يوم النصر .

الخطبة الأولى يوم النصر

الحمد لله الذي أنعمَ علينا بنعمٍ نتقلَّبُ فيها ليلَ نهارٍ، أحمدُه سبحانه  وأشكرُه على فضلِه وخيرِه المِدرارَ، وأشهدُ أن لا إله إلا اللـهُ وحدَه لا شريك له العزيزُ الجبَّارُ، القويُّ القهَّار، وأشهدُ أن سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه e وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين .

أما بعد: فأوصِيكم ونفسي بتقوى الله...

عباد الله: في قصصِ الأنبياءِ عِبرةٌ وعِظةٌ، هي زادٌ في الطريقِ، وتُثبِّتُ المُؤمنينَ

( وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ) وقِصةُ موسى عليه السلامُ أطولُ قَصصِ القرآنِ، وتتميَّزُ بتنوُّعِ مشاهِدها، وكثرةِ عرضِها. 

 وُلِد موسى عليه السلامُ والرُّعبُ يملأُ الأجواءَ، والأمةُ مُستضعفةٌ مُشتَّتةٌ، يسومُهم فرعونُ سُوءَ العذابِ؛ يُذبِّحُ أبناءَهم، ويستحيِي نساءَهم، ويقتلُ كلَّ مولودٍ ذكَرٍ، حِفاظًا على سُلطانه؛ فأذلَّ أمَّتَه، وقهرَ قومَه؛ ليبقَى حُكمُه، ويدومَ عرشُه، ويبنِيَ مُلكَه على جماجِمِ الأطفالِ

 

( إنَّ فرعونَ علا في الأرضِ وجعلَ أهلها شيعاً يستضعفُ طائفةً منهم يُذبحُ أبناءَهم ويستحي نساءَهم إنَّه كان من المفسدين ) .

وهناك تملَّـكُكَ الدهشةُ، ويحتضِنُكَ العجَبَ، الأمُّ خائفةٌ، وتخشى أن يصِلَ نبؤُه إلى فرعونَ وقومِه فيقتلوه، ويُلهِمُها اللـهُ أن تُلقِيَه في اليمِّ، اليمُّ بأمرِ اللـهِ غدا ملجأً آمنًا، احتضنَ الطفلَ الرَّضِيعَ، وحماه من كلِّ سُوءٍ ( وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الـْمُرْسَلِينَ ).

وتتوالَى الأحداثُ العجيبةُ؛ لتُبرِزَ للمؤمنِ ضآلةَ مكرِ الطغيانِ، وحقارةَ كيدِه مهما صالَ وجالَ، أمامَ قُدرةِ اللـهِ وعظمتِه؛ يقتلُ فرعونُ أطفالَ بني إسرائيلَ حتى لا يرى موسى نورَ الحياةِ، وتسوقُ الأمواجُ موسى الرَّضيعَ حتى تسكُنَ به أمامَ قصرِ فرعون، ويقذِفُ اللـهُ محبَّـتَه في قلبِ امرأةِ فرعونَ (لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ). ويُسخِّرُ اللـهُ فرعونَ؛ ليتربَّى موسى على فراشِه ومائدتِه، وهل يجرُؤُ -عبادَ اللـهِ-مخلوقٌ أن يمسَّ بسُوءٍ من أرادَ اللـهُ له السلامةَ والنجاةَ ؟!

 

 جاؤوا لموسى بالمراضِع، فعافَهنَّ( فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَـرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّـهِ حَقّ ).

 هذا وعدُ الله، ووعدُ اللـهِ لا يتخلَّف، ويبقَى -إخوةَ الإيمانِ- أن نزرعَ اليقينَ في نُفوسِنا بأنَّ من تعلَّقَ باللـهِ، وتوكَّلَ عليه مع الأخذِ بالأسبابِ فإنَّه لا ييأسُ من رَوْحِ اللـهِ، ولا يخنَعُ لوساوسِ الوهَن، ولا يتشاءَمُ مع الأحداثِ؛ بل تزيدُه الشدائدُ قوَّةً وعزيمةً وأملاً  ( ألا إنَّ نصر اللـهِ قريب)

عباد الله: أمرَ اللـهُ موسى أن يذهبَ إلى فرعونَ (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى) ،

 وهي مَهمةٌ شاقَّةٌ، فقد ادَّعى فرعونُ الألوهيَّة، وبلغَ الغايةَ في البغي والغُرور.

