يوم الوشــــــــــــاح ( دروس وعبر )

محمد بن سليمان المهوس
1441/07/02 - 2020/02/26 11:34AM

الخُطْبَةُ الأُولَى

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيِكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَو مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1] ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [ الأحزاب: 70 – 71 ].

أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ، وَكُلَّ ضَلاَلَةٍ فِي النَّارِ.

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: قَدْ يَعِيشُ الْمَرْءُ دَهْرَهُ بَيْنَ النَّاسِ وَلاَ يُعْرَفُ! فَيُقَيِّضُ اللهُ لَهُ مِحْنَةً تَكُونُ مِنْحَةً مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَسَعَادَةً لَهُ فِي الدَّارَيْنِ فَيَشْتَهِرُ اسْمُهُ، وَيَعْلُو رَسْمُهُ، وَيَذِيعُ صِيتُهُ؛ بَلْ يَتَمَنَّى كُلُّ وَاحِدٍ أَنْ يَكُونَ هُوَ! لِمَا حَصَلَ لَهُ مِنَ الْمِنَحِ وَالْعَطَايَا الَّتِي لاَ تَخْطُرُ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، وَمِنْ ذَلِكَ قِصَّةُ صَاحِبَةِ الْوِشَاحِ، وَالَّتِي كَانَتْ تُرَدِّدُ هَذَا الْبَيْتَ مِنَ الشِّعْرِ عِنْدَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- فَتَقُولُ:

وَيَوْمُ الْوِشَاحِ مِنْ تَعَاجِيبِ رَبِّنَا *** أَلاَ إِنَّهُ مِنْ بَلْدَةِ الْكُفْرِ أَنْجَانِي

قَالَتْ لَهَا أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -: وَمَا يَوْمُ الْوِشَاحِ؟

فَقَصَّتْ عَلَيْهَا قِصَّةَ الْوِشَاحِ، وَالَّتِي نُورِدُهَا فِي خُطْبَتِنَا هَذِهِ؛ لِمَا فِيهَا مِنَ الدُّرُوسِ وَالْعِبَرِ، فَنَقُولُ: امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ مَوْلُودَةٌ عِنْدَ حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ فِي مَكَّةَ، تَسْكُنُ مَعَهُمْ، وَتَأْكُلُ مِنْ طَعَامِهِمْ، وَتَخْدُمُهُمْ بَعْدَ مَا أَعْتَقُوهَا، فَخُطِبَتِ ابْنَتَهُمُ الصَّغِيرَةَ، فَوَضَعُوا لِهَذِهِ الْبِنْتِ وِشَاحًا أَحْمَرَ مُرَصَّعًا بِاللُّؤْلُؤِ كَنَوْعٍ مِنَ الزِّينَةِ، فَوَضَعَتِ الْبِنْتُ وِشَاحَهَا، فَجَاءَتِ الْحِدَأَةُ فَأَخَذْتُه تَظُنُّهُ قِطْعَةَ لَحْمٍ، فَبَحَثَتِ الْبِنْتُ عَنْ وِشَاحِهَا فَلَمْ تَجِدْهُ! فَاتَّهَمُوا بِسَرِقَتِهِ خَادِمَتَهُمُ السَّوْدَاءَ! فَفَتَّشُوهَا، وَأَنْزَلُوا مَلاَبِسَهَا، وَعَرَّوْهَا تَمَامًا، حَتَّى إِنَّهَا مِنَ الْحَيَاءِ جَثَتْ عَلَى رُكْبَتَيْهَا لِكَيْ لاَ يَتَبَيَّنَ شَيْءٌ مِنْ عَوْرَتِهَا، ثُمَّ بَكَتْ! فَدَعَتْ رَبَّهَا، وَلَمْ تَلْجَأْ لِدُعَاءِ الأَصْنَامِ، وَهِيَ عَلَى غَيْرِ الإِسْلاَمِ، فَأَقَبَلَتِ الْحِدَأَةُ وَالْوِشَاحُ مَعَهَا، فَرَمَتِ الْوِشَاحَ فَسَقَطَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ؛ فَطَأْطَئُوا رُؤُوسَهُمْ جَمِيعًا نَدَمًا لِمَا صَنَعُوا بِهَذِهِ الْمِسْكِينَةِ؛ فَقَالَتِ السَّوْدَاءُ: بَيْنِي وَبَيْنَكَ الْمُفَارَقَةُ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْحَادِثَةُ سَبَبًا لِتَرْكِهِمْ لَهَا، وَنَجَاتِهَا مِنْ قَهْرِهِمْ وَتَسَلُّطِهِمْ، فَكَانَ مَآلُ هَذِهِ الْحَادِثَةِ الْخَيْرَ الْعَظِيمَ، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾؛ حَيْثُ خَرَجَتْ مِنْ عِنْدِهِمْ تَبْحَثُ عَنْ مَكَانٍ تَأْوِي إِلَيْهِ، فَهَدَاهَا اللهُ إِلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ؛ لِتَلْقَى خَيْرَ الْبَشَرِيَّةِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِتُسْلِمَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَأَسْلَمَتْ ، وَاتَّخَذَتْ مَكَانًا لَهَا فِي آخِرِ الْمَسْجِدِ، فَكَانَتْ تَخْرُجُ بَعْدَ كُلِّ صَلاَةِ فَجْرٍ تَقُمُّ مَسْجِدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَتَجْمَعُ الْعِيدَانَ وَالْخِرَقَ، فَكَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ أَهْلَهَا، وَكَانَتْ تَزُورُ دَائِمًا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- فَتَأْنَسُ إِلَيْهَا وَتُكْرِمُهَا، وَتُكَرِّرُ فِي كُلِّ يَوْمٍ تَزُورُ فِيهِ عَائِشَةَ قَوْلَهَا:

وَيَوْمُ الْوِشَاحِ مِنْ أَعَاجِيبِ رَبِّنَا *** أَلاَ إِنَّهُ مِنْ بَلْدَةِ الْكُفْرِ أَنْجَانِي

فَاسْتَمَرَّتْ هَذِهِ الصَّحَابِيَّةُ السَّوْدَاءُ فِي خِدْمَةِ مَسْجِدِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى وَافَتْهَا الْمَنِيَّةُ لَيْلاً، فَغَسَّلُوهَا وَكَفَّنُوهَا، وَصَلَّوْا عَلَيْهَا، وَدَفَنُوهَا لَيْلاً، وَلَمْ يُخْبِرُوا رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَلَمَّا جَاءَ الْفَجْرُ، وَصَلَّى الرَّسُولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالصَّحَابَةِ سَأَلَ عَنْهَا؛ فَقَالُوا: مَاتَتِ الْبَارِحَةَ، قَالَ: «أَفَلا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي»، أَيْ: أَخْبَرْتُمُونِيِ؛ فَكَأَنَّهُمْ صغَّرُوا أَمْرَهَا وَتَقَالُّوهَا ، فَقَالَ: «دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِا» فَدَلُّوهُ فَصلَّى عَلَيها، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ هَذِهِ الْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أَهْلِهَا، وإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُنَوِّرهَا لَهُمْ بِصَلاَتِي عَلَيْهِمْ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

فَأَكْرَمَ اللهُ تَعَالَى أَهْلَ الْقُبُورِ بِالنُّورِ التَّامِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِسَبَبِ صَلاَةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى هَذِهِ الْمَرْأَةِ السَّوْدَاءِ الضَّعِيفَةِ الْمَظْلُومَةِ.

فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى -عِبَادَ اللهِ-، وَاصْدُقُوا مَعَ رَبِّكُمْ، وَأَخْلِصُوا الْعَمَلَ لَهُ؛ تَسْعَدُوا وَتُفْلِحُوا وَإِنْ لَمْ تُعْرَفُوا؛ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: 97].

بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ.

أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ

الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا...

أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: فِي قِصَّةِ هَذِهِ الصَّحَابِيَّةِ السَّوْدَاءِ الدُّرُوسُ وَالْعِبَرُ، وَالَّتِي مِنْهَا:

أَنَّ فِي الْمِحَنِ مِنَحًا، وَفِي الْبَلاَيَا الْعَطَايَا مَتَى مَا أَرَادَ اللهُ تَعَالَى بِالْعَبْدِ خَيْرًا ؛ فَإِحْسَانُ الظَّنِّ بِاللهِ، وَالثِّقَةُ بِهِ يُعَجِّلُ بِالْفَرَجِ وَيَأْتِي بِالْخَيْرِ؛ فَهَذِهِ الْمَرْأَةُ قَبْلَ إِسْلاَمِهَا لاَ تُعْرَفُ، وَبَعْدَ كُرْبَتِهَا وَإِسْلاَمِهَا نَالَتْ شَرَفَ الصُّحْبَةِ، وَصَلَّى عَلَى قَبْرِهَا أَفْضَلُ الْخَلْقِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

وَمِنَ الدُّرُوسِ وَالْعِبَرِ: الْبُعْدُ عَنْ ظُلْمِ الْعِبَادِ؛ فَالظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ فَإِهْمَالُ الظُّلْمِ مَطْلُوبٌ، وَإِعْمَالُ التَّثَبُّتِ قَبْلَ ظُلْمِ الْعَبْدِ أَمْرٌ مَرْغُوبٌ مَحْبُوبٌ، وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: «يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلاَ تَظَالَمُوا..» [رَوَاهُ مُسْلِمٌ].

فَاتَّقُوا اللهَ -أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ-، وَأَحْسِنُوا الظَّنَّ بِرَبِّكُمْ، وَاعْلَمُوا أَنَّهُ مَهْمَا تَعَاظَمَتِ الأُمُورُ، وَكَثُرَتِ الْهُمُومُ وَالْمَصَائِبُ وَالْغُمُومُ، فَفَرَجُ اللهِ أَكْبَرُ وَأَوْسَعُ وَأَسْرَعُ، ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾ [ الطلاق: 4].

هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [ الأحزاب: 56 ].  وَقَالَ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» [رَوَاهُ مُسْلِم].

المرفقات

يوم-الوشاح

يوم-الوشاح

المشاهدات 1998 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا