يوم الفرقان يوم التقى الجمعان
صالح العويد
1433/09/14 - 2012/08/02 14:52PM
الحمد لله ذي القوَّةِ القادرَة والحِكمةِ الباهِرَة، لا ينفُذ إلا أمرُه، ولا يمضِي إلا قدَرُه، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ ختم الله تعالى به النبوة والرسالة، وأوجب على من أدركه من النبيين تصديقه واتباعه صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين أما بعد: فأوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله عز وجل، والثبات على الحق إلى الممات، فتلك وصية آبائكم من النبيين إليكم {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ
إخوة الإسلام، في زَمنِ الابتِلاءات والمحنِ وحِينَ تكثُرُ علَى الأمّةِ الفتنُ ويَتدَاعَى الأكلةُ على القَصعَةِ ويتَسرَّبُ اليأسُ إلى بَعضِ النّفوس تحلُو قراءةُ التّاريخ وتجلُو سُنَنُ الله في الكونِ عَبر قصصِ الأوَّلين وعِبَر السّالفين فإن من أجمل ذكريات الأمة المسلمة ما برحت تَشْرَئِبّ لمثل ذلك النصر على أعدائها، وما فتئت تعيش سعيدة، يحدوها الأمل بعز الإسلام، وإشراق نوره في الوبر والمدر ما بلغ الليل والنهار .
إخوة الإسلام ملحمة من ملاحم التاريخ ، وحادثة فرق الله بها بين الحق والباطل . تقابل ببدر صفان ؛ صف إسلام وصف كفر، صف إيمان وعقيدة وصف خذلان وجحود، صف أنصار الله ورسوله وصف أنصار العزى وهبل، أرعوإلي مسامعكم لأحدثكم عن هذه الملحمة
في جمادى الأولى من السنة الثانية للهجرة خرج رسول الله في مائتين من المهاجرين يعترضون عيرًا لقريش متجهة نحو الشام فبلغوا ذا العشيرة قرب ينبع, فوجدوا العير قد فاتتهم, فعادوا, ولما قرب رجوعها من الشام أرسل رسول الله طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد إلى الشمال لاستكشاف خبرها, فوصلا الحوراء حتى مرَّ بهم أبو سفيان بألف بعير موفرة بالأموال فأسرعا إلى المدينة وأخبرا رسول الله الخبر, فقال عليه الصلاة والسلام: ((هذه عير قريش فيها أموالكم, فاخرجوا إليها لعل الله أن ينفلكموها)) ولم يعزم على أحد بالخروج, فسار رسول الله بالجيش فيه ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً بفرسين وسبعين بعيرًا يتعاقبونها, وكان النبي وعليٌ ومرثد بن أبي مرثد يعتقبون بعيرًا واحدًا, فإذا كان عُقْبَة ـ يعني نوبة ـ رسول الله صلى الله عليه وسلم في المشي قالا: اركب يا رسول الله حتى نمشي عنك، فكان يقول: ((ما أنتما بأقوى على المشي مني، وما أنا بأغنى عن الأجر منكما)). ودفع لواء القيادة لمصعب بن عمير, وقسم الجيش إلى كتيبتين, كتيبة المهاجرين وأعطى علمها علي بن أبي طالب, وكتيبة الأنصار أعطى علمها سعد بن معاذ, وجعل على قيادة الميمنة الزبير بن العوام, وعلى الميسرة المقداد بن عمرو, وعلى الساقة قيس بن أبي صعصعة, وهو القائد الأعلى للجيش.
