يومُ الوشاح-8-5-1441هـ-مستفادة من خطبة الشيخ صالح العصيمي

محمد بن سامر
1441/05/07 - 2020/01/02 21:26PM
    الحمدُ للهِ ربِ العالمينَ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وليُ الصالحينَ، وأشهدُ أنَّ محمدًا رسولُه الأمينُ، عليه وآلهِ الصلاةُ وأتمُ التسليمِ.
"يا أيها الذينَ آمنوا اتقوا اللهَ حقَ تقاتِه ولا تموتُنَّ إلا وأنتم مسلمون".
أما بعد: فيا إخواني الكرام: حَدِيثُ الْيَوْمِ عَنْ قِصَّةٍ امرأةٍ سوداءَ، تَتَجَلَّى فِيهَا حِكْمَةُ اللهِ، وَتَظْهَرُ فِيهَا رَحْمَتُه، فَكَمْ مِنْ حَادِثٍ يَمُرُّ بِالْإِنْسَانِ ظَاهِرُهُ الشَّرُّ، وَبِدَايَتُهُ الْكَرْبُ، وَباطِنُهُ الرَّحْمَةُ، وَمَآلُهُ الْسُرورُ وَالْفَرَجُ وَالْخَيْرُ!
 قالت أُمُنا عَائِشَةُ-عليها منَ اللهِ الرضوانُ والسلامُ-: "أَسْلَمَتْ امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ، وَكَانَ لَهَا حِفْشٌ فِي الْمَسْجِدِ-غرفةٌ صغيرةٌ سقفُها قريبٌ من الأرضِ-، قَالَتْ: فَكَانَتْ تَأْتِينَا فَتَحَدَّثُ عِنْدَنَا؛ فَإِذَا فَرَغَتْ مِنْ حَدِيثِهَا قَالَتْ:
وَيَوْمُ الْوِشَاحِ مِنْ تَعَاجِيبِ رَبِّنَا*أَلَا إِنَّهُ مِنْ بَلْدَةِ الْكُفْرِ أَنْجَانِي
فَلَمَّا أَكْثَرَتْ-من تكرارِه-، قلتُ لها: وَمَا يَوْمُ الْوِشَاحِ؟ قَالَتْ: خَرَجَتْ جُوَيْرِيَةٌ-فتاةٌ صغيرةٌ-لِبَعْضِ أَهْلِي، وَعَلَيْهَا وِشَاحٌ مِنْ أَدَمٍ-جلدٍ-، فَسَقَطَ مِنْهَا فَانْحَطَّتْ عَلَيْهِ الْحُدَيَّا-الحِدَأةُ-وهي طَّائِرٌ خَطّافٌ مفترسٌ، أمرنا رَسُولُ اللَّهِ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ-بِقَتْلِه معَ أربعِ فَوَاسِقَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ: الْعَقْرَبِ، وَالْفَأْرَةِ، وَالْغُرَابِ، وَالْكَلْبِ الْعَقُورِ-، تقولُ: "فانقضتْ عَلَيْهِ وَهِيَ تَحْسِبُهُ لَحْمًا فَأَخَذَتْهُ، فَاتَّهَمُونِي بِهِ، فَعَذَّبُونِي حَتَّى بَلَغَ مِنْ أَمْرِي أَنَّهُمْ طَلَبُوه فِي قُبُلِي-بحثوا عنه في فرجِها-، فَبَيْنَاهُمْ حَوْلِي وَأَنَا فِي كَرْبِي؛ إِذْ أَقْبَلَتْ الْحُدَيَّا حَتَّى وَازَتْ بِرُؤوسِنَا، ثُمَّ أَلْقَتْهُ فَأَخَذُوهُ، فَقُلْتُ لَهُمْ: هَذَا الَّذِي اتَّهَمْتُمُونِي بِهِ، وَأَنَا مِنْهُ بَرِيئَةٌ".
