يوم التأسيس

هلال الهاجري
1444/07/24 - 2023/02/15 07:07AM

إنَّ الحمدَ للهِ، نحمدُه ونستعينُه ونستغفِرُه، ونعوذُ باللهِ من شُرورِ أنفُسِنا ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)، أمَّا بَعدُ:

بِلادٌ غَريبةٌ، وأحوالٌ عَجيبةٌ، ترى فِيها من الأحوالِ، ما لا يَخطرُ عَلى البَالِ، اِشتَدَّتْ بِها غَربةُ الإسلامِ، وتَغشَّاها بَعدَ النُّورِ الظَّلامُ، فَهُناكَ قُبورٌ تَعبدُ مِن دونِ اللهِ وتُذبحُ لَها القَرابينُ، وهُناكَ أشجارٌ يَطوفُ حَولَها النَّاسُ دِاعينَ ومُستَغيثينَ، وهُناكَ القليلُ الذينَ يُقيمونَ شَعائرَ الإسلامِ مِنْ صلاةٍ وزَكاةٍ وصِيامٍ وحَجٍ.

بَل هَلْ تُصدِّقونَ أنَّ بَعضَ بَاديَةِ أَهلِ تِلكَ البِلادِ يَزعمونَ أَنَّ القُرآنَ لأهلِ الحَضَرِ، وأَنَّهم يَأنَفونَ من التَّحاكمِ إليهِ، ويُفضِّلونَ حُكمَ الطَّاغوتِ عَلى حُكمِ اللهِ تَعَالى، فَاصبَحوا عُصاةً قُساةً لَيسَ بَينَهم إلا الاختلافُ والفِتنُ، ولَيسَ عِندَهم إلا الشُّرورُ والمِحنُ، ويَقولُ الشَّاعرُ رَاشدُ الخَلاوي في قَصيدَتِه لمنيعٍ أميرِ الأحساءِ:

إنْ سِلْتْ عَن قَومي يَا مَنيعٌ فَلا تَسلْ ** أَشجاراً وأَحجاراً يَعبدونَ خَايبه

عُصاةٌ قُساةٌ مِنْ حَديدٍ قُلوبُهم *** فَلَو أَنَّهم مِنْ صُمِّ الأَحجارِ ذَايبه

تَخليتُ عَنهم يومَهُم غَارَ دِينُهم ** ومَنْ غَارَ عَنهُ الدِّينُ غَارَتْ مَشَاربه

يَتَقاتَلونَ في وَسَطِ البيوتِ والأسواقِ، والحَربُ بَينَهم قَائمةً عَلى قَدمٍ وسَاقٍ، وتَعذَّرتْ الأسفارُ فِيها مِنْ قَديمٍ وَحَديثٍ، والطَّيَّبُ فِيها مَغلوبٌ تَحتَ يَدِ الخَبيثِ، ويَصِفُ حَالَ تِلكَ البِلادِ المُؤرِخُ ابنُ بِشرٍ رَحِمَهُ اللهُ بِقولِه: (غَلَبَ فِيهَا الضَّلالُ والجَّهلُ والظُّلمُ، وفِتَنٌ كَقِطَعِ اللَّيلِ المُظلمِ، وقِتالٌ بَينَ أَهلِ كُلِّ بَلَدٍ عُدوَاناً وحَميةً جَاهليةً، وتَحالُفٌ وتَفَازعٌ وعَصبيَّةُ، وكُلُّ بَلدٍ فِيهَا رَئيسٌ فَأكثرَ لا يَزالُ يَقعُ بَينَهم الشًّرُّ، تَارةً يَتقَاتلونَ، وتَارةً يَتسَالمونَ، فَلا يُسَافرُ ذو الحَاجةِ فَرسَخَاً أَو مِيلاً، إلا كَانَ أَنْ يَرجِعَ مَسلوباً أَو قَتيلاً).