وهنا يُسجِّلُ نبيُّ اللـهِ موسى عليه السلامُ درسًا منهجيًّا وهو: أنه بدأ المهمةَ بتجرُّده من حولِه، والانخِلاعِ من قوَّتِه، والاطِّراحِ بين يدَي اللـهِ، مُسبِّحًا ربَّه كثيرًا، ذاكرًا اللـهَ كثيرًا (قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي  وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي  هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا  وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا ).

 

وهكذا ينبغي للمسلمِ أن ينطرحَ بين يدي اللـهِ في كلِّ حينٍ ووقتٍ وحاجةٍ (ربِّ إنِّي لما أنزلتَ إليَّ من خيرٍ فقيرٍ ) .

أمرَ اللـهُ موسى وهارونَ  (اذهبا إلى فرعونَ إنه طغى فقولا له قولا ليناً لعله يتذكرُ أو يخشى ). فَقُولَا لَـهُ قَوْلًا لَيِّنًا وصيةُ اللـهِ لموسى؛ فالقولُ الليِّنُ، وبيانُ الحقِّ، ومُقارعةُ الحُجَّةِ بالحُجَّة، والـحوارُ الهادئ أدبُ الدِّينِ وهديُ المُرسَلين.

 أما القولُ الفظُّ الغليظُ، والسِّبابُ والتقريعُ، والصُّراخُ والتجريحُ فإنه يُنفِّرُ من الدينِ، ويُشوِّهُ حقائقَه وسماحتَه، كما أن اللِّينَ لا يعني تمييعَ أحكامِ الدين ولَيَّ عنقِ أصولِه، وتذويبَ حقائقِه ومنهجه بحُجَّةِ إرضاءِ الآخرينَ وكسبِهم.

قال قتادة: ( يا ربِّ ! إن كان هذا حلمُك برجلٍ قال ( مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي)؛ فكيف سيكونُ حِلمُك بعبدٍ سجَدَ لك وقال: سبحانَ ربي الأعلى).

عباد الله: فرعونُ يُحذِّرُ من موسى، ويجمعُ السَّحَرةَ في مناظرةٍ علنيَّةٍ لإسقاطِ موسى أمامَ الرأيِ العامِ ، توطِئةً لإقصائِه وقتلِه ( فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى )

حضرَ السَّحرةُ ميدانَ المُناظرةِ، مُتآمرينَ على موسى، مُعتمِدينَ على عزَّةِ فرعون،

وفي هذا الحشدِ المَهيبِ يُوصِي ربُّ موسى موسَى            

 ( لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى ) لا تخَف؛ لأنك الأعلى الأعزُّ الأكرَم، الأعلى منهجًا، والأكرمُ خُلُقًا، والأعزُّ عقيدةً. وهذه رسالةٌ لبعضِ بني جِلدتِنا ممن تسرَّبَت إلى نفوسِهم الهزيمةُ النفسيةُ، وتزعزَعَت مفاهيمُهم، وتخلخَلَت مواقِفُهم حين رأَوا انتِفاشةَ الباطلِ وزُهُوَّ الضلالِ ( واللـهُ غالبُ على أمره ولكنَّ أكثرَ الناس لا يعلمون ) .

ويُريدُ فرعونُ أمرًا، ويُريدُ اللـهُ أمرًا، ويظهرُ أمرُ اللـهِ، اجتمع السَّحَرةُ فرأوا آياتِ اللـهِ ومُعجِزاتِه الخالِدة، فجاءت المُفاجأةُ الكُبرى (وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ  رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ ).

تمكَّن الإيمانُ من قلوبِهم فأشرقَ فيها، وانتصرَت العقيدةُ في حياتِهم فعزَّت بها، حضرَ القومُ الميدانَ سحرةً، فتحوَّلوا في لحظاتٍ شُهداءَ بَرَرة، وها هُم يرفَعون أصواتَهم بالقوةِ والتحدِّي بعد تهديدِ فرعون (فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْـحَيَاةَ الدُّنْيَا )

لقد غدَا فرعونُ في نظرهم قَزَمًا؛ لأنه لا يملِكُ ضُرًّا ولا نفعًا، ولا يملِكُ موتًا ولا حياةً ولا نُشورًا، كان همُّهم الدنيا، فصارَ تطلُّعُهم مرضاةَ اللـهِ والآخرةَ، وأعلَنوا بقلوبٍ مُؤمنةٍ توبةً صادقةً، داعِينَ ربَّهم المغفرةَ والرِّضوانَ .