وبلغ أبا سفيان خروجُ المسلمين لملاقاة القافلة، فبعث رجلاً اسمه ضَمْضَم الغفاري إلى مكة يستصرخ قريشًا أن ينفروا لحماية تجارتهم، فتحفز الناس سراعًا وتجمع نحو ألف وثلاثمائة مقاتل, في مائة فرس وستمائة درع وجمال كثيرة لا يعرف عددها بقيادة أبي جهل بطرًا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله [الأنفال:47], وأقبلوا كما قال رسول الله : ((بحدهم وحديدهم يحادون الله, ويحادون رسوله وقد أفلت أبو سفيان بالعير فسار باتجاه الساحل, وأرسل رسالة إلى جيش قريش وهم في الجحفة: إنكم خرجتم لتحرزوا عيركم ورجالكم وأموالكم, وقد نجاها الله فارجعوا, فهم الجيش بالرجوع, عندها قام الطاغية الأشر أبو جهل, فقال: والله لا نرجع حتى نرد بدرًا, فنقيم بها ثلاثًا فننحر الجزور, ونطعم الطعام, ونسقي الخمر, وتعزف لنا القيان, وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا, فلا يزالون يهابوننا أبدًا, فرجعت بنو زهرة وكانوا حوالي ثلاثمائة رجل, فسار الجيش من ألف مقاتل حتى نزل قريبًا من بدر وراء كثيب بالعدوة القصوى.
ولما بلغ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم خبرُ خروج قريش كان لابد من موقف بطولي شجاع, يرد كيد أهل مكة في نحورهم ويكسر شوكتهم, واستشار النبي أصحابه, فقام أبو بكر فقال وأحسن, وقام عمر فقال وأحسن, ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله, امض لما أراك الله فنحن معك, والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون [المائدة:24] ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون, فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغمام لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه, فقال له رسول الله خيرًا ودعا له, وهؤلاء القادة الثلاثة كانوا من المهاجرين وهم قلة في الجيش.
فقال عليه السلام: ((أشيروا عليَّ أيها الناس)) وإنما يريد الأنصار, فقال سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله, قال: ((أجل)). فقال سعد: لعلك تخشى أن تكون الأنصار ترى حقًا عليها أن لا تنصرك إلا في ديارهم, وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم: فاظعن حيث شئت, وصل حبل من شئت, واقطع حبل من شئت, وخذ من أموالنا ما شئت, وأعطنا ما شئت, وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت, وما أمرت فيه من أمر فأمرنا تبع لأمرك, فوالله لئت سرت حتى تبلغ البرك من غمدان لنسيرن معك, ووالله لئن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك الله أكبر, إنه الحب الحقيقي, والولاء الحقيقي, فأشرق وجه الرسول بما سمع منهم ثم قال: ((سيروا وأبشروا؛ فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين, والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم)) وتحرك النبي بأصحابه فنزلوا قريبًا من بدر, واستكشف عليه السلام الأمر بنفسه، فعلم عدد القوم, ومن خرج من أشراف مكة فقال لأصحابه: ((هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها في هذه الأثناء بدأت أول بشائر النصر في أرض المعركة, أنزل الله المطر, فكان على المشركين وابلاً شديدًا منعهم من التحرك, وكان على المسلمين طلاً طهرهم الله به, وأذهب عنهم رجس الشيطان, ووطأ به الأرض, وصلب به الرمل, وثبت الأقدام, ومهد به المنزل, وربط به على قلوبهم. وتحرك النبي حتى نزل بدرًا فقال الحباب بن المنذر: يا رسول الله, أرأيت هذا المنزل, أمنزل أنزلك الله إياه, ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه, أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: ((بل هو الرأي والحرب والمكيدة)) قال: يا رسول الله, فإن هذا ليس بمنزل, فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء القوم فننزل ونغِّور ـ أي نخرب ـ ما وراءه من القَلب, ثم