فَهَلْ عَلِمتُمْ مَا هي تِلكَ البِلادُ التي نَـتَحَدثُ عَنها؟، إنَّها الجَزيرةُ العَربيةُ قَبلَ دَعوةِ الشَّيخِ مُحمدِ بنِ عَبدِ الوَهابِ رحِمَهُ اللهُ وقبلَ قِيامِ دَولةِ السُّعوديةِ الأولى عَلى يَدِ مؤسسِها الإمامِ مُحمدٍ بنِ سُعودٍ رَحِمَهُ اللهُ.

وَحَيثُ أنَّهُ قَدْ جَرَتْ سُنَّةُ اللهِ تعالى التي لا تَجدُ لها تَبديلاً، ولا تَجدُ لها تَحويلاً، أن لا تَقومَ دولةٌ للإسلامِ إلا عندما يَجتمعُ العلمُ والقوَّةُ، فَلِذلكَ لَمَّا دَعا مُحمدٌ بنُ عَبدِ الوهابِ إلى تَوحيدِ اللهِ تعالى، وأنكرَ على النَّاسِ التعلَّقَ بالقُبورِ والأمواتِ والأصنامِ، وتصديقَ الكُهَّانِ والمنجِّمينَ، وعبادةَ الأشجارِ والأحجارِ، وأَعلنَ التَّمسكَ بسُنَّةِ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأَمرَ بالمعروفِ ونهى عن المنكرِ، كَانَ لا بُدَّ لَهُ مِن قُوةٍ تُناصرُ دَعوتَه، كَما كَانَ يَفعلُ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلمَ حَينَ كانَ يسيرُ في المواسمِ وبينَ القبائلِ، فَيقولُ: (من يؤويني؟، من يَنصرُني؟ حتى أُبلِّغَ رسالةَ ربي، وله الجنَّةُ)، حتى التقى بالأنصارِ، فقامَتْ بذلكَ دَولةُ الإسلامِ في المدينةِ، ونَالَ الأنصارُ شَرفَ الدُّنيا والآخرةِ.

وعِندَما التقى الأميرُ محمدٌ بنُ سعودٍ بالشَّيخِ مُحمَّدٍ بنِ عبدِ الوَهابِ رَحِمَهما اللهُ تعالى في الدرعيةِ في بيتِ أَحمدَ بنِ سُويلمٍ، سَلَّمَ عليه، ورَحَّبَ به، وأبدى غايةَ الإكرامِ والتَّبجيلِ، وأخبرَه أنه يمنعُه بما يمنعُ به نساءَه وأولادَه، وقالَ للشَّيخِ: (أبشرْ ببلادٍ خيرٌ من بلادِك، وأبشرْ بالعِزِّ والمَنَعةِ)، فقالَ الشَّيخُ: (وأنا أبشُّرُك بالعزِّ والتَّمكينِ؛ وهذه كلمةُ لا إلهَ إلا اللهُ، من تمسَّكَ بها وعَملَ بها ونصرَها؛ مَلَكَ بها البِلادَ والعِبادَ، وهي كلمةُ التَّوحيدِ، وأولُ ما دعتْ إليه الرُّسلُ من أولِهم إلى آخرِهم، وأنتَ ترى نجداً وأقطارَها أَطبقتْ على الشِّركِ والجَهلِ والفُرقةِ وقِتالِ بعضِهم لبعضٍ؛ فأرجو أن تكونَ إماماً يَجتمعُ عليه المسلمونَ وذريَّتَك من بَعدِك)، ومِن هُنا كَانتِ البِدايةُ.

أقولُ ما تسمعونَ، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم وللمُسلمينَ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، فاستغفروهُ إنَّه هو الغفورُ الرَّحيمُ.