لقد حوَّلَ الإيمانُ الصادقُ السَّحرةَ إلى مؤمنين؛ بل دُعاةً إلى الدينِ، يدعُونَ الناسَ إلى الهُدى والنور( إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا  فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى  وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى ) وهذا ليس غريبًا؛ فالقلبُ حين يتذوَّقُ حلاوةَ الإيمانِ ولذَّتَه يتمنَّى أن يَطعمَ غيرُه هذه اللذَّةَ والحلاوةَ، وقد حوَى تأَريخُنا قصصَ أممٍ وأفرادٍ كانوا يُحارِبون الإسلامَ، فجعلَهم الإيمانُ قِممًا في الدينِ، وأُسُودًا تُدافِعُ عن حِياضِه، وترعَى مصالِـحَه.

 وسجَّلَ واقِعُنا المُعاصِرُ نماذجَ تُحتذَى لأقوامٍ كانوا أئمةَ ضلالٍ في ترويجِ المُخدِّراتِ والمحرماتِ، ونهبِ الأموالِ، وانحِرافِ الأفكارِ، فحوَّلَهم الإيمانُ أئمةَ هُدًى ونماذِجَ تُقًى .  

إخوة الإيمان: لما وصلَ الاستِكبارُ غايتَه اقتربَت لحظاتُ النصرِ؛ ففي اليومِ العاشِرِ من شهر اللـهِ المُحرَّمِ أنجَى اللـهُ موسى ومن معه، وأغرقَ فرعونَ وملأَه، ولما رأى فرعونُ الهلاكَ وأدركَه الغرقُ ( قال آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الـْمُسْلِمِينَ ) وهيهَاتَ هيهاتَ (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْـمُفْسِدِينَ )،

ويأتي الحُكمُ من الله ( فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ) آيةً للطُّغاةِ والمُفسِدينَ ولمن أرادَ أن يعتبر(وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ).     

ألا فاتقوا اللـهَ عبادَ اللـهِ، واعتبروا بمصارعِ الغابرينَ، وحسنِ عواقبِ الصالحينَ، فإن اللـهَ قصَّ عليكم هذه القصصَ لعلَّكم تتفكرون، وعن الشرِّ تنزِعُون، وعلى الطاعةِ تُقبلون (فاقْصُص القصصَ لعلهـم يتفكرون)

بارك الله لي ولكم ...

 

 

الخطبة الثانية

الحمد لله..      أما بعد:

 أيها المؤمنون: إن هذه أمتُكم أمةً واحدةً، فما ذكرَه اللـهُ من نصرِ رسلِه السابقينَ، وأوليائِه الصالحينَ، هو نصرٌ لأهلِ الإسلامِ، في كلِّ زمانٍ ومكانٍ؛ ولهذا فإن النبيَّ  e صامَ اليومَ العاشرَ من محرمٍ؛ شكراً للـهِ تعالى أن نصرَ موسى على فرعونَ ، وفي الحديث إن النبيَّ e لما قدمَ إلى المدينةِ وجدَ اليهودَ يصومونَ هذا اليومَ، فسأَلهم عن سببِ صيامِهم؟ فقالوا: هَذَا يَوْمٌ عَظِيمٌ، وَهُوَ يَوْمٌ نَجَّى اللَّـهُ فِيهِ مُوسَى، وَأَغْرَقَ آلَ فِرْعَوْنَ، فَصَامَ مُوسَى شُكْرًا لِلَّـهِ، فَقَالَ «أَنَا أَوْلَى بِمُوسَى مِنْهُمْ» فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ) خ.م

 

فصوموه أيها المؤمنون؛ شكراً للـهِ ربِّ العالمين، واتباعاً لسنةِ محمدٍ e ، وقد سُئل e عن صيامِ عاشوراءَ؟ فقالَ: «يكفرُ السنةَ الماضيةَ» م

 ومن السُّنةِ أن يُصامَ معه التاسعُ ففي الحديث e:«فإن كان العامُ المقبلُ إن شاءَ اللـهُ صمنا اليومَ التاسعَ»، قَالَ فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْـمُقْبِلُ حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّـهِ e.م.

كما يُسنُ الاكثارُ من الصيام في هذا الشهرِ المحرمِ فعنه r : أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّـهِ الْـمُحَرَّمُ ، وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْلِ). م

ثم صلوا وسلموا ...

 

المرفقات

1720687158_يوم النصر ..pdf

1720687159_يوم النصر ..docx

المشاهدات 835 | التعليقات 0