إِنَّ هَذِهِ المرأةَ السَّوْدَاءَ-رضيَ اللهُ عنها-تَعَرَّضَتْ لِامتحانٍ عظيمٍ، وَتُهْمَةٍ مُؤْلِمَةٍ، اِتُّهِمْتْ بِالسَّرِقَةِ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا، واسْتَغَلُّوا ضَعْفَهَا وَعَدَمَ وُجُودِ نَاصِرٍ لَهَا، فَلَا أُمَ تَرْحَمُهَا، وَلَا أَبَ يَحْنُو عَلَيْهَا، وَلَا قَبِيلَةَ تَعْتَضِدُ بِهَا، وَلَيْسَ لَهَا رُكْنٌ شَدِيدٌ تَأْوِي إِلَيْهِ، وَعِنْدَمَا فَقَدُوا حَاجَةً لِابْنَتِهِمْ؛ كَانَ أَيْسَرَ شَيْءٍ عَلَيْهِمْ الْبَحْثُ عَنْ ضَحِيَّةٍ يَتَّهِمُوْنَه؛ فَكَانَتْ أَوَّلَ مَنْ أُلْقِيَتْ عَلَيْهَا التُّهْمَةُ مِنْ دُونِ قَرَائِنَ، وَلَا مُسوغاتٍ، وَلَا حُجَجٍ، وَلَا أدلةٍ، فَهِيَ الْجِدَارُ الصَّغِيرُ الَّذِي يَسْهُلُ الْقَفْزُ عَلَيْهِ، حَتَّى أَذَلُّوهَا أَيَّمَا إِذْلَالٍ، وَفَتَّشُوا عَنْ حَاجَتِهِمْ فِي عَوْرَتِهَا الْمُغَلَّظَةِ في فرجِها؛ لَعَلَّهُمْ يَعْثُرُونَ عَلَيْهَا، مِنْ غَيْرِ حَيَاءٍ أَوْ رَحْمَةٍ، وَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى إِذْلَالِهَا وَقَهْرِهَا، جَاءَ الْفَرَجُ منَ اللهِ الذي بِيَدِهِ الْفَرَجُ وَالنَّصْرُ، فَعَادَتْ الْحِدَأَةُ فَأَلْقَتْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ حَاجَتَهُمُ الَّتِي اتَّهَمُوا بِهَا هذهِ الْمِسْكِينَةَ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْحَادِثَةُ سَبَبًا لبراءَتِها، وترْكِهِمْ لَهَا، وَنَجَاتِهَا مِنْ قَهْرِهِمْ وَتَسَلُّطِهِمْ، وكَانَ مَآلُ هَذِهِ الْحَادِثَةِ الْخَيْرَ الْعَظِيمَ، "لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ"، "وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا ويجعلَ اللهُ فيه خيرًا كثيرًا"، فخَرَجَتْ مِنْ عِنْدِهِمْ تَبْحَثُ عَنْ مَكَانٍ تَأْوِي إِلَيْهِ، فَهَدَاهَا اللهُ إِلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ؛ لِتَلْقَى خَيْرَ الْبَشَرِيَّةِ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِه وَسَلَّمَ-، وَأَسْلَمَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَاتَّخَذَتْ مَكَانًا لَهَا فِي آخِرِ الْمَسْجِدِ، فَكَانَ أهْلُ الْمَدِينَةِ أَهْلَهَا، وَكَانَتْ تَزُورُ أمَنا عائشةَ-عليها منَ اللهِ الرضوانُ والسلامُ-فَتَأْنَسُ إِلَيْهَا وَتُكْرِمُهَا، وَتُكَرِّرُ فِي كُلِّ يَوْمٍ تَزُورُ فِيهِ عَائِشَةَ قَوْلَهَا:
وَيَوْمُ الْوِشَاحِ مِنْ تَعَاجِيبِ رَبِّنَا*أَلَا إِنَّهُ مِنْ بَلْدَةِ الْكُفْرِ أَنْجَانِي
قَالَ العلماءُ فِي ذكرِهم لفوائدِ هذا الْحَديثِ: "رُبَّ ضَارَّةٍ نَافِعَةٌ" فَإِنَّ هَذَا الضَّغْطَ الَّذِي حَصَلَ عَلَيْهَا جعلَها تَأَتِي إِلَى رَسُولِ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِه وَسَلَّمَ-فَتُسْلِمَ، وأنَّه يجوزُ الْخُرُوجَ مِنَ الْبَلَدِ الَّذِي يَحْصُلُ فِيهِ الامتحانُ والابتلاءُ، فلَعَلَّهُ يَتَحَوَّلُ إِلَى مَا فِيهِ خَيْرٌ لَهُ، وَفِيهِ فَضْلُ الْهِجْرَةِ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ، وَاستِجَابَةُ دَعْوَةِ الْمَظْلُومِ، وَلَوْ كَانَ كَافِرًا؛ لِأَنَّ إِسْلَامَهَا كَانَ بَعْدَ دُخُولِهَا الْمَدِينَةَ.
إِنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ كَانَتْ قَبْلَ إِسْلَامَهَا نَكِرَةً لَا تُعْرَفُ، وَبَعْد كُرْبَتِهَا، وَإِسْلَامهَا نَالَتْ شَرَفَ صُّحْبَةِ الرسولِ-صلى اللهُ عليهِ وآلِه وسلمَ-، فَكَانَتْ رِحْلَتُهَا مِنْ بِلَادِ قَوْمِهَا خَيْرٌ لَهَا.
ارْحَلْ بِنَفْسِكَ مِنْ أَرْضٍ تُضَامُ بِهَا*
                           وَلاَ تَكُنْ مِنْ فِرَاقِ الأَهْلِ فِي حُرَقِ
فالعنبرُ الخامُ روثٌ في مواطنهِ*
                                 وَفِي التَّغَرُّبِ مَحْمُولٌ عَلَى الْعُنُقِ
والكحلُ نوعٌ منَ الأحجارِ تنظرهُ*
                               فِي أرضِهِ وَهْوَ مَرْمِيٌّ عَلَى الطُّرُقِ
لمَّا تغرَّبَ حازَ الفضلَ أجمعَهُ*
                                 فَصَارَ يُحْمَلُ بَيْنَ الْجَفْنِ وَالْحَدَقِ
أَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لِي وَلَكُمْ وللمسلمينَ...
 
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ كما يحبُ ربُنا ويرضى، أَمَّا بَعْدُ:
فَإِلَى كُلِّ مُبْتَلًى وَمَكْرُوبٍ، خُذْ مِنْ قصةِ يَوْمِ الْوِشَاحِ الْعِظَةَ وَالْعِبْرَةَ؛ فإنَّ اللهَ رَحِيمٌ بِعِبَادِهِ، لَطِيفٌ بِهِمْ، وفَرَجَه قَرِيبٌ، وَأَنَّ مَآلَاتِ الْفِتَنِ، وَثِمارَ الْمِحَنِ خَيْرٌ عَظِيمٌ، لمنْ وَثِقَ بِاللهِ، وأحسنَ الظنَّ به، وفوَّضَ الأمرَ إليهِ، وصبرَ، ولم يجزعْ، ولم يعجلْ، فتلك الْصحابيةُ السوداءُ-رضي اللهُ عنها-كُلَّمَا تَذَكَّرَتْ يَوْمَ تُهْمَتِهَا؛ فَرِحَتْ بِمَا آلَتْ إِلَيْهِ نَتَائِجُ ذلك الابتلاءِ والْفِتْنَةِ الَّتِي تَعَرَّضَتْ لَهَا؛ أَنَّهَا عَرَفَتِ اللهَ ورسولَه ودينَه في الْمَدِينَةِ.
وإلى كلِّ إنسانٍ أَلَّا يَظْلِمَ غَيْرَهُ، وَلَا يَسْتَغِلَّ ضَعْفَهُ لِإِلْقَاءِ التُّهَمِ عَلَيْهِ دونَ دليلٍ، فهُنَاكَ منَ الناسِ إذَا فَقَدَ شَيْئًا، بَادَرَ بِاِتِّهَامِ غيرِه: شغالةً أو سواقًا أو عاملًا دُونَ دليلٍ، فبدأَ بتفتيشِ أغراضِه وأمتعتِه، اسْتِغلالًا لضَعْفِهِ، وربَّما كانَ هذا المتهمُ عفيفًا أمينًا صادقًا، وَلَكِنَّ الضَّعْفَ الَّذِي يعَانِيه، وَالْغُرْبَة، وَاِبْتِعَادَه عَنْ أَهْلِهِ، جَعَلَهَ يَتَحَمَّل هَذَا الظُّلْمُ عَلَى مَضَضٍ، فَعَلَيْنَا أَن نَتَّقِيَ اللَّهُ وألَّا نَسْتَغِلَّ ضِعْفَ الضَّعِيف لِنَظْلِمهُ، وَنَزِيدَ عَلَيْه الْأَلَم ألمًا، وَالْعَذَاب عَذَابًا، فاللهُ قَرِيبٌ مُجِيبٌ، يَقْبَلُ الدُّعَاءَ مِنَ الْكَافِرِ والْفَاجِرِ وَالْفَاسِقِ وينصرُه إذَا كَانَ مَظْلُومًا، لأنَّ اللهَ-سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-قَدْ حَرَّمَ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسهِ، وَجَعَلَهُ بَيْنَ عِبَادِهِ مُحَرَّما، فَلَا تَظَالَمُوْا.
