَدِينَةَ ، فَرَأَى الْيَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَقَالَ : " مَا هَذَا؟ قَالُوا : هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ ، هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ ، فَصَامَهُ مُوسَى ، قَالَ : فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ ، ونحن نصومه تعظيماً له، فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ " . رواه البخاري ومسلم . وكان هذا الأمر قبل أن يفرض رمضان .
وعن عبدالله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ ، قال : حِينَ صَامَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ ، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : " فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ " . قَالَ فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ " . رواه مسلم .
ومما ورد في فضلِ صيامِ هذا اليوم ما جاء عن أبي قتادةَ - رضي الله عنه - أن رجلاً سأل النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن صيام يومِ عاشورا ، فقال : (( أحتسبُ على اللهِ أن يكفرَ السنةَ التي قبله )) رواه مسلم ، وهذا من فضلِ الله علينا أن أعطانا بصيامِ يوم واحد تكفيرَ ذنوبِ سنةٍ كاملة ، والله ذو الفضل العظيم .
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : (( مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَتَحَرَّى صِيَامَ يَوْمٍ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ إِلّا هَذَا الْيَوْمَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَهَذَا الشَّهْرَ يَعْنِي شَهْرَ رَمَضَانَ )) رواه البخاري ، ومعنى ((يتحرى)) أي يقصدُ صومَه لتحصيلِ ثوابِه والرغبةِ فيه .
عباد الله : صيام يوم عاشوراء على مراتبتين : الأولى : أن يُصامَ اليومَ التاسع مع العاشر . والثانية : أن يُصامَ اليوم العاشر وحده ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ :"صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ كَفَّارَةُ سَنَةٍ وَلا يُكْرَهُ إفْرَادُهُ بِالصَّوْمِ " . أما حديث صوموا يوما قبله أو يوما بعده ، فلا يصح ولا يثبت ، وهذا ترغيب للناس في صيام هذا اليوم العظيم ، وفضلٌ من الله على عباده .
فهذا يوم عظيم نتقرب فيه لله بالعبادة والشكر والفرح لما حصل للمسلمين فيه من النصر والنجاة وإعلان العبودية لله وحده لا شريك له ، هذا دين محمد – صلى الله عليه وسلم – وآله وأصحابه . بخلاف طَائِفَةٍ رافضةٍ جَاهِلَةٍ ظَالِمَةٍ مُلْحِدَةٍ ، تُظْهِرُ مُوَالاةَ أَهْلِ بَيْتِهِ ، وهم كذبةٌ ، تَتَّخِذُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ يَوْمَ مَأْتَمٍ وَحُزْنٍ وَنِيَاحَةٍ ، وَتُظْهِرُ فِيهِ شِعَارَ الجَاهِلِيَّةِ مِنْ لَطْمِ الخُدُودِ ، وَشَقِّ الْجُيُوبِ ، وَالتَّعَزِّي بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ . وَإِنْشَادِ قَصَائِدِ الْحُزْنِ ، وَرِوَايَةِ الأَخْبَارِ الَّتِي فِيهَا كَذِبٌ وافتراء ، وَإِثَارَةِ الشَّحْنَاءِ وَالحَرْبِ ، وَإِلقَاءِ الْفِتَنِ بَيْنَ أَهْلِ الإسلام ، وَالتَّوَسُّلُ بِذَلِكَ إلَى سَبِّ السَّابِقِينَ الأَوَّلِينَ من الصحابة الأبرار ومن سار على نهجهم . وَشَرُّ هَؤُلاءِ وَضَرَرُهُمْ عَلَى أَهْلِ الإسلام لا يُحْصِيهِ الرَّجُلُ الْفَصِيحُ فِي الْكَلامِ . نسأل الله أن يكفي المسلمين شرهم وفتنتهم .
فعليكم باتباع السنة ومنهجِ سلف الأمة ، والحذرِ من الابتاع والبدعة من إحداثِ أمر لم يأذن بالله في دينه وشرعه .

المشاهدات 1658 | التعليقات 0