(( يوم الوشاح ))
عبدالرحمن محمد صالح الحمد
ويوم الوشاح من أعاجيب ربنا
أيها المسلمون:
القصة أثيرة عند الناس، يصغون إليها، ويحبونها، وأحسن القصص قصص القرآن والسنة، فهي قصص حق وصدق، يقول أحد السلف: القصص جند من جنود الله يثبت الله بها من يشاء من عباده.
معشر الإخوة: حياة الإنسان فوق هذه الأرض متشابهة في القديم والحديث، في الاستقامة والانحراف، والعدل والظلم، والرحمة والقسوة. والمستقيمون من البشر، والمنحرفون نماذج متكررة. وجدت قديمًا، وتوجد حديثًا، وكأن القصص الواردة في القرآن والسنة تحدث عما يعانيه البعض من بلاء، أو ما ينعم به من رفاء.
وكأنها تتحدث عن شخص عادل أو ظالم، أمين أو خائن، صادق أو كاذب، فالمقصود إذن من القصة أخذ العظة والعبرة مما يسمعه الإنسان، يقول الله - تعالی -:﴿وَعَسى أَن تَكرَهوا شَيئًا وَهُوَ خَيرٌ لَكُم وَعَسى أَن تُحِبّوا شَيئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُم وَاللَّهُ يَعلَمُ وَأَنتُم لا تَعلَمونَ﴾ [البقرة: ٢١٦]
، ويقول رسول الله ﷺ لابن عمه عبدالله بن عباس ﭭ: (واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرًا) رواه البخاري.
أيها المسلمون:
إليكم هذه القصة التي أورد أصلها الإمام البخاري في صحيحه، ففيها دروس، وفيها عبر: امرأة تسكن في مسجد رسول الله ﷺ: تتردد على أم المؤمنین عائشة ڤ، وتدخل عليها في حجرتها دائمًا، تستفيد من توجيهاتها وأخلاقها وعلومها، وكانت هذه المرأة تردد بيتًا من الشعر دائمًا، على مسمع من عائشة ڤ وهو قولها:
ويومُ الوشاح من أعاجيب ربنا
ألا إنه من بلدة الكفر نجاني
فعجبت عائشة من إنشاد هذا البيت وتكراره، فما يوم الوشاح؟
وما تلك الأعجوبة التي أثّرت في نفس هذه المرأة؟
وأخذت تتذكرها في كل مجلس تجلسه مع أم المؤمنین عائشة ڤ:
فقالت لها عائشة:
ما شأنك لا تقعدين مقعدًا إلا قلت ذلك؟
فقصت المرأة قصتها، وحكت خبر ذلك اليوم العجيب، فقد كانت المرأة مملوكةً لأناس في أطراف مكة، فأعتقوها ونالت حريتها، ولكنها بقيت بين ظهرانيهم تقوم بخدمتهم، أمة ضعيفة في حال رقها وبعد عتقها، فلا أهل، ولا معارف، ولا أقارب، ولا أرحام.
وفي يوم من الأيام خرجت فتاةٌ من فتيات هؤلاء القوم الذين تسكن عندهم هذه الأمة وكانت الفتاةُ حديثة عهد بزواج وقد اتّشحت على صدرها بوشاح أحمر، (والوشاح: شيء يصنع من جلد وربما رصع بالجواهر تجعله المرأة على صدرها تتزين به).
وأرادت الفتاة أن تدخل مكان قضاء الحاجة، فوضعت الوشاح خارجه حيث ألقته على الأرض، فمرت به حدأة وهو ملقى فخطفته، وطارت به في الجو.
ولما خرجت الفتاة لم تجد الوشاح، فتوقعت أنه قد سرق، وأخبرت أهلها فبحثوا عنه، فلم يجدوه، فاتهموا به هذه المرأة المسكينة، وأنها هي التي قد سرقته فليس في البيوت أحد سواها، فعذبوها كي تقرّ بأخذه، وفتشوها حتى عورتها المغلظة، فأصيبت المرأة بحالة انهيار وتعب، وأحست بالظلم والمهانة.
فأين عشرة تلك السنوات؟! لقد ضاقت بها الحيل، فلم تشفع لها تلك السنوات التي قضتها بين ظهرانيهم، وانقطعت بها السبل، واشتد بها الكرب.
فأين القوة التي تأخذ حقّها، وتدافع عنها وترد کرامتها؟ فلا نسب ولا حسب ولا جاه ولا قرابة ولا عارف ولا معروف، وربما أنها توجهت إلى الخالق - جل وعلا -؛ لیکشف کربها، فلقد ترکت دعاء آلهةِ قومها و معبوداتهم، وهي لا تعرف الإسلام فأجابها الذي يجيب دعوة المضطر إذا دعاه، فجاءها الفرج أسرع مما أملت، وألطف مما قدرت.
فإذا بالحدأة التي خطفت الوشاح تقبل تحلّق في الجو، وهم لا يزالون قيامًا حولها وقعود، وهي في كربها وشدتها، وضيق حيلتها، وهوانها عليهم، فدارت الحدأة في السماء. فلما حاذت رؤوسهم ألقت بالوشاح بينهم فأخذوه فإذا هو وشاح الفتاة الذي يبحثون عنه.
فظهرت براءتها، وانكشف كربُها، وعلموا صدقها وأمانتها ونزاهتها.
وبعد ذلك ندموا على ما صنعوه بها، وكيف أنهم انساقوا وراء هذه التهمة، وهم يعلمون أمانتها وصدقها وإخلاصها منذ سنوات.
وبعد هذه الحادثة المؤلمة بالنسبة لها، طابت نفسها من المقام عندهم، فطلبت منهم أن يأذنوا لها بأن تغادرهم، وتتجه إلى المدينة.
لقد كرهت أن يحسنوا إليها بعد هذا الاتهام الخطير، والبحث الدقيق مع استعدادهم للإحسان تكفيرًا عما قاموا به من إهانتها وإذلالها.
فاتجهت بالفعل إلى ناحية المدينة فلما وصلتها وجدت الإسلام فيها قد ضرب أطنابه وانتشر في نواحيها.
فدخلت في دين الله ۵ مختارة منقادة، أسلمت وسکنت بناحية من نواحي المسجد وأنست بحديث عائشةَ الفذ، فأخذت تتردد عليها دائمًا وأبدًا.
لقد وجدت سكينة نفسها بالهداية، ووجدت كرامتها في أخوة لها مؤمنين وأخوات مؤمنات.
وأصبح بيت النبي ﷺ مأوى لها؛ ومستراحًا لنفسها، لقد نذرت نفسها لخدمة بیت الله ۵، وتنظيفه والعناية به.
ولعلها هي المرأة التي ورد ذكرها في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم.
عن أبي هريرة ﭬ: (أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد، ففقدها رسول الله ﷺ فسأل عنها بعد أيام فقيل له: إنها ماتت، فقال: أفلا آذنتموني –أي: أعلمتموني- فأتى قبرها فصلى عليها)، وعن أبي سعيد ﭬ قال: كانت سوداء تقم المسجد فتوفيت ليلًا، فلما أصبح رسول الله ﷺ أخبر بها، فقال: (ألا آذنتموني، فخرج بأصحابه فوقف على قبرها فكبّر عليها والناسُ خلفه ودعا لها ثم انصرف) رواه ابن ماجه وابن خزيمة.
أيها المسلمون:
إن خبر هذه المرأة الصحیح يستدعي منا أن نقف تجاهه وقفات سريعة:
أولا: هذه البلية التي ابتليت بها تلك المرأة تحولت في النهاية إلى نعمة عظيمة، فقد كانت سببًا لعودتها إلى صفاء الفطرة و نقاوتها، فقد فطر الله الناس على عقيدة التوحيد فهي الأصل.
لقد عاشت آلام الكرب، وذاقت مرارة الظلم؛ فلم تجد من تشكو إليه مأساتها سوى خالقها، فهو الذي يجيب المضطر، وهو الذي يجيب دعوة المظلوم، ولو كان غير مسلم ! إنها امرأة وحيدة فلا قريب لها تتقرب إليه، ولا قوي لها تتقوى به، وعرفت مستيقنه أن آلهة قومها وأصنامهم، التي يدعونها لن تغني عنها شيئًا، ولن توصل إليها خيراً، ولن تدفع عنها شرًا، فلذلك توجهت إلى الله تشكو إليه ضرها وتنزل به حاجتها. فأجابها سبحانه، وكشف بلواها.
لقد رأت كيف كان فرج الله ۵ ظاهرًا للجميع الكل رأه وعلمه؛ ولذا هاجرت إلى حيث لا يعبد إلا الله وحده، بعدما علمت أنه لا يكشف الضر إلا الله وحده.
ثانيًا: لما وصلت هذه المرأة إلى المدينة وسكنت، مسجد رسول الله ﷺ لم تجعل نفسها عبئًا على المسلمين، ولكنها بحثت عن دور تقوم به، وعمل تشارك فيه، وكانت خلفيتها المهنية تؤهلها للدور الذي اختارته، ألا وهو خدمة مسجده ﷺ فتعاهدت نظافته، وبذلك أصبح لها دور إيجابي في حياة المسلمين، يحس ويشعر به الذين يفدون إلى مسجده - صلوات الله وسلامه عليه - ويروحون، حيث يجدون فيه من النظافة والعناية والاهتمام ما يليق بمكانته وشرفه.