اللهم اهدنا والمسلمينَ لأحسنِ الأخلاقِ والأعمالِ، واصرفْ عنا والمسلمينَ سيِئ الأخلاقِ والأعمالِ، اللهم أصلحْ ولاةَ أُمورِنا وولاةَ أُمورِ المسلمينِ، وارزقهمْ البطانةَ الصالحةَ الناصحةَ، ووفقهمْ لما تحبُ وترضى، وانصرْ جنودَنا المرابطينَ، ورُدَّهُم سالمينَ غانمينَ، اللهم اغفرْ لنا ولوالدينا وللمسلمينَ، أسألُك لي ولهم من كلِّ خيرٍ، وأعوذُ وأُعيذُهم بك من كلِّ شرٍ، اللهم اشفنا واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، اللهم اجعلنا والمسلمينَ ممن نصرَك فنصرْته، وحفظَك فحفظتْه، اللهم عليك بأعداءِ المسلمينَ فإنهم لا يعجزونَك، اكفنا واكفِ المسلمين شرَّهم بما شئتَ يا قويُ يا عزيزُ.
المرفقات

الوشاح-8-5-1441هـ-مستفادة-من-خطبة-الشيخ-صالح

المشاهدات 1581 | التعليقات 1

الحمدُ للهِ ربِ العالمينَ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وليُ الصالحينَ، وأشهدُ أنَّ محمدًا رسولُه الأمينُ، عليه وآلهِ الصلاةُ وأتمُ التسليمِ.
"يا أيها الذينَ آمنوا اتقوا اللهَ حقَ تقاتِه ولا تموتُنَّ إلا وأنتم مسلمون".
أما بعد: فيا إخواني الكرام: حَدِيثُ الْيَوْمِ عَنْ قِصَّةٍ امرأةٍ سوداءَ، تَتَجَلَّى فِيهَا حِكْمَةُ اللهِ، وَتَظْهَرُ فِيهَا رَحْمَتُه، فَكَمْ مِنْ حَادِثٍ يَمُرُّ بِالْإِنْسَانِ ظَاهِرُهُ الشَّرُّ، وَبِدَايَتُهُ الْكَرْبُ، وَباطِنُهُ الرَّحْمَةُ، وَمَآلُهُ الْسُرورُ وَالْفَرَجُ وَالْخَيْرُ!
 قالت أُمُنا عَائِشَةُ-عليها منَ اللهِ الرضوانُ والسلامُ-: "أَسْلَمَتْ امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ، وَكَانَ لَهَا حِفْشٌ فِي الْمَسْجِدِ-غرفةٌ صغيرةٌ سقفُها قريبٌ من الأرضِ-، قَالَتْ: فَكَانَتْ تَأْتِينَا فَتَحَدَّثُ عِنْدَنَا؛ فَإِذَا فَرَغَتْ مِنْ حَدِيثِهَا قَالَتْ:
وَيَوْمُ الْوِشَاحِ مِنْ تَعَاجِيبِ رَبِّنَا*أَلَا إِنَّهُ مِنْ بَلْدَةِ الْكُفْرِ أَنْجَانِي
فَلَمَّا أَكْثَرَتْ-من تكرارِه-، قلتُ لها: وَمَا يَوْمُ الْوِشَاحِ؟ قَالَتْ: خَرَجَتْ جُوَيْرِيَةٌ-فتاةٌ صغيرةٌ-لِبَعْضِ أَهْلِي، وَعَلَيْهَا وِشَاحٌ مِنْ أَدَمٍ-جلدٍ-، فَسَقَطَ مِنْهَا فَانْحَطَّتْ عَلَيْهِ الْحُدَيَّا-الحِدَأةُ-وهي طَّائِرٌ خَطّافٌ مفترسٌ، أمرنا رَسُولُ اللَّهِ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ-بِقَتْلِه معَ أربعِ فَوَاسِقَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ: الْعَقْرَبِ، وَالْفَأْرَةِ، وَالْغُرَابِ، وَالْكَلْبِ الْعَقُورِ-، تقولُ: "فانقضتْ عَلَيْهِ وَهِيَ تَحْسِبُهُ لَحْمًا فَأَخَذَتْهُ، فَاتَّهَمُونِي بِهِ، فَعَذَّبُونِي حَتَّى بَلَغَ مِنْ أَمْرِي أَنَّهُمْ طَلَبُوه فِي قُبُلِي-بحثوا عنه في فرجِها-، فَبَيْنَاهُمْ حَوْلِي وَأَنَا فِي كَرْبِي؛ إِذْ أَقْبَلَتْ الْحُدَيَّا حَتَّى وَازَتْ بِرُؤوسِنَا، ثُمَّ أَلْقَتْهُ فَأَخَذُوهُ، فَقُلْتُ لَهُمْ: هَذَا الَّذِي اتَّهَمْتُمُونِي بِهِ، وَأَنَا مِنْهُ بَرِيئَةٌ".
إِنَّ هَذِهِ المرأةَ السَّوْدَاءَ-رضيَ اللهُ عنها-تَعَرَّضَتْ لِامتحانٍ عظيمٍ، وَتُهْمَةٍ مُؤْلِمَةٍ، اِتُّهِمْتْ بِالسَّرِقَةِ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا، واسْتَغَلُّوا ضَعْفَهَا وَعَدَمَ وُجُودِ نَاصِرٍ لَهَا، فَلَا أُمَ تَرْحَمُهَا، وَلَا أَبَ يَحْنُو عَلَيْهَا، وَلَا قَبِيلَةَ تَعْتَضِدُ بِهَا، وَلَيْسَ لَهَا رُكْنٌ شَدِيدٌ تَأْوِي إِلَيْهِ، وَعِنْدَمَا فَقَدُوا حَاجَةً لِابْنَتِهِمْ؛ كَانَ أَيْسَرَ شَيْءٍ عَلَيْهِمْ الْبَحْثُ عَنْ ضَحِيَّةٍ يَتَّهِمُوْنَه؛ فَكَانَتْ أَوَّلَ مَنْ أُلْقِيَتْ عَلَيْهَا التُّهْمَةُ مِنْ دُونِ قَرَائِنَ، وَلَا مُسوغاتٍ، وَلَا حُجَجٍ، وَلَا أدلةٍ، فَهِيَ الْجِدَارُ الصَّغِيرُ الَّذِي يَسْهُلُ الْقَفْزُ عَلَيْهِ، حَتَّى أَذَلُّوهَا أَيَّمَا إِذْلَالٍ، وَفَتَّشُوا عَنْ حَاجَتِهِمْ فِي عَوْرَتِهَا الْمُغَلَّظَةِ في فرجِها؛ لَعَلَّهُمْ يَعْثُرُونَ عَلَيْهَا، مِنْ غَيْرِ حَيَاءٍ أَوْ رَحْمَةٍ، وَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى إِذْلَالِهَا وَقَهْرِهَا، جَاءَ الْفَرَجُ منَ اللهِ الذي بِيَدِهِ الْفَرَجُ وَالنَّصْرُ، فَعَادَتْ الْحِدَأَةُ فَأَلْقَتْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ حَاجَتَهُمُ الَّتِي اتَّهَمُوا بِهَا هذهِ الْمِسْكِينَةَ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْحَادِثَةُ سَبَبًا لبراءَتِها، وترْكِهِمْ لَهَا، وَنَجَاتِهَا مِنْ قَهْرِهِمْ وَتَسَلُّطِهِمْ، وكَانَ مَآلُ هَذِهِ الْحَادِثَةِ الْخَيْرَ الْعَظِيمَ، "لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ"، "وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا ويجعلَ اللهُ فيه خيرًا كثيرًا"، فخَرَجَتْ مِنْ عِنْدِهِمْ تَبْحَثُ عَنْ مَكَانٍ تَأْوِي إِلَيْهِ، فَهَدَاهَا اللهُ إِلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ؛ لِتَلْقَى خَيْرَ الْبَشَرِيَّةِ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِه وَسَلَّمَ-، وَأَسْلَمَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَاتَّخَذَتْ مَكَانًا لَهَا فِي آخِرِ الْمَسْجِدِ، فَكَانَ أهْلُ الْمَدِينَةِ أَهْلَهَا، وَكَانَتْ تَزُورُ أمَنا عائشةَ-عليها منَ اللهِ الرضوانُ والسلامُ-فَتَأْنَسُ إِلَيْهَا وَتُكْرِمُهَا، وَتُكَرِّرُ فِي كُلِّ يَوْمٍ تَزُورُها فِيهِ قَوْلَهَا:
وَيَوْمُ الْوِشَاحِ مِنْ تَعَاجِيبِ رَبِّنَا*أَلَا إِنَّهُ مِنْ بَلْدَةِ الْكُفْرِ أَنْجَانِي
قَالَ العلماءُ فِي ذكرِهم لفوائدِ هذا الْحَديثِ: "رُبَّ ضَارَّةٍ نَافِعَةٌ" فَإِنَّ هَذَا الضَّغْطَ الَّذِي حَصَلَ عَلَيْهَا جعلَها تَأَتِي إِلَى رَسُولِ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِه وَسَلَّمَ-فَتُسْلِمَ، وأنَّه يجوزُ الْخُرُوجَ مِنَ الْبَلَدِ الَّذِي يَحْصُلُ فِيهِ الامتحانُ والابتلاءُ، فلَعَلَّهُ يَتَحَوَّلُ إِلَى مَا فِيهِ خَيْرٌ لَهُ، وَفِيهِ فَضْلُ الْهِجْرَةِ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ، وَاستِجَابَةُ دَعْوَةِ الْمَظْلُومِ، وَلَوْ كَانَ كَافِرًا؛ لِأَنَّ إِسْلَامَهَا كَانَ بَعْدَ دُخُولِهَا الْمَدِينَةَ.
إِنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ كَانَتْ قَبْلَ إِسْلَامَهَا نَكِرَةً لَا تُعْرَفُ، وَبَعْد كُرْبَتِهَا، وَإِسْلَامهَا نَالَتْ شَرَفَ صُّحْبَةِ الرسولِ-صلى اللهُ عليهِ وآلِه وسلمَ-، فَكَانَتْ رِحْلَتُهَا مِنْ بِلَادِ قَوْمِهَا خَيْرًا لَهَا.
ارْحَلْ بِنَفْسِكَ مِنْ أَرْضٍ تُضَامُ بِهَا*
                           وَلاَ تَكُنْ مِنْ فِرَاقِ الأَهْلِ فِي حُرَقِ
فالعنبرُ الخامُ روثٌ في مواطنهِ*
                                 وَفِي التَّغَرُّبِ مَحْمُولٌ عَلَى الْعُنُقِ
والكحلُ نوعٌ منَ الأحجارِ تنظرهُ*
                               فِي أرضِهِ وَهْوَ مَرْمِيٌّ عَلَى الطُّرُقِ
لمَّا تغرَّبَ حازَ الفضلَ أجمعَهُ*
                                 فَصَارَ يُحْمَلُ بَيْنَ الْجَفْنِ وَالْحَدَقِ
أَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لِي وَلَكُمْ وللمسلمينَ...
 
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ كما يحبُ ربُنا ويرضى، أَمَّا بَعْدُ:
فَإِلَى كُلِّ مُبْتَلًى وَمَكْرُوبٍ، خُذْ مِنْ قصةِ يَوْمِ الْوِشَاحِ الْعِظَةَ وَالْعِبْرَةَ؛ فإنَّ اللهَ رَحِيمٌ بِعِبَادِهِ، لَطِيفٌ بِهِمْ، وفَرَجَه قَرِيبٌ، وَأَنَّ مَآلَاتِ الْفِتَنِ، وَثِمارَ الْمِحَنِ خَيْرٌ عَظِيمٌ، لمنْ وَثِقَ بِاللهِ، وأحسنَ الظنَّ به، وفوَّضَ الأمرَ إليهِ، وصبرَ، ولم يجزعْ، ولم يعجلْ، فتلك الْصحابيةُ السوداءُ-رضي اللهُ عنها-كُلَّمَا تَذَكَّرَتْ يَوْمَ تُهْمَتِهَا؛ فَرِحَتْ بِمَا آلَتْ إِلَيْهِ نَتَائِجُ ذلك الابتلاءِ والْفِتْنَةِ الَّتِي تَعَرَّضَتْ لَهَا؛ أَنَّهَا عَرَفَتِ اللهَ ورسولَه ودينَه في الْمَدِينَةِ.