نبني عليه حوضًا, فنملأه ماء, ثم نقاتل القوم, فنشرب ولا يشربون, فقال رسول الله: ((لقد أشرت بالرأي)) فنهض عليه السلام بالجيش حتى أتى أقرب ماء من العدو فنزل عليه شطر الليل, واتخذ النبي له عريشًا على تل مرتفع في الشمال الشرقي لميدان القتال, ثم عبأ رسول الله جيشه, ومشى في موضع المعركة, وجعل يشير بيده الشريفة ((هذا مصرع فلان غدًا إن شاء الله, وهذا مصرع فلان غدًا إن شاء الله)) ثم بات عليه السلام يصلي إلى جذع شجرة, وبات المسلمون ليلهم بهدوء وسكينة, غمرت الثقة قلوبهم يأملون أن يروا بشائر نصر ربهم بأعينهم صباحًا, وأما جيش مكة المشرك فنزل صباحًا على وادي بدر, ودار عمير بن وهب الجمحي على جيش المسلمين ينظر عددهم فرجع إلى قومه وقال: ثلاثمائة رجل يزيدون قليلاً أو ينقصون, ولكني قد رأيت يا معشر قريش البلايا تحمل المنايا, نواضح يثرب تحمل الموت الناقع, قوم ليس معهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم فروا رأيكم
ولما خرج المشركون إليهم, وتراءى الجمعان قال رسول الله : ((اللهم هذه قريش قد أقبلت بخُيلائها وفخرها, تحادك وتكذب رسولك, اللهم فنصرك الذي وعدتني, اللهم فأحنهم إلي الغداة)) وأخذ النبي يعدل الصفوف بقدح في يده فضرب بطن سواد بن غزية وقال: ((استو يا سواد)) فقال سواد: يا رسول الله, أوجعتني, فأقدني, فكشف عن بطنه وقال: ((استقد)) فاعتنقه سواد, وقبّل بطنه, فقال: ((ما حملك على هذا يا سواد؟)) قال: يا رسول الله, قد حضر ما ترى, فأردت أن يكون آخر العهد بك، أن يمس جلدي جلدك, فدعا له رسول الله بخير
ثم أمرهم ألا يبدأوا القتال حتى يأمرهم, وكان أول وقود القتال أن خرج من جيش المشركين الأسود بن عبد الأسد المخزومي وقال: أعاهد الله لأشربن من حوضهم أو لأهدمنه, أو لأموتن دونه, فخرج إليه حمزة رضي الله عنه فضربه ضربة قطع بها نصف ساقه, ثم ثنى عليه بضربة أتت عليه. ثم خرج ثلاثة من فرسان قريش هم عتبة وشيبة ابنا ربيعة, والوليد بن عتبة, وطلبوا المبارزة فخرج إليهم عوف ومعوذ ابنا عفراء وعبد الله بن رواحة فما ارتضوهم ونادوا: يا محمد, أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا, فقال رسول الله : ((قم يا عبيدة بن الحارث, وقم يا حمزة، وقم يا علي)), فأما حمزة وعلي فلم يمهلا قرينيهما أن قتلاهما, واختلف عبيدة وعتبة حتى قطعت رجل عبيدة ، ثم حمل حمزة وعلي على عتبة فقتلاه واحتملا عبيدة معهم, ولم يلبث أن مات بعد ذلك بخمسة أيام رحمه الله ورضي عنه ولم يزل رسول الله بعد رجوعه من تعديل الصفوف يناشد ربه ويقول: ((اللهم أنجز لي ما وعدتني, اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك, اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد, اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم أبدًا وبالغ في الابتهال حتى سقط رداؤه عن منكبيه, فرده عليه الصديق وقال: حسبك مناشدتُك ربك يا رسول الله، أبشر، فوالذي نفسي بيده لينجزن الله ما وعدك, وأغفى النبي إغفاءة ثم رفع رأسه وقال: ((أبشر يا أبا بكر, أتاك نصر الله, هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده, على ثناياه النقع ثم خرج من باب العريش, وهو يثب في الدرع ويقول: ((سيهزم الجمع ويولون الدبر)) ثم أخذ حفنة من الحصباء فاستقبل بها قريشًا, وقال: ((شاهت الوجوه)) ورمى بها في وجوههم, فما من المشركين أحد إلا أصاب عينه ومنخريه وفمه من تلك القبضة, وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى [الأنفال 17].ثم بدأ القتال العام، وأمر عليه السلام بالهجوم وهو يقول: ((والذي نفسي بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرًا محتسبًا، مقبلاً غير مدبر إلا أدخله الله الجنة, قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض))فقال عُميْر بن الحُمَام: يا رسول الله، أجنة عرضها السماوات والأرض؟! قال: ((نعم))، قال: بخ بخ، فقال رسول الله : ((ما يحملك على قولك: بخ بخ؟)) قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال: ((فإنك من أهلها))، فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن، ثم قال: إن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، فما بيني وبين أن أدخل الجنة إلى أن يقتلني هؤلاء، فقذف التمرات من يده وأخذ سيفه فقاتل حتى قتل وهو يقول:
ركضًا إلى الله بغيـر زادِ إلا التُّقى وعَمَلُُ المَعَاِد
والصبرُ في الله على الجهاد وكلُّ زادٍ عُرضَةُ النفادِ
غيرُ التُّقى والبرِّ والرشادِ
واشتد القتال ، وحمي النزال ، وأزهقت النفوس ، وتطايرت الرؤوس ، وثبت الله المؤمنين ، وأمدهم بالملائكة منزَلين ومسوِّمين ومردِفين قال ابن عباس رضي الله عنه بينما رجل من المسلمين يشتد في إثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه, وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم, فنظر إلى المشرك أمامه! فخر مستلقياً، فنظر إليه، فإذا هو قد خطم أنفه وشق وجهه كضربة السوط فاخضر ذلك أجمع، فجاء الأنصاري فحدث بذلك رسول الله فقال: ((صدقت, ذاك مدد السماء الثالثة)) وفي تلك الغزوة ـ أيها المسلمون ـ، يأبى الشباب الطموح المتطلع إلى ما عند الله، يأبون إلا أن يصولوا صولتهم، ويجولوا جولتهم من بين صفوف المعركة، لتعلو بذلك كلمة الله من بين ظلال السيوف، ولهج السنابك، يقول عبد الرحمن بن عوف: (بينما أنا واقف في الصف يوم بدر، نظرت عن يميني وشمالي، فإذا أنا بين غلامين من الأنصار، حديثة أسنانهما فغمزني أحدهما فقال: يا عم، هل تعرف أبا جهل؟ قال: قلت نعم، وما حاجتك إليه يا ابن أخي؟ قال: أخبرت أنه يسب رسول الله ، والذي نفسي بيده، لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا، قال: فتعجبت لذلك، فغمزني الآخر، فقال مثلها، قال فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل فقلت: ألا تريان؟ هذا صاحبكما الذي تسألاني عنه. قال: فابتدراه، فضرباه بسيفهما حتى قتلاه) [رواه البخاري] الله أكبر! الله أكبر! ما أهونَ الخلق على الله أيها المسلمون! صنديد من صناديد قريش، وعظيم من عظمائها، يأبى الله إلا أن يكون حتفه على يد شابين يافعين ثم احتز رأسه ابن مسعود وجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فكبر وحمد الله وقال: هذا فرعون هذه الأمة وانجلت المعركة عن نصر عظيم للمسلمين ، وانهزمت جموع الكفار وولت الدبر ، مصداقاً لقول الله: (سيهزم الجمع ويولون الدبر) وقُتِل منهم سبعون ، معظمهم من صناديدِهم وأشرافِهم، وعلى رأسهم أبو جهل، وأُسِر منهم سبعون ، وفر الباقون يجرون أذيال الهزيمة إلى مكة ، واستشهد من المسلمين أربعة عشر رجلا رضي الله عنهم. ولقد سَمَّى اللهُ تباركَ وتعالَى هذه الغزوةَ بيومِ الفرقانِ، قالَ تعالَى:﴿ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ يَوْمٌ فَرَّقَ اللهُ بهِ بينَ الحقِّ والباطلِ، بينَ العدالةِ والظلمِ، بينَ الحريةِ والقهرِ،أعوذبالله من الشيطان الرجيم وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون يَسْتَغْفِرُونَ بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من البينات والحكمة.أقولُ ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه كان للأوَّابين غفورًا
إخوة الإسلام، في زَمنِ الابتِلاءات والمحنِ وحِينَ تكثُرُ علَى الأمّةِ الفتنُ ويَتدَاعَى الأكلةُ على القَصعَةِ ويتَسرَّبُ اليأسُ إلى بَعضِ النّفوس تحلُو قراءةُ التّاريخ وتجلُو سُنَنُ الله في الكونِ عَبر قصصِ الأوَّلين وعِبَر السّالفين فإن من أجمل ذكريات الأمة المسلمة ما برحت تَشْرَئِبّ لمثل ذلك النصر على أعدائها، وما فتئت تعيش سعيدة، يحدوها الأمل بعز الإسلام، وإشراق نوره في الوبر والمدر ما بلغ الليل والنهار .
إخوة الإسلام ملحمة من ملاحم التاريخ ، وحادثة فرق الله بها بين الحق والباطل . تقابل ببدر صفان ؛ صف إسلام وصف كفر، صف إيمان وعقيدة وصف خذلان وجحود، صف أنصار الله ورسوله وصف أنصار العزى وهبل، أرعوإلي مسامعكم لأحدثكم عن هذه الملحمة
في جمادى الأولى من السنة الثانية للهجرة خرج رسول الله في مائتين من المهاجرين يعترضون عيرًا لقريش متجهة نحو الشام فبلغوا ذا العشيرة قرب ينبع, فوجدوا العير قد فاتتهم, فعادوا, ولما قرب رجوعها من الشام أرسل رسول الله طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد إلى الشمال لاستكشاف خبرها, فوصلا الحوراء حتى مرَّ بهم أبو سفيان بألف بعير موفرة بالأموال فأسرعا إلى المدينة وأخبرا رسول الله الخبر, فقال عليه الصلاة والسلام: ((هذه عير قريش فيها أموالكم, فاخرجوا إليها لعل الله أن ينفلكموها)) ولم يعزم على أحد بالخروج, فسار رسول الله بالجيش فيه ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً بفرسين وسبعين بعيرًا يتعاقبونها, وكان النبي وعليٌ ومرثد بن أبي مرثد يعتقبون بعيرًا واحدًا, فإذا كان عُقْبَة ـ يعني نوبة ـ رسول الله صلى الله عليه وسلم في المشي قالا: اركب يا رسول الله حتى نمشي عنك، فكان يقول: ((ما أنتما بأقوى على المشي مني، وما أنا بأغنى عن الأجر منكما)). ودفع لواء القيادة لمصعب بن عمير, وقسم الجيش إلى كتيبتين, كتيبة المهاجرين وأعطى علمها علي بن أبي طالب, وكتيبة الأنصار أعطى علمها سعد بن معاذ, وجعل على قيادة الميمنة الزبير بن العوام, وعلى الميسرة المقداد بن عمرو, وعلى الساقة قيس بن أبي صعصعة, وهو القائد الأعلى للجيش.
وبلغ أبا سفيان خروجُ المسلمين لملاقاة القافلة، فبعث رجلاً اسمه ضَمْضَم الغفاري إلى مكة يستصرخ قريشًا أن ينفروا لحماية تجارتهم، فتحفز الناس سراعًا وتجمع نحو ألف وثلاثمائة مقاتل, في مائة فرس وستمائة درع وجمال كثيرة لا يعرف عددها بقيادة أبي جهل بطرًا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله [الأنفال:47], وأقبلوا كما قال رسول الله : ((بحدهم وحديدهم يحادون الله, ويحادون رسوله وقد أفلت أبو سفيان بالعير فسار باتجاه الساحل, وأرسل رسالة إلى جيش قريش وهم في الجحفة: إنكم خرجتم لتحرزوا عيركم ورجالكم وأموالكم, وقد نجاها الله فارجعوا, فهم الجيش بالرجوع, عندها قام الطاغية الأشر أبو جهل, فقال: والله لا نرجع حتى نرد بدرًا, فنقيم بها ثلاثًا فننحر الجزور, ونطعم الطعام, ونسقي الخمر, وتعزف لنا القيان, وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا, فلا يزالون يهابوننا أبدًا, فرجعت بنو زهرة وكانوا حوالي ثلاثمائة رجل, فسار الجيش من ألف مقاتل حتى نزل قريبًا من بدر وراء كثيب بالعدوة القصوى.