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ الذي له مَا في السَّمواتِ والأرضِ، وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له العزيزُ الوَّهابُ، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه أفضلَ من تَابَ إلى اللهِ وأنابَ، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه والتابعينَ لهم بإحسانٍ إلى يومِ المآبِ وسلمَ تسليماً كثيراً، أما بَعدُ:

بِهَذا اللِّقاءِ التّاَريخيِّ قَامَتْ الدَّولةُ السُّعوديةُ تحتَ شِعارِ: (لا إلهَ إلا اللهُ، مُحمدٌ رَسولُ اللهِ)، تُطبِّقُ شَرعَ اللهِ، وتَقتفي سُنَّةَ رسولِه صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ، وتَأمرُ بالمَعروفِ وتنهى عن المُنكرِ، وتَنشرُ العقيدةَ الصَّحيحةَ، وتُحاربُ البِدعَ المُحدَثةَ، فتحقَّقَ وعدُ اللهِ: (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ).

ولقد شَرُفَتْ هذهِ الدَّولةُ بِخدمةِ الحرمينِ الشريفينِ، ولقد أَخَذَتْ على عاتِقِها الاهتمامَ بقضايا المُسلمينَ، فباركَ اللهُ لها في الأرزاقِ، وتَاقتْ إليها القلوبُ والأشواقُ، وفَرحَ كلُّ مُسلمٍ بِمنارِ التَّوحيدِ الخفَّاقِ.

وليسَ نَذكرُ هذا للتَّباهي والتَّفاخرِ، وإنما للتَّذكيرِ بنِعمةِ الوليِّ القَاهرِ، وأنَّ هذا المَقامَ هو مَقامُ تَكليفٍ لا تَشريفٍ، وأنَّ الحِفاظَ على هذا المِيراثِ ليسَ بالأمرِ الخَفيفِ، فهذهِ البلادُ هي قِبلةُ المُسلمينَ، وقد أعزَّنا اللهُ تَعالى بنُصرةِ الدِّينِ، وإذا ابتغينا العِزةَ في غَيرِه سَقَطنا مع السَّاقطينَ، فَحافظوا على مِيثاقِ تَأسيسِ الإمَامَينِ.  

اللَّهُمَّ اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيهِم مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، اللَّهُمَّ أَرِنَا الحَقَّ حقَّاً وَارْزُقْنَا اتِّبَاعَهُ، وَأَرِنَا البَاطِلَ بَاطِلاً وَارْزُقْنَا اجْتِنَابَهُ، اللَّهُمَّ حَبِّبْ إلَينَا الإيمَانَ وَزَيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا، وَكَرِّهِ إلَينَا الكُفْرَ وَالفُسُوقَ وَالعِصْيَانِ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ، اللهمَّ اجعل هذا البلدَ آمناً مطمئناً رخاءً وسائرَ بلادِ المسلمينَ، وأصلحْ اللهمَّ أئمتَنا وولاةَ أمورِنا، واجعل ولايتَنا فيمن خافَك واتقاك واتَّبعَ رضاكَ يا ربَّ العالمينَ، اللهمَّ وفقْ وليَ أمرِنا لهُداكَ، واجعلْ عملَه في رِضاكَ، وارزقْه بطانةً صالحةً تدلُّه على الخيرِ وتحثُه عليه يا سميعَ الدُّعاءِ، اللهمَّ احفظْ بلادَ الحرمينِ من كلِّ سوءٍ ومكروهٍ، واحفظْ اللهمَّ لها أمنَها وإيمانَها، وسِلمَها وإسلامَها، ورغدَ عيشِها وسِعةَ رزقِها وسائرَ بلادِ المُسلمينَ، برحمتِك يا أرحمَ الراحمينَ، اللهمَّ انصر عبادَك وجندَك في كلِّ مكانٍ يا ربَّ العالمينَ، ثبتْ اللهمَّ خُطوتَهم، ووحدّْ كلمتَهم، وسددْ رميتَهم، وقوِّ شوكتَهم، وأعلِ رايتَهم، وانصرْهم على عدوِّكَ وعدوِهم يا ربَّ العالمينَ.

المرفقات

1676434013_يوم التأسيس.docx

1676434020_يوم التأسيس.pdf

المشاهدات 3365 | التعليقات 0