وإلى كلِّ إنسانٍ أَلَّا يَظْلِمَ غَيْرَهُ، وَلَا يَسْتَغِلَّ ضَعْفَهُ لِإِلْقَاءِ التُّهَمِ عَلَيْهِ دونَ دليلٍ، فهُنَاكَ منَ الناسِ إذَا فَقَدَ شَيْئًا، بَادَرَ بِاِتِّهَامِ غيرِه: شغالةً أو سواقًا أو عاملًا دُونَ دليلٍ، فبدأَ بتفتيشِ أغراضِه وأمتعتِه، اسْتِغلالًا لضَعْفِهِ، وربَّما كانَ هذا المتهمُ عفيفًا أمينًا صادقًا، وَلَكِنَّ الضَّعْفَ الَّذِي يعَانِيه، وَالْغُرْبَة، وَاِبْتِعَادَه عَنْ أَهْلِهِ، جَعَلَهَ يَتَحَمَّل هَذَا الظُّلْمُ عَلَى مَضَضٍ، فَعَلَيْنَا أَن نَتَّقِيَ اللَّهَ وألَّا نَسْتَغِلَّ ضِعْفَ الضَّعِيف لِنَظْلِمَهُ، وَنَزِيدَ عَلَيْه الْأَلَم ألمًا، وَالْعَذَاب عَذَابًا، فاللهُ قَرِيبٌ مُجِيبٌ، يَقْبَلُ الدُّعَاءَ مِنَ الْكَافِرِ والْفَاجِرِ وَالْفَاسِقِ وينصرُه إذَا كَانَ مَظْلُومًا، لأنَّ اللهَ-سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-قَدْ حَرَّمَ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسهِ، وَجَعَلَهُ بَيْنَ عِبَادِهِ مُحَرَّما، فَلَا تَظَالَمُوْا.
اللهم اهدنا والمسلمينَ لأحسنِ الأخلاقِ والأعمالِ، واصرفْ عنا والمسلمينَ سيِئ الأخلاقِ والأعمالِ، اللهم أصلحْ ولاةَ أُمورِنا وولاةَ أُمورِ المسلمينِ، وارزقهمْ البطانةَ الصالحةَ الناصحةَ، ووفقهمْ لما تحبُ وترضى، وانصرْ جنودَنا المرابطينَ، ورُدَّهُم سالمينَ غانمينَ، اللهم اغفرْ لنا ولوالدينا وللمسلمينَ، أسألُك لي ولهم من كلِّ خيرٍ، وأعوذُ وأُعيذُهم بك من كلِّ شرٍ، اللهم اشفنا واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، اللهم اجعلنا والمسلمينَ ممن نصرَك فنصرْته، وحفظَك فحفظتْه، اللهم عليك بأعداءِ المسلمينَ فإنهم لا يعجزونَك، اكفنا واكفِ المسلمين شرَّهم بما شئتَ يا قويُ يا عزيزُ.

المرفقات

https://khutabaa.com/forums/رد/353854/attachment/%d8%a7%d9%84%d9%88%d8%b4%d8%a7%d8%ad-8-5-1441%d9%87%d9%80-%d9%85%d8%b3%d8%aa%d9%81%d8%a7%d8%af%d8%a9-%d9%85%d9%86-%d8%ae%d8%b7%d8%a8%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b4%d9%8a%d8%ae-%d8%b5%d8%a7%d9%84%d8%ad

https://khutabaa.com/forums/رد/353854/attachment/%d8%a7%d9%84%d9%88%d8%b4%d8%a7%d8%ad-8-5-1441%d9%87%d9%80-%d9%85%d8%b3%d8%aa%d9%81%d8%a7%d8%af%d8%a9-%d9%85%d9%86-%d8%ae%d8%b7%d8%a8%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b4%d9%8a%d8%ae-%d8%b5%d8%a7%d9%84%d8%ad