ولما بلغ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم خبرُ خروج قريش كان لابد من موقف بطولي شجاع, يرد كيد أهل مكة في نحورهم ويكسر شوكتهم, واستشار النبي أصحابه, فقام أبو بكر فقال وأحسن, وقام عمر فقال وأحسن, ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله, امض لما أراك الله فنحن معك, والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون [المائدة:24] ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون, فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغمام لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه, فقال له رسول الله خيرًا ودعا له, وهؤلاء القادة الثلاثة كانوا من المهاجرين وهم قلة في الجيش.
فقال عليه السلام: ((أشيروا عليَّ أيها الناس)) وإنما يريد الأنصار, فقال سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله, قال: ((أجل)). فقال سعد: لعلك تخشى أن تكون الأنصار ترى حقًا عليها أن لا تنصرك إلا في ديارهم, وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم: فاظعن حيث شئت, وصل حبل من شئت, واقطع حبل من شئت, وخذ من أموالنا ما شئت, وأعطنا ما شئت, وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت, وما أمرت فيه من أمر فأمرنا تبع لأمرك, فوالله لئت سرت حتى تبلغ البرك من غمدان لنسيرن معك, ووالله لئن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك الله أكبر, إنه الحب الحقيقي, والولاء الحقيقي, فأشرق وجه الرسول بما سمع منهم ثم قال: ((سيروا وأبشروا؛ فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين, والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم)) وتحرك النبي بأصحابه فنزلوا قريبًا من بدر, واستكشف عليه السلام الأمر بنفسه، فعلم عدد القوم, ومن خرج من أشراف مكة فقال لأصحابه: ((هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها في هذه الأثناء بدأت أول بشائر النصر في أرض المعركة, أنزل الله المطر, فكان على المشركين وابلاً شديدًا منعهم من التحرك, وكان على المسلمين طلاً طهرهم الله به, وأذهب عنهم رجس الشيطان, ووطأ به الأرض, وصلب به الرمل, وثبت الأقدام, ومهد به المنزل, وربط به على قلوبهم. وتحرك النبي حتى نزل بدرًا فقال الحباب بن المنذر: يا رسول الله, أرأيت هذا المنزل, أمنزل أنزلك الله إياه, ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه, أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: ((بل هو الرأي والحرب والمكيدة)) قال: يا رسول الله, فإن هذا ليس بمنزل, فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء القوم فننزل ونغِّور ـ أي نخرب ـ ما وراءه من القَلب, ثم نبني عليه حوضًا, فنملأه ماء, ثم نقاتل القوم, فنشرب ولا يشربون, فقال رسول الله: ((لقد أشرت بالرأي)) فنهض عليه السلام بالجيش حتى أتى أقرب ماء من العدو فنزل عليه شطر الليل, واتخذ النبي له عريشًا على تل مرتفع في الشمال الشرقي لميدان القتال, ثم عبأ رسول الله جيشه, ومشى في موضع المعركة, وجعل يشير بيده الشريفة ((هذا مصرع فلان غدًا إن شاء الله, وهذا مصرع فلان غدًا إن شاء الله)) ثم بات عليه السلام يصلي إلى جذع شجرة, وبات المسلمون ليلهم بهدوء وسكينة, غمرت الثقة قلوبهم يأملون أن يروا بشائر نصر ربهم بأعينهم صباحًا, وأما جيش مكة المشرك فنزل صباحًا على وادي بدر, ودار عمير بن وهب الجمحي على جيش المسلمين ينظر عددهم فرجع إلى قومه وقال: ثلاثمائة رجل يزيدون قليلاً أو ينقصون, ولكني قد رأيت يا معشر قريش البلايا تحمل المنايا, نواضح يثرب تحمل الموت الناقع, قوم ليس معهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم فروا رأيكم
ولما خرج المشركون إليهم, وتراءى الجمعان قال رسول الله : ((اللهم هذه قريش قد أقبلت بخُيلائها وفخرها, تحادك وتكذب رسولك, اللهم فنصرك الذي وعدتني, اللهم فأحنهم إلي الغداة)) وأخذ النبي يعدل الصفوف بقدح في يده فضرب بطن سواد بن غزية وقال: ((استو يا سواد)) فقال سواد: يا رسول الله, أوجعتني, فأقدني, فكشف عن بطنه وقال: ((استقد)) فاعتنقه سواد, وقبّل بطنه, فقال: ((ما حملك على هذا يا سواد؟)) قال: يا رسول الله, قد حضر ما ترى, فأردت أن يكون آخر العهد بك، أن يمس جلدي جلدك, فدعا له رسول الله بخير
ثم أمرهم ألا يبدأوا القتال حتى يأمرهم, وكان أول وقود القتال أن خرج من جيش المشركين الأسود بن عبد الأسد المخزومي وقال: أعاهد الله لأشربن من حوضهم أو لأهدمنه, أو لأموتن دونه, فخرج إليه حمزة رضي الله عنه فضربه ضربة قطع بها نصف ساقه, ثم ثنى عليه بضربة أتت عليه. ثم خرج ثلاثة من فرسان قريش هم عتبة وشيبة ابنا ربيعة, والوليد بن عتبة, وطلبوا المبارزة فخرج إليهم عوف ومعوذ ابنا عفراء وعبد الله بن رواحة فما ارتضوهم ونادوا: يا محمد, أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا, فقال رسول الله : ((قم يا عبيدة بن الحارث, وقم يا حمزة، وقم يا علي)), فأما حمزة وعلي فلم يمهلا قرينيهما أن قتلاهما, واختلف عبيدة وعتبة حتى قطعت رجل عبيدة ، ثم حمل حمزة وعلي على عتبة فقتلاه واحتملا عبيدة معهم, ولم يلبث أن مات بعد ذلك بخمسة أيام رحمه الله ورضي عنه ولم يزل رسول الله بعد رجوعه من تعديل الصفوف يناشد ربه ويقول: ((اللهم أنجز لي ما وعدتني, اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك, اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد, اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم أبدًا وبالغ في الابتهال حتى سقط رداؤه عن منكبيه, فرده عليه الصديق وقال: حسبك مناشدتُك ربك يا رسول الله، أبشر، فوالذي نفسي بيده لينجزن الله ما وعدك, وأغفى النبي إغفاءة ثم رفع رأسه وقال: ((أبشر يا أبا بكر, أتاك نصر الله, هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده, على ثناياه النقع ثم خرج من باب العريش, وهو يثب في الدرع ويقول: ((سيهزم الجمع ويولون الدبر)) ثم أخذ حفنة من الحصباء فاستقبل بها قريشًا, وقال: ((شاهت الوجوه)) ورمى بها في وجوههم, فما من المشركين أحد إلا أصاب عينه ومنخريه وفمه من تلك القبضة, وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى [الأنفال 17].ثم بدأ القتال العام، وأمر عليه السلام بالهجوم وهو يقول: ((والذي نفسي بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرًا محتسبًا، مقبلاً غير مدبر إلا أدخله الله الجنة, قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض))فقال عُميْر بن الحُمَام: يا رسول الله، أجنة عرضها السماوات والأرض؟! قال: ((نعم))، قال: بخ بخ، فقال رسول الله : ((ما يحملك على قولك: بخ بخ؟)) قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال: ((فإنك من أهلها))، فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن، ثم قال: إن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، فما بيني وبين أن أدخل الجنة إلى أن يقتلني هؤلاء، فقذف التمرات من يده وأخذ سيفه فقاتل حتى قتل وهو يقول:
ركضًا إلى الله بغيـر زادِ إلا التُّقى وعَمَلُُ المَعَاِد
والصبرُ في الله على الجهاد وكلُّ زادٍ عُرضَةُ النفادِ
غيرُ التُّقى والبرِّ والرشادِ
واشتد القتال ، وحمي النزال ، وأزهقت النفوس ، وتطايرت الرؤوس ، وثبت الله المؤمنين ، وأمدهم بالملائكة منزَلين ومسوِّمين ومردِفين قال ابن عباس رضي الله عنه بينما رجل من المسلمين يشتد في إثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه, وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم, فنظر إلى المشرك أمامه! فخر مستلقياً، فنظر إليه، فإذا هو قد خطم أنفه وشق وجهه كضربة السوط فاخضر ذلك أجمع، فجاء الأنصاري فحدث بذلك رسول الله فقال: ((صدقت, ذاك مدد السماء الثالثة)) وفي تلك الغزوة ـ أيها المسلمون ـ، يأبى الشباب الطموح المتطلع إلى ما عند الله، يأبون إلا أن يصولوا صولتهم، ويجولوا جولتهم من بين صفوف المعركة، لتعلو بذلك كلمة الله من بين ظلال السيوف، ولهج السنابك، يقول عبد الرحمن بن عوف: (بينما أنا واقف في الصف يوم بدر، نظرت عن يميني وشمالي، فإذا أنا بين غلامين من الأنصار، حديثة أسنانهما فغمزني أحدهما فقال: يا عم، هل تعرف أبا جهل؟ قال: قلت نعم، وما حاجتك إليه يا ابن أخي؟ قال: أخبرت أنه يسب رسول الله ، والذي نفسي بيده، لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا، قال: فتعجبت لذلك، فغمزني الآخر، فقال مثلها، قال فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل فقلت: ألا تريان؟ هذا صاحبكما الذي تسألاني عنه. قال: فابتدراه، فضرباه بسيفهما حتى قتلاه) [رواه البخاري] الله أكبر! الله أكبر! ما أهونَ الخلق على الله أيها المسلمون! صنديد من صناديد قريش، وعظيم من عظمائها، يأبى الله إلا أن يكون حتفه على يد شابين يافعين ثم احتز رأسه ابن مسعود وجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فكبر وحمد الله وقال: هذا فرعون هذه الأمة وانجلت المعركة عن نصر عظيم للمسلمين ، وانهزمت جموع الكفار وولت الدبر ، مصداقاً لقول الله: (سيهزم الجمع ويولون الدبر) وقُتِل منهم سبعون ، معظمهم من صناديدِهم وأشرافِهم، وعلى رأسهم أبو جهل، وأُسِر منهم سبعون ، وفر الباقون يجرون أذيال الهزيمة إلى مكة ، واستشهد من المسلمين أربعة عشر رجلا رضي الله عنهم. ولقد سَمَّى اللهُ تباركَ وتعالَى هذه الغزوةَ بيومِ الفرقانِ، قالَ تعالَى:﴿ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ يَوْمٌ فَرَّقَ اللهُ بهِ بينَ الحقِّ والباطلِ، بينَ العدالةِ والظلمِ، بينَ الحريةِ والقهرِ،أعوذبالله من الشيطان الرجيم وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون يَسْتَغْفِرُونَ بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من البينات والحكمة.أقولُ ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه كان للأوَّابين غفورًا