ثالثًا: لقد كانت مساحةُ اهتمام النبي ﷺ بالناس واسعةً تسعهم كلّهم، بحيث إن ضعفاءهم ومن لا يُؤْبه به يجد مكانه ومكانته في نفس النبي الكريم ﷺ اهتمامًا و رعايةً ورحمة.
فها هو ﷺ يتفقد تلك المرأة حين فقدها، ويسأل عنها عند غيابها، فلما أخبر بموتها عتب على أصحابه، أنهم لم يعلموه بموتها، ثم ها هو يذهب إلى قبرها، فيصلي عليها، ويدعو الله لها.
وهكذا وجد ﷺ مساحة من الوقت ليتعاهد امرأة ضعيفة ماتت وانتهى دورها في هذه الحياة، فلا يرجى منها شيء، وهي امرأة غريبة فلا أقارب يُتقرب إليهم بذكرها.
ولكنه خلق النبي المصطفى ﷺ الذي وسعها في حياتها، ثم بعد مماتها، فرضي الله عن خادمةِ مسجد رسول الله ﷺ وأرضاها، وصلوات الله وسلامه وبركاته على معلم الناس الخير، الذي بُعث من أجل أن يتمم مکارم الأخلاق. هكذا شأن العظماء تتسع أخلاقهم للناس، ويقومون بخدمة الضعفاء، والعاجزين، ولا يجدون حرجًا في ذلك
رابعًا: كان من دعاء الخليفة الراشد عمر بن الخطاب ﭬ: (اللهم رضّني بقضائك، وبارك لي في قدرك حتى لا أحب تعجيل ما أخّرت، ولا تأخیر ما عجلت) لقد تذوقت هذه المرأة نعيم الهداية بعد الضلال، وعزّ الكرامة بعد الإذلال، ووجدت نفسها معززة مكرمة بعد أن كانت عرضة للتهم، ومقالة السوء.
وَجَدَت أنها تعيش بين المسلمين في المدينة موفورة الكرامة، محفوظة الحقوق. تحس بأخوة الإيمان بين المؤمنين.
وذروةُ هذا الإحساس يتضح حين وجدت نفسها قريبة جدًا من بیت، هو أشرف البيوت وأكرمها ألا وهو بيت رسول الله ﷺ، تتحدث فيه، وتُحدثُ وتستأنس فيه، وتؤانس فيه، فلا عجب أن تسترعي انتباهها المقارنة بين الحالتين، فتتذكر ذلك دائمًا معترفة بفضل الله العظيم، وبعطائه الجزيل.
يقول الله - تعالى -: يقول الله - تعالى -: ﴿ وَمَا بِكُم مِّن نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ﴾ [النحل: ٥٣ ]. ويقول تعالى: ﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾[يونس: ٥٨ ] ..
خامسًا: من قصة هذه المرأة يستفيد المسلم، أن عاقبة الظلم وخيمة، فعلى كل مسلم أن يتفقد نفسه، فلا يظلم الناس بلسانه، ولا بيده يقول ﷺ: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) رواه البخاري، وإن كان قد وقع منه ظلم على أحد فليتحلله منه ما دام في عمره فسحة، يقول ﷺ:
(من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرض أو شيء فليتحلله منه اليوم، من قبل أن لا يكون دينار ولادرهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه) رواه البخاري.
وعن سلمانَ الفارسي ﭬ، وستة من أصحاب النبي ﷺ ﭫ أنهم قالوا: (إن الرجل لترفعُ له يوم القيامة صحيفته، حتى يرى أنه ناج فما تزال مظالم بني آدم تتبعه حتى ما يبقى له حسنة، ويُحمل عليه من سيئاتهم) رواه البيهقي. فأشفقوا على أنفسكم - رحمكم الله - وأنقذوها من النار، فإنكم لن تنجوا منها إلا برحمة الله، ثم بما تقدمونه في هذه الدنيا من عمل صالح، يقول النبي ﷺ لابنته وريحانة فؤاده فاطمة ڤ: (يافاطمة بنت محمد، سليني ما شئت من مالي لا أغني عنك من الله شيئًا) رواه البخاري ومسلم، وفي رواية: (يافاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لك من الله شيئًا) رواه البخاري في الأدب المفرد.
***
المرفقات
1724883035_ويوم الوشاح من أعاجيب ربنا.docx